تعتبر دراسة الأعلام المكانية، والبحث في دلالاتها
وسيلة من وسائل البحث في ثقافة مجتمع معين، ومصدرا آخر من مصادر التاريخ، فهي تسهم
في نفض الغبار عن قضايا
تاريخية جديدة، أو تصحيح مضامين تاريخية متداولة، أو إبراز
إشكاليات مستجدة (..). فإذا كان المؤرخ يدرس المجتمع في علاقته بالزمن من خلال ما خلفه
الإنسان من شواهد متعددة، سواء منها مادية أو غير مادية، فإن اسم المكان يعد شاهدا
آخر من هذه الشواهد، لأنه أطلق في زمن معين، على مكان معين، من قبل فرد أو جماعة
(1). وتعرف معاجم اللغة "الاسم" على إنه لفظ يطلق على أي شيء لتمييزه عن
غيره. وبموجب هذا التعريف يفترض أن يكون لكل كائن اسما أو رمزا أو لقبا أو رقما يعرف
به، ويتم التعامل معه من خلاله (..). ولا يمكن أن تسير الحياة إلا عندما يحمل أي شيء
اسما يميزه عن غيره (2)
.
ويستوقف اسم المدينة ساكنها وزائرها، ومن يسمع به
أحيانا. ويحرص البعض على معرفة معنى اسم مدينة ما طلبا للمعرفة واستكمالا لمعلوماته
عنها، أو من قبيل الفضول. وقد وردت بعض التفسيرات لمعاني بعض أسماء المدن في مصادر
قديمة كمعجم البلدان والروض المعطار في خبر الأقطار وغيرهما. ورغم ما يشوبها من خرافة
أحيانا، وعدم دقة المعلومات أحيانا أخرى وغير ذلك تبقى مرجعا يحسن مناقشتها وتحقيقها
قبل الأخذ بها. وقد عمدت مجلات عربية عريقة ومرموقة كمجلة العربي الكويتية والفيصل
السعودية إلى ذكر ما يتعلق بأسماء المدن العربية التي نشرت استطلاعات عنها وذلك بالرجوع
لمعاجم اللغة والمصادر التاريخية، وما يتناقله سكان المدينة من معلومات حولها أيضا.
وتكمن أهمية معرفة اسم المدينة في الدلالات التاريخية والجغرافية للاسم على حد سواء،
وما يشير إليه هذا الاسم من أحداث وشخصيات شكلت ورسمت تاريخ المكان والمنطقة بدرجة
ما (3).
ولأن خلف كل مدينة قصة مختلفة، فإن لكل مدينة اسم
يحمل معاني ودلالات قد تخفى عن الكثيرين. فهناك مدن لا خلاف على سبب تسميتها، وهناك
مدن تعرف خلافا حول تحديد سبب تسميتها. ومن ذلك مدينة آسفي المغربية الضاربة في أعماق
التاريخ، حيث إن التضارب التاريخي حول ظروف الاستيطان ومراحل تأسيس المدينة هو الغالب
أيضا على أصل التسمية، نظرا لعدم وجود نصوص صريحة ترفع عنها كل الالتباسات والفرضيات
التاريخية. فهذا المؤرخ البكري يشير بصريح العبارة إلى أن اسم مدينة آسفي مشتق من الكلمة
البربرية ( أسيف ) التي تعني مجرى مائي مؤقت، وفعلا لا يزال يخترق المدينة وادي يعرف
بوادي الشعبة ويصب فيها. وفي نفس السياق يورد أحمد التوفيق أن ( اسم أسيف وهو النهر
أو الوادي ينبغي حمله على أنه مشتق أداتي مزيد بحرف سين، في أوله مادة جدرها حرف فاء،
ومن الجدر يشتق فعل افني بمعنى صب، فكلمة آسفي في لغة مزاب تعني حوض الماء المصبوب
بواسطة الناعورة، ومنه كلمة انيفيف، وهو عندهم القمح، فأسيف على هذا الأساس آلة الصب
وإلى الجدر ينبغي إرجاع اسم مدينة آسفي الذي ينطق ( بفتح السين ) أو آسفي ( بسكون السين
). ولا غرابة في ذلك، فالموقع متميز بوجود خور مصب نهر سيال في الفصل المطير، حتى أنه
يتسبب أحيانا في أضرار وخسائر).
