خاص : " تغمرني رغبة
كاسحة في أن أسرد رحلتي بطريقة ما، لتبدو المراحل والقسمات ماثلة بارزة، فتسعفني ربما
علي أن استوعب مسارا خضع للارتجال والنزوة والجري وراء
أحلام عزيزة المنال
" ص 9. كانت هذه التعويذةَ الروائية التي أجراها المؤلف
علي لسان سارده الرئيسي، ليبرر بها دواعي خروج النص إلي التلقي، غير أن أستاذَ الفلسفة
منير في رحلة استرجاعه لهذا المسار الدال والطويل، لا يغفل ملابسات الذاكرة وقدرتها
علي التمويه، فيقول: " أعرف أن استعادة حياتنا بأي شكل نختاره، لا تساعدنا علي
حذف مقطع أو صورة من فيلم الذاكرة المشتبك مع تفاصيل واستيهامات لا ندري من أين تنبثق
"، بهذا الشكل يفتح أمامنا محكيات ومخفيات
العلبة السوداء القابعة في أعماقه، ويستدرجنا إلي مسقط الرأس، فضاء الانتماء الأولي
للهوية، تلك الهوية التي " تبدأ واضحة، رنانة، قبل أن تسلك مسارب الالتباس والتحول
وتنحسر في نطاق فقدان اليقين. " ص 9
من آيات نباهة وفرادة هذا العمل، أن بنية النص وهندسته
تخدمان الرهان الروائي بشكل مكين، إذ نحس كأننا في متاهة وجود سردي وتجربة حياة متفلسفة لا استقرار فيها ولا ثبات،
وهو ما تبغي الرواية إبلاغه جماليا. من حيث الوفاء لروح النص الفلسفي التحليلي، بدأ
السارد بصيغة الأنا في مقدمة تمهيدية حدد فيها الحكاية / الأطروحة الإطار، إذ منير
رجل غادر دبدو مسقط رأسه متجها إلي فرنسا عام 1965، تم ها هو يعود إليها بعد 47 سنة
من الغياب الكامل. في هذه المقدمة يطرح السارد الأسئلة الإشكالية التي ستنبري أطوارُ
السرد لبحثها وتحليلها، من هناك يبدأ منير كتابة مساره ببحث دواعي سفره واختياره الحضورَ
في محيط وثقافة الآخر.
في الجزء الأول من العرض الروائي المعنون:
" في بلاد الأنوار"، يعرض منير رحلة الولع المعرفي إلي فرنسا، هناك حيث انخرط
في حومة النضال والمناخ الثقافي والسياسي حالما بتحصين واسترجاع قيم الأنوار مُعوّلا
في ذلك علي الاتجاه اليساري التقدمي.
وبالانتقال إلي الجزء الثاني من العرض الروائي المعنون
" العودة إلي مسقط الرأس"، تتناسل أسئلة المراجعة والمساءلة بعد ما يقارب
نصف قرن من التجربة والالتزام العضوي في النسق الثقافي الغربي. وصولا إلي الختم، يفتح
السارد المحموم بالفلسفة الأفقَ الإنساني المشترك، مُتّبعا في ذلك الجدل الهيغلي، فمن
فكرة الولع التام بالغرب/الأنوار، إلي نقيض الفكرة ومناقشة الإبدال الثاني بتأييد مرحلي
للولع بموروث الأنا الثقافي والقيمي، تم الخروج بالطرح الثالث، ذلك الأفق الحضاري المشترك
الذي يتصادي مع دعوات هومي بابا في موقع الثقافة.
