حدث ما كنا نخشاه وحذرنا منه عندما قلنا إن إقحام
الدين في مجال الصراع السياسي والاجتماعي لا يؤدي إلا إلى أوخم العواقب، فالدين مجال
للاعتقاد الشخصي وليس آلية
لتصريف الخلافات سواء بين السلطة والمجتمع أو بين تيارات
المجتمع وأطرافه، ذلك أنه لا أحد يستطيع أن يتحكم في عمليات المزايدة التي تنشأ عن
مثل هذه الانحرافات، والتي قد تتجاوز كل الحدود كما حدث في بعض بلدان الشرق الأوسط،
الغارقة اليوم في خراب شامل
إن حراك
الشارع وكذا النقاش العمومي الذي يتناول قضايا السياسة أو تدبير الشأن العام يفرض المتابعة
عبر وسائل الإعلام والقاعات العمومية والشارع ومنصات الحوار والخطابة السياسية، وهو
شرط لا يمكن أن يتحقق في المساجد لأنها ليست فضاء للاختلاف والصراع لا بين التيارات
ولا بين السلطة والمواطنين، مما يجعل انفراد السلطة أو أي شخص من الأشخاص أو تيار ما
باستغلال منبر ديني معين من أجل كيل الاتهامات لغيره أو تصفية الحساب معه نوعا من التطاول
والتجني غير مقبول.
لقد لوحظ غير ما مرة بأن وزارة الأوقاف كلما تعلق
الأمر بخطيب يهاجم السلطة تتدخل مباشرة بالردع والعقاب ضدّه حيث تعتبر نفسها متضررة،
بينما حينما يتضرر غيرها تترك الوضع على ما هو عليه، والحال أنه لا أحد ينبغي أن يتضرر
من المساجد، لأنها لم توجد من أجل ذلك.
وقد لوحظ أيضا بأن إحدى الجماعات الدينية المعارضة
قد أصدرت بيانا تندد فيه باستعمال السلطة للمساجد، بينما نسيت بأنها هي نفسها استعملت
المساجد من خلال بعض خطبائها، كما أنها سكتت دائما عن استعمال تيارات دينية أخرى متطرفة
للمساجد هنا وهناك، فالنتيجة هي نفسها، إذ أن كل استعمال سياسي للمساجد من طرف أي كان
لا بد أن يؤدي إلى نفس العواقب، ألا وهي تصنيف الناس عقديا وتحريض البعض ضد البعض وإثارة
النعرات وصرف الاهتمام عن المشاكل الحقيقية وخلق التصادمات في أمور ثانوية ليست هي
جوهر ما يضمن الكرامة للناس بوصفهم مواطنين متساوين.
بهذا الصدد حدث تصادم بين السكان والقوات العمومية
في بلدة بجوار مدينة قلعة السراغنة، حيث طردت الوزارة خطيب مسجد تشبث به السكان وحاولوا
فرضه على الدولة، والحال أن علينا أن ننظر إلى أسباب طرد الخطيب، فإن كانت بسبب تبعيته
لتيار ديني سياسي معين أو جنوحه في الخطبة إلى الغلو والتحريض، فإن الدفاع عنه سيكون
أمرا صعبا، لأن تزايد جمهور الخطباء المتطرفين في البلدان المتخلفة هو أمر معتاد، لكنه
ليس مبررا لتشجيعهم على المضي في طريق الفتنة. فالمواطنون الذين يعانون من التهميش
والقهر قد يجدون في التطرف ملاذا لهم في غياب الحلول الفعلية لمشاكلهم، والاختيار الأسلم
ليس هو تشجيع التطرف بل هو التنمية الحقيقية مع الحفاظ على حياد المساجد من الناحية
السياسية والإيديولوجية.
إنّ المساجد أماكن عبادة ووعظ وإرشاد، إن تحولت
إلى منابر لمهاجمة أي كان صارت أشبه بالمقرات السياسية والقاعات العمومية ووسائل الإعلام
الرسمية والخاصة، وأصبح للمتضررين حق الردّ من منابرها دفاعا عن أنفسهم، وهو ما لا
يكون متاحا لهم فتنشأ عن ذلك مواجهات تؤدي إلى مزيد من الظلم والحيف كما حدث بالحسيمة.
إننا نؤكد مرة أخرى على أنّ حياد أماكن العبادة
مبدأ راسخ من مبادئ دولة القانون والمواطنة، التي تساوي بين جميع أعضائها بدون أي شكل
من أشكال الميز، كما أن إقحام هذه الأماكن في الصراعات الإيديولوجية والفكرية والسياسية
من مظاهر الارتباك والهشاشة وعدم الاستقرار.