تحظي حياة ما يعرفون بالأبطال باهتمام من يدون التاريخ فهم دائما يتصدرون المشهد وينحسر الضوء عن غيرهم من الذين قلما يأتي التاريخ على ذكرهم مع أنَّ
طبيعة ونمط معيشهم تعتبر صورة حقيقية للحياة بكل أوجهها، غير أن الأعمال الروائية تجدُ ضالتها فيما يهملهُ التاريخ، وربما هذا الأمرُ هو ما أضفي الخصوصية لفن الرواية كما وضعها في مقدمة اهتمامات القارىء الذي ملَّ من تواريخ مضخمة.
وقد اختار الروائي البرازيلي باولو كويلو حياة الراقصة الهولندية مارغريتا زيليه - أو ماتا هاري الاسم الذي اشتهرت به بعدما تخلت عن اسمها الأول - موضوعاً لعمله الجديد الذي يحمل عنواناً إشهارياً "الجاسوسة" شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 2016 إذ يوظف كل ما في متناوله من المعلومات حول هذه الشخصية التي تعتقدُ بأنها ظهرت في زمن خطأ ودفعت ثمن ذلك كما تُحمل أبويها مسؤولية ولادتها في مكان خطأ داخل بلدة (لوواردن).
لكن هي تحاول تلافي المكان الخطأ بتنقلها بين العواصم والمدن الصاخبة حيثُ تقيم حفلاتها الراقصة بينما كان العالم على موعد مع اندلاع الحرب العالمية الكبرى، كأن ماتا هاري أرادت إعلان الحرب على طريقتها لأن الرقص كالحرب يحتاح الى الطرفين على حد قول نيتشه، لكن من هو الطرف الذي شنت الراقصة الهولندية الحرب ضده؟ هل كانت تحارب المجتمع الذكوري وأعرافه غير المنصفة بحق المرأة؟
ارتادت مارتا هاري كل الأوساط الثقافية والسياسية وما تهدف إليه من وراء ذلك هو اكتساب مزيد من الأموال التي تضمن حياةً باذخة.
• اسم جديد
لا تتحدد وظيفة الأسماء بالإحالة إلى ذوات معينة بل بجانب ذلك تحمل مدلولات تاريخية وتشي بخلفيات اجتماعية وانتماءات جنسانية لذا عندما تريدُ بطلة رواية "الجاسوسة" تغير اسمها، فبذلك تحاول تأسيس لمرحلة جديدة في حياتها تكون مغايرةً لما خبرته في مسقط رأسها ومرحلة زواجها بالضابط الهولندي رودولف ماكلاود.
تعرف الراقصة باسم جديد في باريس (ماتا هاري) ويصبحُ جمالها الفاتن موضع اهتمام الصحافة الباريسية، وهذا ما يفتحُ لها أبواب الصالونات الثقافية والسياسية إذ تتعرف على شخصيات نافذة ستأصلها الدعوات مطالبة إياها بإحياء حفلات راقصة، مع متابعة مسار حياة ماتا هاري وقراءة ما دونته في رسالة لمحاميها يتبينُ بإنها ليست شخصية نمطية، ولا تلبث أن ترى لها أشكالاً مختلفة، تارة هي تتبدى ناقمة على ماضيها وتارة أخرى تخاف من المستقبل وخسارتها لتوهجها وجمالها إلى أن ينفض عنها المعجبون.
تتوالي الأحداث في حياة الجاسوسة متوازية مع تطورات شهدتها بداية القرن العشرين، كما أن هناك إشارة لشخصيات عانت نتيجة لعدم اتساق أفكارها مع التقاليد السائدة مثل أوسكار وايلد أو كلفها إنتماؤها الديني ثمناً باهظاً مثل ما وقع بالنسبة للضابط الفرنسي درايفوس.
أضفْ إلى ذلك ما يوردُ في سياق هذا النص من الإستشهادات الأسطورية حيثُ تُذكرُ الآلهة إينانا بوصفها معادلاً موضوعياً للبطلة كما أن الأخيرة نضت أزياءها وهي ترقص كذلك فإن إينانا في رحلتها نحو عالم محرم يجبُ أن تخلع قطعة من ثوبها عند كل بوابة من البوابات السبع.
أكثر من هذا ثمة ما يمكن تسميته بالأسطورة الشخصية المتمثلة بزهرة التوليب التي تعتبرها الأمُ صورة ماثلة عن دورة الحياة إذ لا شيء يدومُ ويبقى على حاله ولا يسعُ الإنسان سوى اتباع قدره بالفرح، تخدمُ هذه الإقتباسات والعبارات الموحية الثيمة الأساسية في الرواية وهي صراع الإنسان مع ظروفه وإعادة بناء ذاته وفقاً لما يملى عليه رغباته الشخصية بعيداً عن الإكراهات المجتمعية.