في تصدّيه لقلق مبرر الرواية وتحديد حاضرها، ابتدع
الروائي عبر الخطاب المعروض حيلةَ رسالةٍ الكترونية، اقترحت من خلالها العشيقة المومأ
إليها " م . ف " علي البطل الممزق منير أن يجرب الكتابة: " لماذا لا
تحاول أن ترتاد مجال الكتابة لتحتمي من الملالة وشكوك الوجود ؟ ص 45، حينها يصير منير
مسرودا بضمير الغائب، عبر راوي الرواة، الذي يتوكأ كثيرا علي أشكال الخطاب المعروض،
من قبيل : يوميات منير ورسائله الالكترونية مع رفيقه الفرنسي ألبير وابنه بدر وخاصة
مع عشيقته " م . ف "، حيث نلج عالم كتابة الكتابة أو الكتابة حول الكتابة،
ويبدأ منير يُنفذ مقترح خليلته م . ف المغربية، فنفهم لماذا استجاب السارد لهذا المحفز
المغربي في الكتابة: لأن الذات المغربية في مسيس الحاجة إلي هذه الخبرة والمعرفة والمساءلة،
بذلك كانت رحلةُ البحث في الذات عن الذات. ولأن السارد يعيش حالة التوزع بين أنوات/مراحل
مختلفة، باحثا عما يُنسقها ويستجمعها في كيان له معني وغاية، منشغلا بالجواب علي سؤال
: من أنا وكيف أكون أنا، فإنه يسترجع ذكرياته بشكل مقروء، من هنا يختبر مدي صفاء محكيات الذاكرة واسترجاعاتها، ومدي
خلوها من التهيؤات والتخييلات، يقول " المحكيات المركبة، المنقحة هي التي تطغي
أثناء التذكر" ص 122، يضيف مختبرا قدرة
الذاكرة ومستوياتها : " هل يبقي في ذاكرتنا جزء من التاريخ الذي عشناه ؟ أم إن
ما يبقي هو مزيج زئبقي يشوش الصورة المصفاة التي نختزنها منذ اللحظات الأولي للقائنا
بالأشياء" ص 125. هذا الحرص علي الذاكرة
والتخييل يقربنا من احتمال كون النص سيرة ذهنية ثقافية، ذاتية وغيرية في الآن، من خلالها
يحاول القبض علي النسق والنسغ الحياتي الوجودي الذي تمضي به وعبره الأشياء، إنها كتابة
من الدرجة العالية في التركيب والتعاطي الفلسفي مع المحسوسات، يطبعها التجريد والتكثيف
الشاهق، لذلك فهي تلتهب بالصهد والاحتراق الطالعين من جوانها، إنها رواية الأسئلة الحضارية
الكبري، التي تظهر من خللها حيرة الكاتب وهو
يتلظي بالوعي الشقي.
بحثا عن مواقيت هذا المنجز السردي، نجد أن الزمن
الرئيسي للحكاية يبدأ من 1965 ممتدا إلي بداية 2016، أما زمن الرواية فيبدأ من 2014
إلي بداية 2016، رغم ذلك نجد استحضارا في مرويات راوي الرواة لمقاطع من رسائل مؤرخة في السبعينيات والتسعينيات، فكأنما
ميقات الرواية أقدم من الميقات المذكور أو الموهم به جماليا.
بعد إرساء البُني الجمالية الصلدة، تمضي الرواية
عبر أربعة خيوط سردية أساسية مربوطة إلي مخيلة السارد المرجعي بحذق ومهارة: زمن السرد إبان المقام الباريسي في الحاضر، ثم زمن
السرد المسترجَع إبان النشأة / الهوية الأولي بمنطقة دبدو، وزمن السرد خلال رحلة العودة
إلي دبدو، ثم زمن السرد بعد الإياب إلي فرنسا في أفق الرجوع إلي دبدو للإقامة الدورية
فيها مدة النصف من كل سنة، هنا ينفتح السرد علي المستقبل، ذلك الآتي اللامتوقع . وهناك
استراتيجية جمالية وخطابية دقيقة يتوسلها الروائي لتقديم أطروحة النص عبر لعبة التقابلات، أو الجدلية
الحضارية بين وضع فرنسا الآخر ووضع المغرب
الأنا، كما نلقاه يستدعي: المسرح، التشكيل، الموسيقي، الشعر، أدب الرسائل، اليوميات،
السينما، التوثيق. وإذا كان لا مناص للسرد من آليات الوصف، فإن ما يشد النظر في سرد برادة أنه لا ينجرّ إلي وصف الأفضية والأشكال الظاهرة
من الشخوص والعالم الروائي التخييلي أو المرجعي، بل نجده منشغلا بوصف ورصد عالم الأفكار
والمشاعر مما يزيد من فرادة هذا المنجز الإبداعي، حيث يتحدث السارد كأنما حاملا كاميرا
داخلية تسجل وتلتقط وتوثق الهزات والاختلاجات النفسية والذهنية المستعصية علي
التقييد والتدوين، فنغدو في حالة ارتقاء وتجريد غرضُها
القبض علي الأنساق المجردة والبنيات الكبري التي تُشيّد العالم في ارتباط مع الذات
ساردةً ومسرودة.
