" ليس هناك قواعد مسبقة للإبداع طالما أن العمل الإبداعي يتشكل خارج كل القواعد المسبقة"
لا يتحقق الإبداع بصورة ذاتية وبالاعتماد على تجربة ذاتية مستقلة عن طريق القطع مع الموروث والخروج التام عن التقاليد بل بإعادة تملكها من خلال إعادة قراءتها وتحديثها من داخلها ولا يتبلور بواسطة مواجهة الوافد الحضاري ومحاربة الدخيل منه بل بتشريحه وخلخلة تمركزه والمعالجة منه.
التعويل على الذات الحضارية يصد عملية الإبداع وذلك لكثرة الاجترار والتكرار والنسخ والاقتباس وكذلك الاتكال على الآخر الثقافي يعطل العقل عن الاستفاقة ويجعله يكتفي بالتقبل والانبهار والاستهلاك.
لهذا يمر الإبداع من خلال حل مشكلة الأنا والآخر والإفلات من قبضة الثنائيات وتوفير المناخ العام وتهيئة الظروف الموضوعية وتقوية الاستعدادات الذاتية وتشبيك الأمزجة والطباع مع المهارات والتجارب المكتسبة وتركيب العام مع الخاص والفردي مع الجماعي وجعل الصحة النفسية مقاما عقليا.
إذا كان الإبداع النظري قد تجمد بسبب تحويل حب الحكمة الى حب للتحكم وإذا كان الإبداع العملي قد ألغى مطلب السعادة وخضع لنداء الواجب وأدخل الحرية في عراك مع الضرورة فإن الإبداع الذوقي هو الوسيط الذي يجعل الفلسفة تؤلف بين التدرب على التفكير وفن الحياة ويساعد العمل أن يكون التزاما وتحملا للمسؤولية والسعي إلى التغيير من خلال تلازم التخييل مع إعادة التشكيل وترابط الأمل والفعل.
لا يتبع الابداع مسارا خطيا ولا يقتضي القيام بحركات نمطية وعمليات مكانيكية واتجاهات واحدة وانما يتعلم من التجريب ويتأقلم مع كل حقل جديد ويلتصق بعمليات الرصد ووورشات العمل وقوى الانتاج. فإذا كانت الشخصية المبدعة تتميز بكثرة المهارات وتنوع الاختصاصات واذا كانت الأعمال المبتكرة تتوزع بين المجالات وتتالى في مختلف الحقول فإن الإبداع يصير ظاهرة متعددة الأبعاد ويمتلك أغراض شتى وعناصر متداخلة ويستوجب توفر عوامل متباعدة وشروطا نادرة وممارسات شاقة ووضعيات خاصة.
على هذا النحو لا يقتصر الإبداع على المرور بمحك التجربة ولا يكتفي بمرحلة النقد والشك ولا يهتم بالمواقف العدمية اليائسة والتنسيب المعرفي وإنما يعتصم بالتشريح من جهة كونه صنعة المؤرخ للتمييز بين الأكاذيب والوقائع ومن حيث هو أسلوب الطبيب في تشخيص الحالة واستئصال الداء وتوفير الدواء.
من هذا المنطلق يغزو النشاط الابداعي فضاءات التقنية والعلوم والأدب ويتقمص لباس الجماليات والتصوف والرياضيات ويستند الى الافتراض والتصور والتخطيط والتصميم والاستشراف والتوقع ولا تخرج من يده الحلول الا بعد اليأس من البارديغمات السائدة واستفحال الأزمات ولا ينبجس العمل المبدع الا من رحم العمل المتكرر ولا يترسخ الفعل الابداعي الا في مناخ جماعي تتأثر فيه الذوات من التصحر.
فمتى تنحت الفلسفة في ديارنا مسطح محايثتها وتبدع بنفسها المفاهيم اللازمة لطرح مشاكلها وتبحث بمناهجها عن طرق لحلها؟ وكيف تجد الأيادي المبتكرة المخابر الكافية بتطوير الصناعة وتنمية الذكاء؟
كاتب فلسفي