إذَا كُنْ
بِحَرْفَيْنِ قَدْ أوْجَدَتْنِيَ
بَعْدَ فَنَاءٍ، وَ مَا
بَيْنَ حَرْفَيْنِ سَوْفَ
أعِيشُ، أمُوتُ كَأنْ
لَمْ أكُنْ..! (الشاعر)
نجاة الزباير
تفتح لنا كتاباتُه واحة من ضوء
يقول :
هذا أنا..
أرض الشعر وطني المليء بالينابيع والسنابل
وفي غواية الحرف تتسع لغتي.
ندخل بنعل الترقب، فنراه حسونا يصدح بالغناء.
..............................
محمد بشكار،
هذا الشاعر الأشبه بالراعي الذي يتقاسم مع العالم عوالم تخلق من تربة الكتابة،
ضياء يحتفي بطقوس الجمال في هذا الكون، فلا نرى غير شُعيرات زمنه تقتحمنا بدون استئذان
لتستوطن ذاكرة القارىء.
فهل هو ذلك الشاعر الذي يرتدي قميص التفرد، لتصبح
الحروف مبتلة بعطر ذاته ؟
أم تُراه صوت شعري جمع في ذبذباته ستائر الماء، كلما رفعها رأينا المدى
الأزرق مفتوحا على الحلم؟
على حافة نبيذية تُفْرِدُ نوارسه أجنحتها، أنفاسه
يَمُّ اختلاف بين القصائد يجري، وأسراب غزلان تترك وشمها في صحراء مجازاته.
في مخدع حبره يفتح الليل حقائبه، ينثر لهاثه النازف،
فتفتح له شوارع الإبداع نافذة أسرارها، كي تولد قصائده علامة مضيئة في مسار القصيدة
المغربية المعاصرة ، وأيقونة اختلاف في خريطة الشعر العربي.
إنه لاعب
نرد لغوي لا يجاريه أحد من مجايليه في كيفية استعماله للمفردة التي يختارها ببراعة،
والتي تشكل رافدا من روافد جماليات إبداعه، وكأنه يعيد تشكيل العالم من خلال نبضه.
فإذا كان جون كوهين يرى بأنه"لا يتحقق الشعر
إلا بقدر تأمل اللغة وإعادة خلقها مع كل خطوة." فإن محمد بشكار يمثل حالة استثنائية
في تطويعها والتنقل بين أشجار سحرها. فكلما وقف على باب الكون نراه يسافر في سماواتها،
ولعل اللوحة التشكيلية التي رسمها بفرشاة المعاني العميقة في قصيدته "عَادَاتٌ
لا أُقْلِعُ عَنْ نَهْرِهَا"..! إحدى إشراقاته التي تمثل ثِقْلًا شعريا في ميزان
تجربته المتفردة.
هي رحلة نفسية عميقة تقطع فيها ذات الشاعر المسافات
حبوا، إنها "أناه" التي تتشظى جمالا بحضور لافت داخل هذا النص المكتوب بماء
الألق، نرى من خلالها عصافير الحب تنقر جدار القلب وتحط رحالها بين بساتينه، إنه نهر
الحب الخالد الذي لا تُقْفِرُ جنباته، وتستمر ظلاله حين يستلقي الشاعر عازفا على لحنه، فلا يعرف غير أن يغفو بين عيون حبيبته
ليجمع في ردائه الأرض والسماء.
يقول:
عَادَةً
يَبْدَأُ النَّهْرُ مِنْ
حَيْثُ أَنْبُعُ،
لَكِنَّنِي لَسْتُ أَعْرِفُ
فِي جَرَيَانِي إِلَيْكِ سِوَى
أَنْ أَصُبَّ عَسَانِي
إِذَا فِضْتُ أَرْفَعُ
أَرْضَكِ فِي جَسَدِي
للِسَّمَاءِ أَنَا المَاءُ لا يَنْتَهِي
ظَمَإِي الشَّبَقِيُّ بِمَاءٍ
وَ كُلُّ عُبَابٍ
بِعَيْنَيْكِ يَتَّسِعُ..! (...)
إن الشاعر محمد بشكار ذو وعي شعري مسافر في غوايات
الدلالات التي تعانق بعدا فلسفيا لا تخلو منه قصائده، حيث يحسن الإصغاء لجوهر الوجود،
ويمنح القارىء صك تأملاته ، محاولا القبض على الأسرار الثاوية وهو يتحدث عن إحدى تجارب الإنسان المثقلة بهواجس الخوف من الآتي.
فبعد رحلة الحياة العادية هناك رحلة أخرى تمثل امتدادا
لها، فهل تسقط كل أردية الشعراء بعد أن يطويهم
العراء؟ طبعا لا، يبقون أحياء بقصائدهم التي تزقزق في السماء وتنادي باسمهم كل حين.