هذا وقد توسل الكاتبُ لشخصياته أسماء بصفات ودلالات
إيجابية مثل: منير ورابح وصادق، وبدر، لأنه مراهن علي القادم والأمل. كما لا يفوتنا التنبيه
إلي أن المقطع الأخير يسجل عودةَ السرد بصيغة ضمير الأنا من خلال العنوان الفرعي
: " يقول منير "، حيث يتكلم هذا الأخير بأريحية وحميمية
كانت وراء الروح الشاعرية التي وسمت خاتمة الرواية. من هنا، فهذه الورقة النقدية، ستكون
وفية لهذا التقسيم الفني الفلسفي، بأن تقف بعد هذه المقدمة المنهجية / الهيكلية عند
التمفصلات الثلاث التي ذكرناها، وأولاها :
هجـرة عنفـوان الشـباب والافتـتان بالكـونية.
السارد المحوري منير، شاب من أم ذات أصل أمازيغي
وأب كسّاب من أصل عربي، بعد الباكالوريا سنة 1965 يغادر وطنه متوجها إلي فرنسا طالبَ
ثم مُدرّس فلسفة. هناك انخرط في حومة النضال
داخل مجتمع فيه " أسلاك الجدلية سارية
دوما " ص 14، قضي زمنه حالِماً من أجل
انتصار الحزب الاشتراكي الذي انتمي إليه إيمانا بأن هذه هي الخطوة التصحيحية الضرورية التي تحتاجها "فرنسا لكي لا تنحرف سريعا نحو رأسمالية عمياء،
وعنصرية كاسحة تغتال مبادئ التنوير التي قامت عليها ثورة 1789" ص 18. سيتزوج منير الفرنسية كاترين، بعد أن التقيا في
غمرة انتفاضة الطلاب التي اندلعت سنة 1968،
وكانا من حجيج كعبة كوليت، حيث تمارَس طقوس الحرياتية، بعد التخرج ستمتهن زوجته المحاماة،
وتكون نتيجةُ هذا اللقاء الحضاري بينهما ميلاد ابنهما : بدر، غير أن كاترين تنحدر في
علاقة غرام مع سكرتيرتها لويز، علي إثر ذلك تقرر الانفصال عن زوجها منير، مؤْثرة غواية
لذة الجسد الأنثوي المماثل، إلي هنا نتساءل : إذا كان منير يدعو إلي تبني قيم التحرر،
ومنها تحرر العلاقات الجنسية والاجتماعية من مؤسسة الأسرة والمجتمع والدين، فلماذا أَحسَّ " بما يشبه الصدمة " و "
بزلزال المفاجـأة " " ص 133، عندما أخبرته كاترين بقرار انفصالهما وارتباطها في علاقة مثلية مع لويز ؟، لكن السارد سيُجيبنا بعد الصدمة، إذ يؤوب منير إلي قاعدة اختياراته الوجودية، ليتشرب الرّجّة ويؤمن بنتائجها الحرياتية. ونحن ندقق مستويات الخطاب،
نجد السارد ليصَف هذا الترحال الثقافي، يستعمل عبارة " هجرتي إلي بلاد الإفرنج
" ص 26، التي تُحيلنا إلي المصطلح التراثي/ النهضوي في نعت بلاد الآخر الغربي
إبان اللقاء معه ، خلال سرديات الهجرة والوفود الأولي، سيما
مع البعثات العلمية والطلابية.