مقاربة شخصية ماتا هاري تحتم عليك طرح السؤال عن سبل معالجة التصورات المسبقة وعدم تحميل الإنسان وزر ذنب لم يقترفه بنفسه، لإن مارتا هاري يغتصبها مديرُ المدرسة ومن ثُمَّ عليها أن تقوم بإعادة تمثيل هذا المشهد مع زوجها الضابط كما أن هذا الأمر يزيدُ من شكوك الزوج، فالبتالي يفقدُ الثقة بماتا هاري، غير أنه لا يوجدُ ما يمنع الأخيرة من الإبحار ضد التيار إذ ما أن تصل باريس حتى تنسلخ من كل صورها السابقة لن تكون زوجة الضابط، ولا معلمة رياض الأطفال، كما خطط لها والداها، بل ستخطف الأضواء بوصفها راقصةً جريئةً.
• المنعطف
شخصيات صاحب "الخيميائي" مغرمة بالرحلة واكتشاف سحر أمكنة جديدة وهذه الرغبة تتجلى بالوضوح لدى أبطال رواياته بما فيها شخصية "مارتا هاري" التي تسافرُ إلى برلين على متن قطار عندما كان العالم على شفا حرب شرسة فهى تسردُ تفاصيل هذه الرحلة حيث فيما كان القطار منطلقاً صوب برلين تحملُ صحيفة هذا اليوم تاريخ 11يوليو/تموز أي بعد اغتيال الأرشيدوق فرديناند وزوجته في سراييفو، تُسنَدُ مهمة إقناع ماتا هاري بِمغادرة باريس إلى فرانس أولاف الذي يصحبها ملمحاً لها بإنها مطلوبة على المستوى الرفيع في ألمانيا وبأن المناخ الألماني مناسب أكثر من غيره وتغدق عليها الأرستقراطية مالاً وفيراً لكن على رغم كل هذه الإغراءات التى قد لا تقاوم بالنسبة لمن أدمن الشهرة ظلَّ جانب من الأمر مجهولاً لدى مارتا هاري، لم تجدْ في برلين ما كانت تترقبه من الأجواء الإحتفالية بل تعيشُ المدينة في حالة الإستنفار لذلك الشخص الذي رافقها إلى برلين طلب منها العودة إلى هولندا كما أبلغها بأنها سَتُفْتَحُ معها قنوات اتصال جديدة فعلاً سيتم تجنيدها لتندس في المجتمع الباريسي ويختارون لها رمزاً (H2I) من هنا تشتدُ العقدةُ لاسيما بعد قرار ماتا هاي بأن تقوم بلعبتها وتصبح جاسوسة مزدوجة، وأخبرت رئيس قسم مُكافحة الجاسوسية جورج لادو بإنها مستعدة أن تخدم فرنسا لكن هو يجمع حولها المعلومات ويراقب زياراتها المثيرة للشكوك إلى أن يصدر قرار إلقاء القبض على الراقصة التي عاشت تجربة الحب مع ضابط روسي ضرير، قبل أن تطوى صفحات أيامها الضاجة بالأحداث والتقلبات.
يذكرُ المؤلف في نهاية الرواية بأن جورج لادو الذي كان عمل على تنفيذ حكم الإعدام على ماتا هاري قد أُتهم أيضاً بالتورط في العمل الجاسوسي لصالح ألمانيا غير أن الأخير لم يعاقب بالإعدام، على الرغم وجود ما يجعلُ هذا العمل رواية لشخصية واحدة وقريبة من سيرة غيرية تماما مثل العمل السابق لباولو كويلو "إحدى عشرة دقيقة" لكن هناك تنوع في الخطابات والرؤى حول الشخصية المحورية إذ تسمع في آن واحد إلى صوت البطلة التي تتبنى ضمير المتكلم في سرد حكايتها وشهادة محاميها كلونيه زدْ على ذلك يستعين الكاتبُ بقصاصات من الصحف التي نشرت أخبار الراقصة.
كما يفتح روايته بأسلوب تقريري ناقلاً خبر إعدام ماتا هاري من إحدى وكالات إخبارية مع الإشارة بأن العمل مستند إلى أحداث حقيقية هذه الأساليب والحيل في تقنية الحكي جزء مما يلجأُ اليه كاتب الرواية لتحاشي الوقوع في رتابة السرد من طرف واحد.
السؤال الذي يفرض نفسه وأنت منهمك في قراءة هذا العمل هو لماذا إختار الكاتب "الجاسوسة" عتبة العنوان مع أنه يريد أن يظهر محايداً في العرض هل الغرض فقط هو توليد مزيد من التشويق لدى المتلقي أو دون أن يدري تبنى خطاب السلطة الرسمية؟