إعداد: عبد الجليل أنوار: الصور: أنس هاشيم ومصطفى المصمودي
في الحدود بين الشمس والنور، بين الحقيقة التاريخية والتماعات المشاعر الملتهبة
شوقا.. في الطريق إلى السماء والأرض، بين كيسر، قبيلة أولاد سيدي بنداود، وعتبة بني مسكين ببني خلوق، إقليم الشاوية التي اشتهرت عبر تاريخ المغرب أراضيها وأنهارها وفرسانها وعلمائها ، كان يوم ثامن عشر مارس مقام إشراق في التاريخ الثقافي المغربي بحضور حوالي مائتين من الحضور، بالجماعة القرية لبني خلوق، دائرة البروج إقليم سطات، من جامعيين ينتمون إلى آداب بنمسيك وعين الشق بالدار البيضاء وآداب الجديدة وبني ملال وجامعة الحسن الأول وأزيد من عشرين طالبا صينيا وعشرات طلبة الإجازة والماستر والدكتوراه في تخصصات مختلفة، بالإضافة إلى ممثلي الصحافة المحلية وعدد من المسؤولين في المنطقة والمواطنين.. في ندوة استثنائية بالبادية المغربية في موضوع ( أعلام وتراث الشاوية) من تنظيم المديرية الإقليمية لوزارة الثقافة بسطات بشراكة مع المجلس الجماعي لبني خلوق وجامعة الحسن الأول ومختبر السرديات بكلية الآداب بنمسيك، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. حضرها من المتدخلين في الجلسة الافتتاحية، وافتتح اللقاء د/ شعيب حليفي الذي اعتبر اليوم يوما لا كباقي الأيام، حيث اجتمعت فيه جامعتان، إلى جانب مندوبية وزارة الثقافة والمجلس الجماعي، فهو يوم استثنائي من خلال اعتبار المعرفة هي السبيل الأوحد للولوج إلى التقدم والتنمية قصد الوصول إلى الشيء الذي نحلم به، فالمعرفة مجال من المجالات التي عبرت الشاوية قبل الإسلام ومعه في القرون الموالية، حينما مر ابن عربي وابن الخطيب وغيرهم من العلماء، وهو الأمر الذي يكشف لنا أن المعرفة لا حدود لها، ومن تم، فتاريخ الشاوية تاريخ حافل بالمجاهدين والعلماء، الذين لم يتم التأريخ لهم، لكن حان الوقت لجعل هذا التراث مادة لاشتغال الباحثين قصد إبراز هوية المنطقة وثقافتها.
ثم تحدث عن المديرية الاقليمية لوزارة الثقافة بسطات، السيد بوشعيب الإدريسي والذي اعتبر اللقاء حدثا ثقافيا غير مسبوق، وأشار إلى الحلم بجعله حدثا سنويا للإسهام في التنمية الثقافية ليس لمنطقة سطات فحسب، ولكن على الصعيد الوطني. أما السيد عبد الرزاق ناجح رئيس المجلس الجماعي لبني خلوق فابتدأ كلمته بقلب تملؤه السعادة مرحبا بالجامعة في العروبية، ودعا إلى السفر في رحلة ثقافية نحو ضفة تشكل جزءا من هويتنا الحضارية والثقافية لإحياء التراث، وتكسير الطوق المضروب على القرى، لأن الإنسان هنا يستحق الحياة، والمجلس يراهن على النمو الثقافي رغم قلة الإمكانيات وانعدام الفضاءات. ليتناول الكلمة بعد ذلك أخذ الكلمة د/ رياض فخري نائب رئيس الجامعة نيابة عن الجامعتين وقد رافقه فريق من أساتذة الجامعة ووإدارييها وكذلك فوج من الطلبة الصينيين، مشيدا بدور الجامعة في بناء التنمية، ومعتبرا المعرفة مدخلا أساسا للتقدم والتنمية، ومن المهام الملقاة على الجامعة الإسهام في خلق قاطرة التنمية وبنائها. في حين أشار رئيس المجلس العلمي بسطات د/ محمد خالد إلى مكانة المتصوفة في الإسلام، ودورهم في بناء الجوانب الروحية والوجدانية للأمة، الشيء الذي يجعل من اللقاء قيمة مضافة في الشأن الثقافي المغربي.