إذا كان منير قد انخرط في حومة النضال الفرنسية،
فإنه وضعَ المغرب في خانة المؤجلات كما يقول راوي الرواة، وظل يتابع عن بعد أنباء القمع
وفصول أزمنة الرصاص. لكن حتي وهو في المهجر لم نعرف عن تواصله أو علاقته مع المناضلين
الوطنيين في الخارج من أجل الداخل، ونتساءل لماذا هذا الفطام والقطيعة الباتة ؟. هذا
ما يبدو في ظاهر العلاقة مع الوطن، ومع الأم والأب بما قد يرمزان إليه من قيم الهوية
والنبع، لكن في القرارات الوئيدة تلتهب الأسئلة حول القيم الهوياتية، وكأن صلابة المعرفة
قد هوت " أمام هشاشة كامنة " وعادت لا نهائية الأسئلة لتَفتح أبواب اللايقين،
فبهاجس الوعي الشقي نسمع السارد يتساءل : " هل كل هذا الصرح أصبح في مهب الريح
" ص 133، ويزيد متحيرا " لماذا هذا
التعثر، وأين يكمن الخطأ إذن ؟ "، وغزلا علي نول الأسئلة، نقول : هل نهاية الزواج والانفصال بين منير وكاترين، هي النتيجة المتوقَّعة لهذا
اللقاء الثقافي بين نسقين متخالفين ؟ هذا السؤال المفترض، يقربنا من عمق هذه الرواية
الإشكالية المهمومة بشواغل الأسئلة الحضارية والثقافية في العلاقة بين الغرب والشرق
ومفهوم الهوية وتحدياتها.
الإيـاب إلـي الـذات ومسـاءلة
التجـربة فـي عالـم الآخــر
بعد أن أحيل علي التقاعد، وخفّت الضوضاء من حوله، اقترب منير من السكات، يتأمل مساره
ويقول " ندم عارم يحاصرني وأنا أستعيد هذا الغياب المقترن باليتم " ص 18. وفي ذروة المراجعة لدورة حياته وتجربته الراهنة،
يدرك أنه أغفل جذوره الأولي " وما يحيط بها من
شروط مغايرة لمجتمع فرنسا " ص 154، إثر ذلك وبعد 47 سنة يعود إلي بلدته دبدو وقد
توفيت والدته ثم تبعها والده بعد خمس سنوات، فنتساءل حول رمزية هذه الإماتة للأم وللأب،
ولماذا ترويض الذات علي الغياب والابتعاد عن سلطة الأم والأهل: هل هي مسافة الفطام
اللازمة من أجل تحقيق الذات واجتراح القطيعة في أبعادها الكبري، وهل مرض الأم وموتها
نتيجةَ فشل طبيب المستوصف المحلي، قد يُعدُّ رمزا علي أنها حملت في جيناتها أسباب موتها
متكئة علي المعرفة والخبرة المحلية اللامجدية والأصلانية المنكفئة، وهل رفضُ الأب الإقامة
المؤقتة في فرنسا بدعوة من ابنه منير، هو ما جعله يلقي حتفه بما يفيد أن من عزلتها
وانكفائها تموت الثقافات والمجتمعات ؟.