إنها فَسِيلَةُ الحياة التي تتنقل مع دوران الأرض،
لا أحد يعرف أي يد غيبية ستغرسها في تربة الوجود من جديد.
يقول :
نُعَمِّرُ مَا
عَمَّرَتْ هَذِهِ الأرْضُ،
نَمْضِي وَتَبْقَى الحَيَاةُ نُوَرِّثُهَا
دُونَ صَكٍّ
وَ عَنْ طِيبِ غُفْرَانْ،
لآخَرَ يَحْمِلُ أعْبَاءَ
جِينَاتِنَا فَنَصِيرُ جُذُوراً
تُسَافِرُ فِي الوَقْتِ تَحْتَ
التُّرَابِ؛ وَ قَدْ
يُصْبِحُ الجِسْمُ فِي كُلِّ عُمْرٍ
تَعِيشُهُ جِينَاتُنَا،
شَجَراً لَيْسَ يُشْبِهُنَا؛ لِنُعَمِّرَ
مَا دَارَتِ الأرْضُ.
وكأني بها رقصة زوربا على بقايانا، فماذا لو التقينا
بأنفسنا بعد ألف عام أو يزيد؟
يقول:
تُرَى
لَوْ الْتَقَيْنَا بِأَنْفُسِنَا بَعْدَ
ألْفِ سِنِينَ، سَنَعْرِفُهَا أَمْ
سَنَحْظَى بِنُكْرَانْ..! (...) (قَصِيدَةُ الغُفْرَانْ )
لم يتفوق الشاعر بشكار في الشعر فقط، بل جمع أيضا
في دواة روحه أطراف البيان التي سرعان ما أروت بتدفقها أرضنا المتعطشة لمثل كتاباته
التي تُذَكِّرنا بعمالقة النثر العربي، لذا فهو أميره في هذا الوطن بلا منازع.
فالصفحة البشكارية الزرقاء بطاقة تزحف في جسد الأبجدية،
تعانق الشعر في أبهى تجلياته، وتزرع الألغام في سطوره النثرية التي تعانق كل الأوجاع.
نقرأ فيها عن السرقة الأدبية التي غزت القلعة الزرقاء،
حتى ظن كل قرصان يستولي بدهاء على ملكية الغير أنه حامل قلم لا يُشَقُّ له غبار في
فيافي الأدب، يقول صارخا في مقال " إذا كان اسمُكَ (الفَايْسْـ) فأنا أبُوك..!:"
: "أعترف أنني كرهت الكتابة و ما يأتي من الكتابة، و أنا أرى رأسي بعد أن كان
مرفوعا في أحد النصوص، أصبح مجرورا أو مهشما مكسورا على يد من يسرقون حبر جبين غيرهم..."
وانسابت روحه ألما لِمَا آل إليه الكتاب المغربي
من تردي وتهميش، فوصف في لغة راقية قصة كاتب لم يستمتع بإصداره الذي رعاه بأرقه وثقوب
روحه النازفة، لأنه وجده يستوطن التراب بدل أن يكون في كبريات المكتبات، إنه موت سريري
للكتاب الذي يجوب أزقة الإهمال ويُعْرض في ساحة تنادي" بَالِي للبَيعْ..!" كما جاء في عنوان مقاله الذي أزال القناع عن مأساة
الكاتب في بلادنا.
وكأي كاتب مسؤول من خلال منبره الإعلامي، عايش الأزمة
السياسية التي سميت ب "البلوكاج الحكومي" ، فسكب غضبه من خلال قلمه اللاذع
على كل الذين كانوا يختصمون على حقائب وزارية، ونسوا واجباتهم اتجاه شعب يطالب بحفظ
كرامته وتوفير العيش الكريم له، ألم يكن هو من حملهم بواسطة الانتخابات إلى برجهم العاجي؟
يقول في تشريحه المؤلم "خذوا كل القِطاعاتِ
المقطْوعة من لحْمِنا..!:" خذوا كل شيء، بالله عليكم لا تتركوا شيئا إلا أخذتموه
فنحن في نظركم لا شيء..!
"
ورغم أن قطرات دمه ممزوجة بأحابيل السياسة فهو لا
يرغب في تسلقها من أجل مجد أو شهرة كما يقول بل: "أريد من بعض السياسيين أن يتركوا
لي مع السواد الأعتم لهذا الشعب هامشا ضيقا للعيش في كل المساحات التي استولوا عليها
عقارا و بحارا..!".
فهل هو روبنهود المهمشين الذي سرق النار البروميثية
كي يعلو صوته بالحق لإنصاف الضعفاء؟
نعم..نظنه كذلك.
هكذا تستفيق قُبرات الجمال من بين أصابعه التي تتلو
دوما نشيد التزامه بقضاياه، أو ليس حسونا يغني للقصيدة في كينونتها ، محاولا أن يمسح
عن الوطن بعضا من أوجاعه من خلال سرد سحر حكاياتِه؟