"بلاغة الخطاب السردي في الرواية السعودية: مقاربة تداولية لرواية طوق
الحمام للروائية رجاء عالم"
يمنح النص السردي للمتلقي مادة أساسية ومعرفية في
تكاملها وتناسقها الكلي الشامل على مستوى اللغة والمعنى حيث تتحقق من خلالها شروط النصية
والتناسق والانسجام، فيعمل على التقاط المعنى الأساسي دون تأثر أو تعثر على مستوى الحكي
والوصف والسرد. إن النص السردي في شموليته يمنح المتلقي المحلل إمكانية للتأويل وتأمل
الدلالة الكلية دونما تأثر بدلالات الأجزاء والفصول المتعددة.
وفي هذا الإطار، تشكل الرواية إمكانية لالتقاء العديد
من المجالات والحقول والأشكال التعبيرية والمرجعيات والمواقف الذاتية والجمعية، إضافة
إلى التفاعلات لمتعددة والتي تتقاطع فيما بينها وتتشاكل بأسلوب فني وجمالي مركب، من
خلال انصهارها وذوبانها في إطار حكائي محض. هذه المميزات هي التي منحت الرواية العربية
عموماً أدوات كثيرة للتواصل والتأصيل في الأدب، وصيَّرتها في وضع يمكن معه تطوير المتخيل
وتوسيع مداه...
إن انفتاح الرواية على التأويل، وارتباطها الوثيق
بالحياة والسائد، وقدرتها على الاسترجاع والاستباق والانفتاح على المستقبل واستشرافه
للبحث عن ممكنات السرد والحكي، واستحضارها لخطابات متعددة تساهم في تخصيب عوالمها وإنماء
تجربتها وتطويرها... كل هذا يساهم مساهمة أساسية في الانفتاح على المتخيل بكل أشكاله
وأنواعه ومنطلقاته.
ومن أجل الوقوف على هذه القضايا، ينبغي على الباحث
أن يبلور المفاهيم المسعفة في عملية التحليل، وأدوات التأويل للفهم والتدليل على آرائه،
إضافة إلى القبض على الاتجاهات المتخيلة والانفعالات المتعددة في ثنايا النص والخطاب
الروائيين... ولقد اقتربت الرواية العربية بدرجة أو بأخرى بمسافتها الفنية والجمالية
من عواطف المرء ووجدانه وحتى من متخيله. بل كانت في الموعد مع قضايا الإنسان الثقافية
والاجتماعية والدينية من خلال عملها على مدِّها علاقات مع الأشكال التعبيرية الأخرى
التي تنتمي إلى حقول معرفية وأدبية أخرى.
إن الرواية تنشغل بخصوصيات اللغة وعشوائيتها إذا
ما وُضع في الاعتبار أن كل نص روائي يُبنى على خلق عالم، أو حالة ذهنية تشكل نوعاً
من الإيهامات بالواقع. يقول الناقد شاكر حسن راضي في ذلك: "وفي الوقت الذي لا
تتظاهر فيه الرواية بأن الأحداث التي تسجلها أو الأشخاص الذين تقدمهم يمثلون جانباً
جمالياً، كما هو الحال مع المسح التاريخي أو السيرة الذاتية، إلا أنها تبقى تعتاش في
استعاراتها على نسيج الخطابات اللغوية التي تصنع ذلك العالم. فالرسائل المتبادلة في
الرواية، والحوارات التي تدور بين الشخصيات والأحداث والمشاهد التي يسردها الرواة تشترك
في الكثير من الأشياء مع نظيراتها التي تقع خارج عالم الرواية، ويتولى الروائي عملية
التشذيب والمعالجة وفقاً لمتطلبات حدود عمله؛ لكننا نحكم على نجاح العمل بمدى قدرته
على الإقناع والإيمان به كنتاج نهائي". ويضيف الناقد أيضاً أنه حتى مع استخدام
أساليب تجريبية مثل أسلوب تيار الوعي الذي لجأ إليه جيمس جويس في روايته "يوليسيس"
مثلاً.
