إذا كان تاريخ الفكر هو تعبير عن الهيمنة، فإن الفيلسوف هو مكتشف هذا التاريخ، وهو الذي يرعاه كما لو كان ابنه الشرعي، ومن أجل أن يصبح في وضع ثابت، يوجهه نحو
النقد التنويري الذي يدعو إلى التحرر من السلطة وسلطة العائلة، التي تحكم بالطاعة والإخضاع بالعنف، والسيطرة بالإيديولوجية.هكذا تصبح سلطة العائلة تهيمن من خلال: «القدرة على فرض الطاعة»، باعتبارها أداة الشرعية، لأن المعتقدات والآراء الأسطورية تمارس تأثيرها على أرواح العبيد، والسلطة لا تقاس في الفضاء العربي المقهور إلا بالهيمنة والنفوذ وبالتأثير الذي يمارسه الحاكم المستبد على أفراد المجتمع».
ولذلك أن من يمتلك الشرعية الدينية، ويحتكر العنف الجسدي هو من يسيطر على الدولة، ويفرض الطاعة لتوجهاته الإيديولوجية، التي تصبح قواعد مقبولة من قبل الأغلبية، ومطاعة من طرف الجميع، لأن من ينتقدها سينتقد الشرعية الدينية، ومن ثم سيكون مصيره العنف الجسدي، والقهر النفسي والاجتماعي، ولعل الفيلسوف الذي يرفض الوضعية الراهنة، والعيش تحت سيطرة سلطة العائلة المقدسة، سيجد نفسه خارج المجتمع، يتحرك نحو الاغتراب، وربما سيختار إقامته مع ابن باجة في تدبير المتوحد؛ هذا الذي شيد جمهوريته على الحرية والحكمة، يحملها معه أينما ارتحل يحميها من الأعشاب الضارة، ويخاف عليها من الطغاة، إنها جمهورية الفلاسفة، ولا يدخلها، إلا من كان فيلسوفا.
فما معنى أن يصبح الإنسان فيلسوفا في جمهورية العبيد؟ هل معناه الخوف على نفسه؟ أم الخوف على الفلسفة؟
ولماذا كل هذه المقاومة من أجل منح الفلسفة الحق في الإقامة في هذا الفضاء الشقي؟، ألا تصبح الفلسفة شقية من شدة تأثرها بشقاء المجتمع العربي؟، وهل بإمكانها أن تنسى محنة الفلاسفة إلى الآن؟.
الهيمنة والانعتاق، الحرية والاستبداد، الظلام والتنوير، الطاعة والنقد، تضاد يسود في السماء كالغمامة السوداء، يحجب الرؤية عن مشاهدة شراسة الطبقة السائدة، وحملها مجتمع العبيد على تبني قيمها واعتقاداتها، بالعنف والشرعية، هكذا تتم صياغة المجتمع بكامله في مفهوم سلطة العائلة المقدسة، يتحرك حسب مشيئتها، يخدم إرادتها، وفي عتمة هذا الليل يبرز الوجه المشرق للفيلسوف الذي يضحي بحياته في سبيل رفع المعاناة والشقاء على هذه الطبقة المقهورة، لكن في أي تأملات يغرق هذا الغريب في الراحة والصمت؟ وأي راحة؟ وأي صمت؟ وهل ينتظر المغيب لينعم بشفق المساء؟.
إنها رحلة في الخوف المطلق، تتزود بالانعتاق والتحرر من أخلاق العبيد الذين تعودوا على الانحناء والطاعة للعائلات المقدسة من المحيط إلى الخليج، لم أشاهد جماعة من المواطنين الأحرار، لأنهم يعيشون في المنفى أو أركيولوجيا الصمت، لأن النقد التنويري يرعب هذه السلطة الخرافية، ولذلك فإنها تحاصره، تهمشه، تتهمه بالزندقة، ولعل هذا ما يساهم في نشر ظلامية القرون الوسطى، وحرمان العلم من ثورته، والتنوير من انتشاره، والنقد من فعاليته وهدمه للهيمنة السياسية.
بما أن الخضوع لمحكمة النقد لم يعد ممكنا فإن خضوع المجتمع لاختبار العقل يظل أيضا مستحيلا، فبأي معنى يمكن فهم هذا التأجيل للتاريخ؟، وما الذي تستفيده هذه العائلات ما عدا استحواذها على خيرات البلاد والحياة الباذخة؟، ومتى تتم عملة إزالة القناع عن الوجه البشع للهيمنة السياسية التي تختفي وراء العقيدة؟، بل متى يستيقظ هذا الشعب من التخدير لإدراكه؟.
في سكينة هذا الألم الجوهري تتحرك جدلية النقد والتنوير، بيد أن العائق الإبيستيمولوجي الذي يحاصر هذا النقد يتجلى في العقل التراثي، ومعنى ذلك أن مشروعية المذهب النقدي، ينبغي أن تنطلق من تحرير العقل من أوهامه وأساطيره، ذلك: «أن نقد العقل الخالص لكانط يشير إلى الحاجة إلى أن نصحح أنفسنا، وأن نقومها، وإلى رغبتنا في إرضاء هذه الحاجة».
كاتب من المغرب