في بداية هذا الإياب إلي الذات يَبرُز فشل واضطراب
العلاقة مع المجال، فيلجأ منير إلي الاستيعاض بأحلام اليقظة والتخيلات، يضع عنه جبة
المنشغل بالفلسفة ومجرداتها، وبقوة الإيحاء الفنتاستيكي يصير مهندسا يبني ويشيّد صرح
ميكالوبوليس قريته دبدو، هنا نجده يبني معمار داعية التقنية كما حدده المفكر عبد الله
العروي، ليقوِّضه فيما بعد، وينسف دعواه في نشدان التغيير. بذلك يضعنا المؤلف في صلب
حركة الأنسنة وفلسفة الأنوار التي هي الطور الأول اللازم لتحرير الإنسان وانعتاقه نحو
الأفق الإنساني. إن صوت الحكمة والتعقل يصّاعد من أعماق التجربة والممارسة ويقول منير:
" ما موقع دبدو من نفسي لأني أحسها متغلغلة
ما تزال، في السويداء والوجدان ؟ أعود إليها وقد انجلت أحلام الشباب، وتعبت من الجري
وراء أحلام الثورة وتغيير الجلد، وأريد أن أعرف حقيقة شعوري داخل عالم ملتبس الحدود،
مختل الإيقاع كل يوم هو في شأن ؟ " ص 23، هذه المساءلة والجرأة الفكرية في الاقتراب
من " قفير الأسئلة اللاسعة " ص 54، تجعله يدرك أن " العالم أوسع من
أن تلخصه ثورة، أو مذهب فكري " ص 153، ويُشرِع الكوي علي " اللامتوقع، ذلك
الذي يفاجئنا بحدوثه وينبهنا إلي إمكانات أخري، إلي فضاء لم يكن يخطر علي البال ونحن
سجناء الفضاء المألوف ص 43.
في محاورة المراجعة الحضارية مع ابنه بدر، يُقرّ
الأب أنه أخطأ التقدير، وأن " معركة الأنوار ليست يوتوبيا جاهزة شيدها فلاسفة
ودبجوا فيها نصوصا مقدسة، بل هي قيم إنسانية متجددة تستدعي نضالا جدليا دؤوبا
"، ويلتفت إلي منجز الذات/الهوية، إلي " كنوز ثمينة تتمثل في صفحات جديرة بإيقاظ الهمة والتلويح بمستقبل زاهر
ينبعث من أطلال بني مرين وعين اشبيلية " ص 32. إنه عاد عبر رحلة تاريخية يفلي الأنساق المعرفية
لمسقط رأسه الثقافي ويستنطق التاريخ حول منطقة دبدو في عصر المرينيين والوطاسيين، وتعايش
العرب والأمازيغ واليهود والمسلمين بعد هجرة الموريسكيين من الأندلس، وكأننا بالرواية
والراوي، بعد رحلة الإياب والمراجعة، معا يتساءلان : هل تستطيع الذات أن تحقق نفسها
إن هي محت حمولاتها الذاكرية وقطعت كل آصرة مع ماضيها وبدايتها ؟ ثم ألا يكون منير
هو الكينونة العربية الباحثة عن مخرج من حالة التيه الحضاري/ الهوياتي؟.
نجد أن الكاتب يسائل ماضي المغرب، يُرهّن الأسئلة،
ويدعو إلي استلهام روح التاريخ ولحظاته المجيدة الفارقة من أجل بعث الحياة في الجسد/الحاضر
المغربي العائش خارج صيرورة التطور التاريخي ودينامية العصر، ولكنا نتساءل هل للأب
الكسّاب، كل تلك المعرفة والقدرة الذهنية لتثمين المقدرات التاريخية الحضارية والتراث
اللامادي لمنطقة دبدو أثناء حكم المرينيين والسعديين وأثناء استقلالها كإمارة ووفودِ
اليهود إليها، ومن ثم التحسر الدائم علي هذا المجد الضائع ؟، ألا يكون هذا الوعي أكبر
من الوعي المفترض لدي رجل بسيط ؟، وعلي ضوء هذا التفسير ندرك تسرب رؤية منير إلي رؤية والده، الأمر الذي
ينسجم مع رهان الكاتب علي رمزية قتل الأب وموضعة الرؤية الحداثية العالمة موضع الرؤية
العامية. ورغم إيمان السارد بالقيم الحضارية الكونية والأنوار المنبعثة من فرنسا، فهو
لا يغفل التجربة الكولونيالية لحضارة الأنوار وقيمها، بل يُحمِّلها عبء تجربتها الاستعمارية،
وقد كان الكاتب متفطّنا إلي هذا الخطاب عندما ضَمّنه في رسائله إلي زميله في النضال،
الفرنسي ألبير، محددا المرسَل إليه بدقة وغائية، مقدّما دراسة ثقافية عن فرنسا بدءا
بما بعد مرحلة الأنوار، وانقلاب نابليون في حملاته التوسعية علي دعاوي الأخوة والحرية،
ليتركز الطرح النقدي علي فرنسا المعاصرة مع دوكول، ثم الحكومات الاشتراكية وقد خانت
وعود وآمال النخبة التي خابت وانزوت في الضواحي تتجرع مرارة النكسة والانكسار وخفوت
قيم الأنوار.