ويرى عبد الملك مرتاض أن كاتب العمل الروائي يحاول
أن يجعل الشخصية الساردة في مقام المتكلم عن جميع الشخصيات، متى أراد ذلك وتحت أي وصف
يراه مناسباً، فقد يعطي السرد الفن الروائي اللغة الشاعرية التي تؤكد الاقتضاب والتكثيف
والابتعاد قدر المستطاع عن سوقية الكلمة أو تقعرها، لغاية إثارة المتلقي وجعله يقوم
بدور تكملة العمل، ولا يكتفي أن يكون مستهلكاً له. إن السارد عندما يريد أن يقدم شخصياته
الروائية يعمل على استعراض بعض المعلومات عنها، أو طرح إرشادات ونصائح، أو النفور من
بعض المواقف التي تنخرط فيها، أو تجميلها بحسب رؤيته كسارد أو بتعبيره عن رؤية المؤلف
نفسه.
ومن هذا المنطلق، يقول الباحث: "وبفعل تأثري
بالكتابات الروائية العربية الحديثة والمعاصرة، وظهور نصوص روائية متميزة استطاعت أن
تتبوأ مكانة هامة على مستوى المدونة السردية العربية، وخاصة السرد النسوي، فقد حاولت
في هذا البحث أن أحاور نصاًّ روائياً نسوياً وضع بصمته في هذه المدونة، وتمكن أن يترك
أثراً كبيراً في الساحة الأدبية العربية، خاصة وأنه حاز جائزة البوكر في صيغتها العربية
عام 2010، وهو رواية "طوق الحمام" للروائية السعودية رجاء عالم".
وويضيف الباحث أيضاً في معرض حديثه عن المنهج:
"أما عن سبب اختياري المنهج الاستدلالي لتحليل هذه الرواية، فلأنني أرى أن الاستدلال
أحد العناصر الأساسية في الخطاب الروائي، باعتباره عملية ومهارة تفكيرية، تقوم بدور المسهِّل لتنفيذ أو ممارسة
عمليات معالجة المعلومات التي تضم التفسير والتحليل والتركيب والتقييم، ويضعه في المستوى
الثالث من عمليات التفكير المعرفية بعد استراتيجيات التفكير المعقدة... ويرتبط الاستدلال
بعدد كبير من الموضوعات؛ كالتفكير الناقد، والمنطق، واللغة، والمعرفة،... وغيرها. فالاستدلال
يهدفُ إلى توليد معرفة جديدة عن طريق إعمال الفكر في المعلومات والأدلة المتوافرة،
وتقليب الأمر على وجوهِه، واستخدام قواعدَ واستراتيجيات عملية معقولة للوصول إلى نتائج
صحيحة ومقبولة. كل هذا يتطلب وعياً من الباحث تجاه النص الروائي فيستوعبه من خلال عناصره
السردية، وتفاعلاته النصية الخطابية، ثم في النهاية بلاغته وآليات بناء المعنى فيه".
اعتمدالباحث في الكتاب على مخطط مناسب لدراسة هذه
المستويات وعناصرها المتداخلة، حيث قسمته إلى مقدمة ومدخل نظري وفصلين اثنين، ثم وصلت
إلى خاتمة، ولم أغفل ملحقا خاصاً بأهم المصطلحات الواردة في البحث، وسجلت قائمة بالمصادر
والمراجع التي اعتمدت عليها فيه، إضافة إلى فهرس بموضوعات البحث يظهر هيكلة عامة للبحث
وتبويبه.