بعد الجلسة الافتتاحية، انطلقت الجلسة الأولى برئاسة د/ عبد المجيد الجهاد ، فتدخل في البداية، د/ رابحة صالح في موضوع ( المشهد البيئي ببني مسكين وآفاق التنمية حيث أشارت إلى المميزات الطبيعية للمنطقة من خلال أربعة مشاهد: المشهد المائي، والمشهد الغابوي، والمشهد الجمالي، والمشهد الضائع المتمثل في معمار المنطقة وعلى رأسه قصبات كل من بولعوان وسطات ودار الشافعي والبروج. وهي كلها مشاهد إيجابية قادرة على خلق تنمية مجالية، تبتدئ بتنمية محلية عبر نهج مقاربة تشاركية يسهم فيها المنتخبون والمثقفون والأجهزة الوصية والوزارات والسكان الذي بدونهم، وبدون مجهوداتهم لا نستطيع خلق تنمية. أما الباحث د/الطوكي مصطفى فقد تناول قضية الهجرة الخارجية لمنطقة بني مسكين، مع تحديد الأسباب والدوافع، وأشار إلى أن الهجرة أصبحت مكونا من مكونات الذاكرة الشعبية للمنطقة، حيث كل العائلات تسعى إلى بعث أبنائها للخارج من خلال تعاضدها وتضامنها، لأن الهجرة أصبحت مصدرا مهما من مصادر عيش مجموعة من الأسر المغربية، ليشير في نهاية مداخلته إلى خصائص الهجرة، والمتمثلة في تقليص أفراد الأسرة، وتبدل السلوك الاستهلاكي من خلال العائدات المهمة، والتي أثرت في العمران والاستثمار الفلاحي والتجاري.
بعد ذلك تطرق الباحث والمسرحي المسكيني الصغير، إلى دور الثقافة الشعبية في خلق الانتماء، والوجود، بحيث لم يعد ينظر إلى الثقافة الشعبية بصفة قدحية، ولكنها أصبحت تقوم بمهمة الكشف عن هذا الإنسان وتبيان حقيقته من خلال حكاياته وأحاجيه ورموزه وأساطيره وعاداته وتقاليده وعمرانه. ومن تم فأهمية الثقافة الشعبية تتجلى في إطلاعنا على ماهية هذا الإنسان وعقليته ومدى انسجامه مع تراثه، وتنقل قيمه وعاداته وسلوكاته، وتشكل مرجعية مهمة في الأدب بشكل عام، والشعبي منه على وجه الخصوص، ليخلص في نهاية مداخلته إلى وجوب إعادة النظر بشكل علمي في المكتوب والمنقول واستقراء التراث واستبطان حفرياته، مع إغناء الثقافة الفرعية بالثقافة العربية الإسلامية في بعديها المادي والرمزي الروحي. في ختام هذه الجلسة، تحدثت الباحثة نادية شفيق عن علماء بني مسكين والشاوية، من خلال مجموعة من أعلام الشاوية وعلمائها ومتصوفيها، من أمثال سيدي ناصر الكلاعي، وأولاد سيدي بومهدي، وسيدي عامر، والمعطي الشاوي القرقوري، ومحمد بن الطالب المسكيني، وسيدي زويتينة، وذلك على سبيل التمثيل لا الحصر، وهي كلها شخصيات يختزلها المواطن في أبعاد التعظيم الديني، من خلال اتخاذ مقاماتهم مزارات للتبرك، في حين تمثل اته الشخصيات أكثر من ذلك، حيث إن الغرب اعترف بعبقرية أكثرهم ودورهم في خلق وعي المنطقة الروحي والحضاري والفكري.
في الجلسة الثانية "في حضرة الشيخ بن عربي"، والتي ترأسها د/ شعيب حليفي، نوه في بدايتها بأهمية تنويع الأنشطة، لأن المنطقة زاخرة تاريخيا ومجاليا وعلميا، ليعطي الكلمة بعد ذلك إلى الباحث أحمد غازي التي أشار في مداخلته "منطقة بني مسكين وقصبة البروج من خلال رحلة لسان الدين بن الخطيب" إلى الرحلة باعتبارها مجالا للكتابة يحرر صاحبه من قيود كثيرة عكس الجغرافي والمؤرخ، مع الإشارة إلى أهمية رحلة ابن الخطيب(نفاضة الجراب) في المنطقة، حيث تعتبر أول كتاب تذكر فيه منطقة البروج بالاسم، نظرا لإعجابه بها، واستقباله من طرف شيخ قبيلتها التي لم تكن تسمى إذ ذاك ببني مسكين. أما د/ أحمد الصادقي فقد ركز في مداخلته على رحلة ابن عربي من سلا إلى مراكش، مرورا بهذه المنطقة، والتي ذكر منها مكانين يختلفان من حيث الكتابة، وهما إيجيسيل والتي تعني فوق مجرى الماء، وأنقال/ أنكال التي تحولت إلى كيسل/كيسر، مشيرا إلى مقام القربة الذي وصل إليه ابن عربي في المنطقة، وكتب بحثه فيه في شهر محرم من عام 557هـ.