في سياق النقد المعرفي للنسق الثقافي الفرنسي، يقف
منير عند أحزمة الضواحي مع تلاميذ المهاجرين الأفارقة والآسيويين، أبناء وأحفاد
" الثقافات الأخري التي لقّحت حضارة الغرب
عندما كان يغادر القرون الوسطي"، إنه يفضح انقلاب الغرب علي مبادئه واستبدالها
بأطاريح اللامساواة والعنصرية، بهذا، فالكاتب يمضي في حركة نقد مزدوج عبر تقنية السرد
المرآوي التقابلي بين الأنا المغربي والآخر الفرنسي، مراهنا علي الآتي، علي اللامتوقع.
في أتون هذا الاصطلاء بضراوة الوعي الشقي، وسط غلالة الهشاشة والشك واللايقين، وفي
متاهة الحيرة، تُشكِّل رمزيةُ الجسد الأنثوي دورَ المنبه الموقظ، فكُلما خبا منير في
حالة " الاختفاء"، إلا ونجده يستدعي الجسد، حتي لكأنه ذلك الحَجر الذي اكتشفه
الإنسان ونقله من طور إلي آخر، ومن ظلام إلي نور، إذ مع عملية الاحتكاك والشحذ أثناء
معاشرة المرأة، تُقدَح شرارة الأنوار وتتدفق
إرادة الحياة متجاوِزة حالة " النفاذ
والنضوب ".
وقد كانت استراتيجية منسجمة أن يصير منير طالبَ
ثم أستاذَ فلسفة حتي تكون له الأهلية المعرفية لاستيعاب ونقاش الإرث الحضاري والثقافي
الفرنسي/الغربي والمغربي/الشرقي. هنا يَستثمر برادة بصفته راوي الرواة المرجعي، تجربته
المخضرمة في الأوساط الفرنسية والمغربية، وإن كان ينسف الأطاريح المتطرفة الإرهابية،
فهو لا ينجرُّ إلي التأويلات الفوقية لما يُسمّيه الساردُ " مفكري الشاشة الصغري"
المأخوذين بآنية التلقي والتأويل، بل إنه ينظر إلي الأنساق ويحلل الظواهر وفق رؤية
حضارية مُركَّبة، يتحمل عبأها الغربُ نفسه، في ابتكار جنون
الإفناء والتمزيق وصناعة الكابوس، ذلك " المسكوت عنه الذي ينهك العالم".
ونحن لمّا نصغي للسارد بعد رحلة العودة، نجده قد تحرر من أن يكون واقعا ضحية استلاب
في النموذج الحضاري الغربي ومتحررا أيضا من معاداته، إنه بعبارة طرابيشي ليس مريضا
بالغرب ولا مريضا منه، إنه يتساءل بوعي وتيقظ " لماذا يحاصرني هذا الهوس بما حققه
الغرب من معجزات في العلم والمعمار ؟ ص 29. بتجميع ما سبق، نُجمل القول حول هذا المنجز بأنه
بحث روائي رؤيوي يتوسل المعرفة، وأنها معرفة تتوسل البحث الروائي في جدلية إبداعية
مائزة، الشيء الذي يمنح النص صلابة وتماسكا عزّ نظيره، بعيدا عن التفجُّع الوجداني
والمراثي العاطفية وعويل الخواطر السردية، التي حوّلت الرواية العربية إلي حائط مبكي
تخييلي.