أما الفرضية الثانية في تسمية آسفي، فيمكن استنباطها
من قولة مؤرخ آسفي الفقيه الكانوني ( آسفي المصباح المضيئ مصمودية، ينطق بها أسافيو
بكسر الفاء، لا جمع لها، ومن مادتها أسفو، معناها المشعل الذي يجمع على أسافو، والغالب
على الظن أنه كان يوجد بمدينة آسفي في وقت ما مصباح (منار ) يضئ الشاطئ ). وفي هذا
الصدد لا بد من الإشارة إلى الأهمية التاريخية والحضارية التي تتميز بها مدينة آسفي
قبل الإسلام، وهي تشييد منارات على الشواطئ لهداية السفن أثناء عودتها ليلا، كما أن
الأهالي يشعلون الأضواء في تلك المنارات إعلاما بالهجوم واستعدادا له. هذه الفرضية
التاريخية أكدها الفقيه الكانوني ( آسفي لفظ بربري مأخوذ من قول البربر للضوء أسف بضم
الفاء، فحرف في باستعمال الكسر على أن بعض البربر ينطقون به مكسورا).
ويستنتج الأستاذ أحمد التوفيق في محاضرة له تحت
عنوان " معنى اسم آسفي" بالملتقى الفكري الأول لمدينة آسفي سنة 1988 أن
"الروايتين معا يأخذان بالمنحى اللغوي في إجلاء مدلول اسم آسفي، ورغم اختلاف الكلمتين
فقد كان في بنائهما ومدلولاتهما في واقع ماضي آسفي ما يبرر تداولهما على ألسنة الناس.
فربط اسم آسفي بأسفو يأتي من واقع لا اختلاف بشأنه، مفاده أن المدينة الموجودة منذ
أحقاب متطاولة كما ذكر ابن خلدون كانت مرفئا تجاريا مهما، وزاد أيضا من أهميتها أنه
لم يكن وراء هذا الثغر العامر مدينة جامعة ولا محلة مسورة. ولا شك أن هذا الميناء بأهميته
التجارية وبموقعه القصي المتطرف، استوجب من تجاره وعمارته اتخاذ إجراءات من الحيطة
والاحتراس، ومن ذلك نصب مشاعل ومنائر، أي أسفو بلغة بربره من المصامدة، فكانوا يرتبون
بالشواطئ حراسا، فإذا ظهرت قطعة في البحر يشغلون الأضواء في المنائر إعلاما بالهجوم
والاستعداد له، كما كانوا بهذه المشاعل يرشدون السفن ليلا إلى المرسى. وعليه فإن إقامة
المشاعل والمنائر كانت واقعا تاريخيا بمدينة آسفي يصح معها ربط أسفو باسم آسفي، وبالتالي
إضفاء نوع من المصداقية العلمية على تداول الرواية القائلة بهذا الطرح. ونفس الشيء
نصادفه عند ربط اسم آسفي بكلمة " أسيف " فله ما يبرره في الواقع التاريخي
لآسفي، ذلك أن تأسيس هذه المدينة كان بأسفل مجرى واد الشعبة القادم من الشرق، ثم إن
هذا الواد عرف بسيوله الجارفة المتعاقبة، إذ كان على مر العصور مصدر رعب وقلق السكان ".
ويربط الشريف الإدريسي في كتابه المشهور "
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " أصل تسمية مدينة آسفي بقصة ثمانية فتية سماهم
بالمغررين تجمع بينهم قرابة العمومة، خرجوا من ميناء اشبونة ( لشبونة) بالبرتغال لاكتشاف
مجاهل المحيط الأطلسي، وبعد أن واجهوا الكثير من أهوال البحر، وقعوا في أسر أمير إحدى
الجزر الذي طوح بهم معصوبي العين على ساحل مجهول، ولما علموا من بعض سكانه الذين فكوا
وثاقهم وتحلقوا حولهم مقدار المسافة البعيدة التي تفصلهم عن وطنهم وذويهم، صاح زعيمهم
وا أسفي، فسمي هذا المكان منذئذ باسم آسفي. يقول الإدريسي (أصل تسمية المدينة هذه بآسفي
يرجع إلى جماعة الفتية الذين غامروا بركوب بحر الظلمات بدافع الكشف والاستطلاع من مدينة
اشبونة خلال القرن الرابع الهجري حيث انتهى بهم المطاف إلى بلاد البربر جنوب مراكش،
فصاح رئيس البعثة وا أسفي، ومن ذلك أطلق على هذه المنطقة اسم آسفي). هذه القصة مذكورة
بنصها في نزهة المشتاق، كما يمكن الرجوع إليها في نشرة "دي خوي" أو في النشرة
الإيطالية (opus
géographicum ). وممن نقل القصة عن الإدريسي صاحب الروض
المعطار. وقد ظلت ذكرى الفتية المغررين محفوظة في ذاكرة لشبونة، يشهد عليها حي سمي
باسمهم.
