إنه جواز السفر السوري ذو اللون الزيتي، فقد رفعت
رسوم إصداره إلى 800 دولار حسبما تناهى لعلمي. فالنظام يكسب من لحم السوريين المشردين
في أصقاع الأرض،
ويقتل ذويهم في حوران والقلمون وهضاب مضايا وبقين.
ربما لا يصدق القارئ أن جواز السفر السوري كان يصدر
أيام الأسد الأب ويختم عليه بالسماح بزيارة كل دول العالم إلا العراق، لشدة البغضاء
بين صدام والأسد. أنا شخصياً عانيت منه الأمرّين، وأذكر أني أردت تمديد صلاحية الجواز
بعد مغادرتي ألمانيا إلى بلد خليجي، حيث رفضت السفارة ذلك. ظننت نفسي في ألمانيا فرفعت
الهاتف، وطلبت الحديث مع السفير، وقلت له: كيف أستطيع التنقل من دون وثيقة تقول إنني
مواطن سوري؟ أجابني بلغة ذكرتني بـ «البعث» السوري: طبعاً لن نعطيك ما تتحرك به يميناً
وشمالاً. فعرفت أنني وقعت في الفخ، ولم يكن تمديد الجواز بالرحلة السعيدة. كانت رحلة
عذاب استمرت حتى حملت جواز سفر كندياً يمكنني من السفر براحة ويسر.
أذكر هذه الظروف المأساوية لأن أجد أصدقائي، وهو
جراح يعمل في أحد البلدان العربية، اتصل بي البارحة وقال: رتبت أمور سفري لأفاجأ بمنعي
من السفر لقضية لا ناقة لي فيها ولا جمل. صديقي حدثني عن محنته مع جواز السفر السوري،
فقفز إلى الدومينيكان، حيث رست سفن كولومبوس يوماً، وأصبح من رعايا تلك الجزيرة المنكوبة،
لكن بتكلفة 25 ألف دولار، قلت له وأنا أحدثه: انتبه وحاول مراجعة سفارة الدومينيكان
إنْ كانت لها سفارة، واطلب استخراج جواز جديد، للتأكد أنك فعلاً من مواطني الجزيرة
الفقيرة!
أما صديقي الآخر، وهو مهندس، فقد طار إلى الأرجنتين،
فاستخرج جواز سفر، ولم يقم في البلد سوى يوم وليلة، لكن مقابل حزمة دولارات خضراء تسر
الناظرين!
وتبقى محنة صديقي الآخر الذي عبر البلاد إلى كندا،
فعاش مع الدببة القطبية في زمهرير كندا ثلاث سنين عددا. وكان يكرر على مسامعي: الجنسية
قبل الاختصاص!
أما الزواج بالأجنبيات فقصصه عجيبة، ومنه «زواج
الأوراق»، وقد استخدمه سوريون كثرٌ هرباً من جحيم «البعث». وفي ألمانيا التقيت بليبيين
أيضاً هربوا من جحيم القذافي. والآن في مونتريال بكندا ألتقي صحفياً شاباً ووسيماً
ومثقفاً من موريتانيا، اعتقل مرات عدة مع اندلاع «الربيع العربي»، ثم هرب إلى أميركا،
وبقي يكافح ست سنين لنيل اللجوء السياسي، ففشل، ما دفعه لعبور الحدود الأميركية إلى
كندا مشياً على الأقدام في الثلوج. حدثنا بقصته المثيرة عند عائلة حورانية فرت بدورها
من الجحيم البعثي، فآوتها امرأة كندية. قال الموريتاني: عبرت منطقة ليست من المعابر
الرسمية، لا يرد فيها أحد.
وتبقى آخر قصة في سيمفونية جواز السفر السوري هي
الفضيحة التي تناقلتها الأخبار مؤخراً، ومفادها أن ألمانياً متطرفاً من اليمين، ادعى
أنه سوري لاجئ، وحمل الجواز الأسود، وعبر الحدود الألمانية على أنه سوري هارب، ونجحت
خطته، وكانت المرحلة الثانية في انتظاره، وهي تنفيذ عمل إرهابي ونسبته للسوريين الفارين
تشويهاً لسمعتهم، إلا أنه ضُبطَ، وكانت فضيحة لليمين الألماني المتعصب.
الأقدار تدمغ المصائر، وهكذا، فالسوري كتب عليه
هذه الأيام، أنه من الهاربين أو المقتولين أو الغارقين في عرض البحر، مذكراً بمصير
البلاشفة البيض، أو أهل اليمن القديم حين حدثنا القرآن عن قصتهم كيف مزقوا شر ممزق
وجعلهم التاريخ أحاديث.