رهـان الأفـق الإنسانـي المشتـرك وشاعـرية الخـتام
أشرنا في
المقدمة إلي كون بنية أزمنةِ السرد وخيوطه تنتهي عند المستقبل وتُبقي بنيةَ الرواية
مشرعة عليه وفيه، ومن ثمة ما خلصنا إليه أن بنية السرد وهندسته تخدمان الرهان الثقافي
المستقبلي للرواية عبر أطروحة " الانتقال من ماض إلي حاضر منفتح علي ما هو قيد
التشكل" ص 77. فبعد المراجعة الفكرية
الجريئة، وبحافز من محاوَرته مع نفسه وابنه، يقرر منير تقسيم إقامته بين دبدو وفرنسا
في رحلة بحث ثقافي عما تكون الذات، مع الوعي بأن الجوهر ليس شيئا ثابتا، مكتملا وليس
معطي دفعة واحدة، بل هو مشدود إلي الصيرورة والتحول" وهو " ينضج بتجربة الحياة
مع الآخرين" ص 236. إنها إذن حركة تفكير طباقية، وفلسفة ذهاب وإياب حضاري بين
" فضاءين متباينين قد يلتقيان عند أفق مشترك " ص 240، ودعوة إلي استحضار قيم الخير والحق والجمال،
من هنا الارتباط بالأفق والرهان علي القادم. إننا مع رواية أُسُّها المستقبل، بعيدا
عن المناحات، ونوستالجيات التفجع علي الفائت وعبادة الذكريات ، بل هو الشوق إلي القادم، والتوق إلي اللامتوقع.
يقول بدر " أشعر أن قلبي يتسع لاحتواء كل البشر والثقافات والأديان من دون
أسيجة أو حدود "، غير أنه يعيش حالةَ رعب خوفا من الابتلاع والإلغاء ويضيف
" كأنما هناك مصادرة لحقي في المزج بين هويات متعددة تمنحني الانفتاح والتوازن
من خلال التهجين المخصب الذي علمْتني إياه " ص 201. هذا الانطلاق والتحرر الذي لا يمكن أن يتأتي إلا
عبر " القيام بتفريغ شامل لما امتلأت به عقول الناس من معارف ومقولات، كثيرا ما
تحجب عنهم الرؤية الواضحة وتمنعهم من الانفتاح علي وعي مغاير يضيء الواقع "، لهذا
عَمّد الكاتبُ ساردَه الأول باسم منير، مُحمِّلا إياه صفةَ وهدف رسالة الأنوار والتنوير. في مستوي آخر قد يرمز بدر إلي
المعرفة/ المحصَّلة من لقاء النسق المغربي بآخَره الغربي الفرنسي، بالتالي فهي معرفة
مهتزة، قلقة في حيرة متجاذبة، كما هو شأن الهوية المتحركة، ثم قد يكون بدر هو ذاك الموقع
الثالث للثقافة الناجم عن التخصيب الحضاري بين أنا مغربي يجسده منير وآخر فرنسي ترمز
إليه كاترين، لذلك فهذا البدر يقف في المنطقة القلقة، وهو لا يُذكَر أو يُستحضَر إلا
في المنطقة البينية الحرجة والفوارة. نلمس ذلك الخوفَ من الابتلاع يُقلق الشاب بدر
في حواره مع والده منير، حيث يعيش حالة التوزع، ولا يدري أيعود إلي النسق الثقافي الأصل ويدنو منه أكثر، أم ينصهر في النسق الفرنسي، مُعِّبرا
عن حالة الثقافة الكونية اليوم. في هذا الحوار ذاته ، يُصرّح الأب لابنه " لقد كنتَ تربة خصبة لما زرعناه فيك من توجهات
تتطلع إلي تحرير الفرد وربطه بأفق مجتمعي يعزز رهانا تاريخيا أفضل" ص158، فهو
إذن يَعتبره ضوءا وامتدادا لأحلامه، لذلك نستشف
دلالة تسميته : بدر، ولأن الأب المرجعي للنص يراهن علي خطاب وقيم الأنوار، فهو من جهته
أيضا سمّي ابنه التخييلي، وسارد حلمِه الأدبي: منير. ولا بد من تأكيد أن الحلم هنا لا يرتبط بالحالم،
بل هو جدلية مستمرة، تتجاوز " الذات المحدودة "، وهو فوق أي " أقانيم
ثابتة "، لذلك قلنا إنها كتابة الأفق، كتابة مرتبطة " بالديمومة المتخطية
لراهنية الزمن الظرفي " ص 175.