كما عمل في المدخل النظري على اتباع منهج معين عالجت
فيه العديد من المباحث الخاصة بعلم البلاغة وعلاقتها بالتداولية، حيث عالجت فيه مفهوم
البلاغة انطلاقاً من أرسطو إلى اليوم، حيث تحدثت عن مفهوم البلاغة وتطورها عند العرب،
ثم مفهومها في الثقافة الغربية، وتحديد العلاقة بين الشعرية والخطابية انطلاقاً من
رؤية أرسطو ومن جاء بعده إلى حدود عصرنا الحالي، ثم حاولت تقديم تعريف خاص للتداولية
كما جاءت عند بعض التداوليين الغربيين ومنهم أوستين وسورل صاحب نظرية أفعال الكلام،
وعلاقة البلاغة بالتداولية حيث نجد أن البعد التداولي في البلاغة متصل اتصالاً مباشراً
بنشأة البلاغة في الغرب، وخاصة في إطار الحجاج عند أرسطو وتلامذته من بعده. ومررت بعد
ذلك إلى الحديث عن علاقة التشفير بالاستدلال في إطار المقاربة التداولية حيث نجد أن
الناقد المحلل للنص الأدبي يحاول في عمله أن يفك آليات التشفير التي يوظفها الأديب
داخل نصه وفهم كيفية اشتغالها، وفهم النسق العام والخاص الذي تحتل فيه اللغة مركز الرمز
والإشارة، فيعمل على الأقل على الاقتراب من النص من أجل إيجاد التأويل والفهم الواقعي
أو غير الواقعي لهذا النص...
هذه المباحث لها علاقة كبيرة بمحددات المستوى المقامي
السياقي في النص الروائي، ولا يمكن الفصل بينهما، نظراً لأهمية هذه المباحث في إطارها
التركيبي المعجمي والنصي لتحقيق المعنى وبنائه. ولذلك كان عليه في هذا الصدد أن يعالج
الخطاب السردي والملفوظ، ثم مر إلى تحديد أهم الخطوات التي عالجها في الفصلين الآخرين
من البحث والمتعلقين بالمستوى التطبيقي على نص الرواية...
أما الفصل الأول فقد خصصه المؤلف للوقوف على أهم
العناصر المكونة للبناء السردي في الرواية، حيث قام بعرض العناصر التالية وتحديد أهم
وظائفها في النص الروائي وهي: الزمن وسيرورة الأحداث، والشخصيات وتفاعلها في الفضاء
الروائي، ثم عرج إلى مبحث آخر يتعلق بالتفاعلات النصية التي حددناها في العنوان من
خلال دلالته واشتغاله في النص، وخطاب المقدمات وخاصة الاستهلال ومدى تقديمه لأحداث
النص والوقوف على أهم محطاته. أما على مستوى مبحث التفاعلات الخطابية فقد بحث في السارد
والخطاب المسرود من خلال الوقوف على بعض أنواعه في الرواية، ثم الرؤية السردية بكافة
أنواعها، لينتهي في البحث عن أهم مظاهر الترهين السردي في الرواية. أما على مستوى مبحث
التناص فقد حدد الاستراتيجية الأساسية التي اعتمدتها المؤلفة في الرواية والتي من خلالها
استدعت نصوصاً وأفكاراً ومواقف خارجية وداخلية لتغني نصها الروائي.
وأما الفصل الثاني الذي عنونه ببلاغة السرد وآليات
إنتاج المعنى، فقد حاول فيه استغلال عناصر المستوى اللساني والنصي للبحث في المستوى
المقامي والسياقي للرواية، حيث بحث في قضية أفق انتظار المتلقي (المقصدية الإخبارية
والمقصدية التواصلية) والذي استطاعت المؤلفة من خلاله أن تغذي قارئها فكرياً، وتثير
شهيته إلى القراءة، فروايتها تنساب بالسرد الجميل، من خلال غزارة الأفكار والمعارف
التي تعتمد على لغة سردية تستنجد بالرمز والإيحاء، وعلى بلاغة لغوية ضاربة في الإبداع،
وعلى مهارات تفكيرية واستدلالية تساعد المتلقي على معالجة المعلومات ووفرتها في النص.
ثم بعد ذلك حاول أن ينتقل من الدلالة المضمرة في النص إلى المعنى الخاص بها وذلك من
خلال البحث في علاقة التخييل بالذاكرة ومساهمتهما الفعالة في إنتاج المعنى داخل الرواية.
لينتهي في هذا الفصل إلى تحديد أبعاد السخرية الدلالية باعتبارها تنكشف في تحقيقها
الجيد للبعد الأدبي المتميز في النقد الاجتماعي والسياسي والديني لبعض المواقف داخل
الرواية.