استكمالا للمداخلات تحدث د/ محمد الشيخ في مداخلته "الصحبة الغريبة عند ابن عربي" والمتمثلة في صحبة الشجرة عبر سقيها والعناية بها، لا مجاملة لصاحبها، ولا طمعا في ثمارها، سواء أثمرت أم لم تثمر، أو كانت مملوكة أو مباحة، مع تعريجه على مجموعة من الصحب، أمثال صحبة ابن الفارض للأشياء عبر عشقه للبحر ليلا والبوح له بكل أتراحه وافراحه، صحبة علاء الدين محمد بن يوسف للكلاب، وذلك عبر تفضيله الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، مهيبا إلى إحياء روح ابن عربي في شجيرات توحي بذكرى الصداقة. أما د/ توفيق رشد الذي ترك مداخلته جانبا ليشنف أسماع الحضور بمجموعة من النصوص المختارة من كتب ابن عربي، وخصوصا النص المقتبس من رسالة لا يعول عليه.ونصوص استطاع تركيبها وتأويل منطوقها في ما يتعلق بالإنسان والحياة.
في حين نبه د/ حكيم فضيل الإدريسي في بداية مداخلته ( معاني المكان في تجربة التصوف) إلى سر المغرب في أنه بلد الولاية والأسرار والفتح، وبأنه لا حديث عن المكان إلا بالحديث عن وجود العارف، فالمكان هو الذي اكتشف الإنسان، ويشرف بمن حل فيه، والإنسان مكان ومحل لأنه يحمل الأسماء الإلهية، ومن تم فتجربة المتصوف هي طي للزمان والمكان، والولي يصبح قائما بوصف الحق وقائما به، ومشرفا على الزمان والمكان بصورة الحق. في نفس السياق تحدث د/ أحمد كازى في موضوع (جامع الأزهر بفاس عند ابن عربي) على أن السر يكمن في المكان والزمان والشخص، والمتصوف يبحث عن اللقاء والإلقاء والكتابة، وتكمن أهمية جامع الأزهر في مقام النور الذي وصل إليه ابن عربي، حيث صار وجها بدون قفا، ومن هنا فللمكان أهمية في تجربة المتصوفة ، حيث كان ابن عربي يعتبر فاسا مدينة الأنوار والأسرار والفتوحات الربانية. وفي نفس لإطار دائما تحدث د/ عبد المجيد الجهاد عن تيمة السفر عند ابن عربي، مشيرا إلى أن السفر الصوفي رحلة من الأبدان على الوجدان، رحلة من مكانة إلى مكان، فهو وسيلة للخلاص من مهروب عنه إلى سفر لمبحوث عنه، ومن دوافعه سبب عارض، أو جور حاكم، أو ظلم ظالم، مشيرا إلى أنواعه وهي: سفر من عند الله، وإليه، وفيه، أما مقوماته فهي المجاهدة والتوكل والاستسلام.
بعد انتهاء سلسلة المداخلات، منحت الكلمة لإلقاءات شعرية متناغمة مع جو اللقاء،نفثت في القلب قبل الأذن معان رقيقة تتغنى بالعربية والمرأة وخاتم البرية.لأربعة شعراء هم: مليكة طالب، الشاعر الحلبة ، سعيد بلهواري، عامر موفق.بعدها فتح باب المناقشة الذي أشار فيه المتدخلون إلى قيمة مثل هذه اللقاءات مع اقتراح بعض التوصيات التي تشترك مع توصيات السادة الأساتذة المحاضرين، ويمكن إجمالها في السهر على التراث والمحافظة عليه، من خلال وصف وجرد الأماكن التاريخية الموجودة بالمنطقة وغيرها من المناطق المنتمية للشاوية، ثم توفير كافة الوثائق اللازمة للبحث والاشتغال، مع تشييد غرسة تحمل اسم ابن عربي.