عندما ندنو من نهاية أطوار المكتوب الروائي، تُحَل
مستغلقات العنوان " موت مختلف "، حيث تُهيمن هذه التيمة عبر مستويين، أولهما
كابوس الموت: إفناء الإنسان واغتيال الطبيعة، الكابوس الذي صار الروزنامة اليومية لإنسان
العالم المعاصر، وباستغوار معرفي يحفر الكاتب في جينالوجيا الكابوس الذي" خرج
من أحشاء حضارة إنسانية شيدت دعائم العلم والتكنولوجيا المتقدمة والحكامة والديموقراطية ص 190، هو كابوس الإفناء الذي بزغ
من رحم الحربين العالميتين واستمرت مخلفاته السياسية والاقتصادية التي أفرزت هذه الأوضاع
الإنسانية، حيث انتشر الكابوس وران علي العالم متخذا أشكال ردود الأفعال المدمرة والمتطرفة.
أما المستوي الثاني من حضور تيمة الموت، فيبدأ بإشكال الموت وأرقه الذي يشغل منير وهو يرسم ملامح الموت المختلف، ويدخل
في " ورطة التأويلات الفلسفية المتصلة بميتافيزيقيا الوجود
والعدم " ص 232.
في آخر القول الروائي، يبتدع السارد ويتخيل ذلك
الحوارَ المستقبلي الذي قد يدور بينه وبين بعض الشبان في دبدو بعد أن يستقر فيها بشكل
دوري كما خطط لذلك، هنا تتصادي المحكيات مع بنية ومضمون رسالة الوداع التي صاغها غارسيا
ماركيز إلي العالم: " لو أن الله وهبني حياة أخري"، فهذا يطلب الله لو منحه
حياة أخري، والآخر يطلب من ممثل الموت عزرائيل
وفتا مضافا، ومع محاورة الموت كما يمثله وينفذه
عزرائيل، نعود إلي جدارية محمود درويش وهو يروض الموت، يحاوره، يستفزه، وينتصر عليه
بالكتابة والفن وإرادة الحياة. خلال هذا الحوار الأنطولوجي مع الموت، ندرك مغزي عبارة
العنوان : موت مختلف، هذا الذي يأمل السارد في تحققه، عبر أمنية استئناف قرار الموت،
ليغنم وقتا إضافيا يحاور فيه ملاك الموت عزرائيل،
يُخبره بطموحاته وأحلامه الإنسانية النبيلة، ويفتح فيه أشرعة نحو عالم مستنير قادم.
ونري السارد يدفعه الروائي ليستمسك بالعروة الوثقي للأمل/ الغد، فيختم الرواية في منزلة
عالية من الشاعرية، إذ وقفت بيارق الأمل واستفاق الضمير من خلال تقليد "الليالي الواقفة " التي تُحْيي النقاش
الثقافي والقيمي، وتضُخ دماء الديمومة والجدلية في ساحة الجمهورية، هكذا يبقي النص
روايةَ موت مختلف، يحمل جدلية الشك الفلسفي، وحيرة الوجود وأمل الأنوار.