الرواية العِبْرية طريفة وغير معروفة عند الكثيرين،
وإن كنا نعتبرها أبعد ما يكون في تفسير مدلول اسم آسفي، فإنها مع ذلك تحفل بالعديد
من الإشارات القوية الدالة على الوجود اليهودي الموغل في القدم بآسفي. ومؤداها أن آسفي
اسم نُحِث من كلمة عِبْرية ورد ذكرها مفصلا عند أرمان أنطونا في دراسته المشهورة عن
عبدة، كما ألمح إليها أحمد بوشرب في أطروحته عن الاستعمار البرتغالي بدكالة. هذه الرواية
تذكر أن اسم آسفي ينحدر من كلمة أسيف بكسر السين وفتح الفاء العبرية، وعند تحقيق العبارة
نجد أن فعل أسف ( بفتح السين والفاء) معناه جمع وحشد، و اسم أسف ( بفتح السين وكسر
الفاء ) ومعناه الجماعة والجمعية والاجتماع والمجلس. وحسب "شمعون ليفي" فإن
المقصود بالجماعة هي الطائفة اليهودية التي كانت تستوطن آسفي، ويزيد من قوة هذا الاعتقاد
ما جزم به أرمان أنطونا، حين أكد أن اليهود استوطنوا في الماضي السحيق المدينة، وأنهم
في الأصل برابر متهودين، وأن العقيدة اليهودية عمّرت بآسفي أكثر من أي مكان آخر بالمغرب،
وأن هذه المدينة احتفظت على الدوام بساكنة يهودية كانت في كل العصور كبيرة في العدد.
بل إن الباحث الآسفي تيمول يذهب إلى القول بأن آسفي ظلت زمنا طويلا " مدينة يهودية
" وأن تحويل معظم أهلها إلى الإسلام تطلب عدة قرون من الدعوة المستمرة. وتذهب
بعض القرائن إلى دعم خلاصات أنطونا وتيمول، ومنها أن بربر آسفي كانوا جزءا من كيان
برغواطة ذات الديانة اليهودية، كما أن مدينة آسفي لم تشهد كبعض المدن المغربية تأسيس
ملاح يأوي اليهود ويعزلهم وراء أسوار منيعة، فقد عاش اليهود والآسفيون عبر كل العصور
دون ملاح توضع من قدرهم.
وذكر فرانسوا بيرجي رواية ضعيفة مخالفة تماما لكل
ما سبق، حيث زعم انتساب اسم آسفي إلى أحد أئمة الفينيقيين، مدعيا أن سكان مدينة صور
الفينيقية أنشأوا بآسفي وكالة تجارية في القرن 12 قبل الميلاد، وأسكنوا فيها المهاجرين
الكنعانيين الذين طردوا على يد الغزاة العبرانيين، وأطلقوا على هذه المدينة اسم أعظم
سيد مقدس ببلد كنعان وهو آسف. كما ذكر المؤرخ عبد العزيز بنعبدالله أنه من المحتمل
أن تكون هناك علاقة بين آسفي المغربية ومدينة أسيف التي توجد قرب بغداد.
الخلاصة:
آسفي مدينة ضاربة في القدم، أنشئت على وادي الشعبة،
منبع الطين والخزف الذي اشتهرت به المدينة. ومنذ أقدم العصور، وقبل دخول الإسلام، اعتبرت
المدينة ضمن المدن المقدسة المعروفة في العالم القديم. ولا يعرف بالضبط العصر الذي
تأسست فيه آسفي، فهي قديمة قدم التاريخ نفسه. ولعل الأحفوريات التي اكتشفت بجبل ايغود
شرق المدينة سنة 1962 ، والمتكونة من بقايا عظمية بشرية وحيوانية وأدوات مختلفة تفيد
بأن الإنسان عمّر آسفي قبل خمسين ألف سنة. ولا غرو في ذلك، فالمدينة تضم مجموعة من
المآثر التاريخية والقلاع التي تشهد على تاريخها العريق. وكل من تناول تاريخ آسفي من
المؤرخين والباحثين، يقر بأن جذور وجودها تضرب عميقا في مجاهل التاريخ. وقد تولد عن
ذلك تضارب كبير في الرأي حول أمور تتصل بتأسيس هذه المدينة، ومدلول اسمها والأصل الذي
اشتق منه. ومع كل هذا التضارب فقد حظيت آسفي بأهمية بالغة، حتى أن اسمها ورد ضمن أمهات
المعاجم التاريخية كمعجم البلدان لياقوت الحموي، وذكرها الرحالة المغربي الشهير بن
بطوطة في مذكراته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة.
هوامش:
(1) أطروحة دكتوراه طارق يشي، أنظر الرابط http://www.almarkaz.ma/Article.aspx?C=6242
(2) نبيل تللو، أنظر الرابط
http://www.albahethon.com/?page=show_det&id=1758
(3) هاني عبد الرحيم العزيزي، أنظر الرابط
ttp://www.rjgc.gov.jo/Page_Images/Books/geonames/haniazizi.pdf