لا يختلف اثنان على أن أطفال هذا الزمن، وشبابه
يمتلكون قدرة فائقة على الانخراط في الوسائط التكنولوجية أكثر من الآباء، بل، يضطر
الكثير من الآباء إلى طلب المساعدة و
المعرفة من أولادهم، عندما يتعذر عليهم الفهم.
قد تبدو المسألة للبعض عادية، باعتبار علاقة الأُلفة
بين الأطفال/الشباب والتكنولوجيا الحديثة، لكن الموضوع يتجاوز تلك الألفة، ليعبر عن
تحول يحدث في ثقافة الأطفال والشباب، وتأثير ذلك التحول على موقعهما في منظومة المعرفة.
تعودنا في المنظومة التقليدية الأب سلطة مرجعية في التربية والتلقين والمعرفة والفهم،
كما شكل المعلم والأستاذ والفقيه سلطة مرجعية لتلقين الفهم والمعرفة، وبموجب هذه السلطة
تأسست ثقافة الأخذ بالجاهز، يكون فيها الطفل/الشاب في موقع المُنتظِر للمعرفة نظاماً
ومضموناً.
كما شكلت المرأة، في إطار هذه السلطة المرجعية،
موضوعا منظورا إليه، مفعولا به من قبل الثقافة المرجعية التي حددت المرأة ضمن مجموعة
من المفاهيم والتصورات، وألزمت المجتمع على الأخذ بها، ضمن منطق التعاقدات والأعراف
الاجتماعية أولا، ثم تأثير هذا المنطق الاجتماعي على قوانين تدبير المجتمع. غير أن
خروج المرأة إلى العمل مع المجتمع الصناعي، بتزامن مع ثقافة حقوق الإنسان والمرأة،
مع ارتفاع نسبة تعليم الفتيات، أدى ـ تدريجيا- بالمرأة إلى الانتقال من موقع الموضوع
إلى موقع الذات الفاعلة والعاملة. فقد غير هذا الخروج الاقتصادي للمرأة منطق نظام المعرفة
الذي بدأ يعرف – شيئا فشيئا- تحولا في منطقه ومحتواه ورؤيته، مع دخول صوت المرأة.
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بدأت عملية
خلخلة نظام المواقع، تعزز ذلك مع الزمن التكنولوجي وإمكانياته الهائلة في تحرير الأفراد
من مواقعهم التقليدية، ومن أنظمة مرجعيات المعرفة المألوفة. اليوم، يفتح الطفل عينيه
على نظامٍ مُختلفٍ للمعرفة، عما فتحنا نحن أعيننا عليه. لا يتعلق الأمر بطبيعة التربية
التي قد يتلقاها من داخل البيت، وإنما من المناخ العام للمجتمع والعالم. ينخرط الطفل،
منذ خطواته الأولى في اللعب الإلكتروني. علاقته باكتشاف العالم وذاته، ومعجمه ولغته،
يبدأ مع اللٌعب الأولى التي يستخدمها للعب. لم تعد اللعب مجرد وسائط ترفيهية، إنما
أصبحت وسائط معرفية. عبرها يُقيم تواصلا مع جسده ولغته، والمواد المحيطة به. باللعب
الإلكتروني، يتلقى الطفل ثقافةً ولغةً ومعجماً ونظاماً. ولأن ذاكرته في طور التشكل
والتكون والامتلاء، فإن النظام المعرفي الجديد الذي يتلقاه عبر اللعب الإلكتروني، يُمكنه
من منطق التعامل، ومستقبلا من منطق التفكير. فهل هيأنا للطفل تعليما بموجبه يستطيع
أن ينخرط في الحياة، وفق شروط طفولته؟
عندما نتحدث عن الطفل وعلاقة نموه بثقافة التكنولوجيا،
فلكي نُشير إلى المناخ الجديد الذي بات يحكم العالم، وعبره تحرر الأفراد من موقع الموضوعات،
إلى موقع الذوات الفاعلة، وفق منطق الزمن التكنولوجي. غير أن هذا الانتقال في الموقع
قد لا يكون منتجا، ولا يسمح بظهور الفرد- الصوت، أو الفرد – الموقف الأيديولوجي الخاص،
إذا لم يواكبه وعي ثقافي وعلمي بمعنى الانخراط في هذا الزمن.
هناك إذن، مفاهيم جديدة تولد، وتحدد مناخا جديدا
للمعاملات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إن الانتقال في مواقع الأفراد، وانزياح
مفهوم السلطة المرجعية، كما ظهرت مع الزمن الصناعي، أدى إلى ظهور طبقة جديدة، تفكر
وتعمل وفق موقعها الجديد، أو ما سماه الكاتب Joël de
Rosnay بالبرونيتاريا في كتابه « ثورة البرونيتاريا»
(2006)، والمُؤهلة لتحقيق «الديمقراطية الجديدة»، التي تسمح لكل المواطنين الذين يتفاعلون
عبر المواقع الاجتماعية ووسائط التواصل، بأن يكونوا شركاء في الاقتراحات، وفي تنفيذ
القوانين.
يستعمل الكاتب هنا، مفهوما جديدا «البرونيتاريا»
لتعيين الطبقة الجديدة التي تتفاعل وتفكر وتعمل، من خلال فضاء المواقع الاجتماعية والوسائط
التكنولوجية، من أجل منتوج جديد للديمقراطية، التي أصبحت تُعرف في سياقات غربية بمفاهيم
عديدة مثل: الديمقراطية الإلكترونية، والديمقراطية الافتراضية. غير أن جويل دو غوسناي
لا يعني بالديمقراطية الجديدة، التي تُعطي أهمية لدور الإنترنت، في تطوير وسائل الديمقراطية
مثلما يحدث في الانتخابات، والتصويت عن بُعد، ولكن الديمقراطية الجديدة هي التي تتغير
فيها علاقة السياسي بالمواطن، من خلال استعمال الوسائط التكنولوجية. وكيف أن مستعملي
الإنترنت بإمكانهم تغيير القرارات، والتأثير في السياسات، إذا ما تم اعتماد التنسيق
والتنظيم.
ولعل من أهم مظاهر تحقيق مناخ الديمقراطية الجديدة،
التي تسمح للمواطنين بأن يكونوا شركاء في تدبير الشأن العام، واقتراح قرارات، والانتقال
بالعلاقة بين السياسي والمواطن، من علاقة خدمة إلى علاقة شراكة متساوية، نلتقي بمفهوم
التفاعل الذي يعني فعل التبادل الحاصل – أو الذي ينبغي أن يحصل- بين عنصرين أو أكثر.
فالتفاعل هو فعلٌ وتبادلٌ. يمكن للفعل أن يحدث، عندما يكون فعل التأثير في القارئ،
ولكن القارئ قد لا يتبادل هذا الفعل. وهذا الفعل له وظيفة هو إنتاج التغيير، أو التحول
في عنصري التبادل. لا يتعلق الأمر بموقع مرجعي يُرسل المعرفة، وعلى الآخر/القارئ أن
يتلقاها بالإيجاب أو السلب، حتى نقول إن القارئ متفاعلٌ من خلال إعجابه، أو لا إعجابه
بالمادة المعروضة عليه للتفاعل، وإنما التفاعل فعلٌ وظيفي لعناصر التفاعل، ولا يعني
عنصرا بعينه، إنما يشمل مختلف عناصر التفاعل حول المادة المعروضة. وعليه، فالتفاعلُ
عليه أن يعْبُر مستويات من تدبير الفعل، حتى يُحقق الهدف من التفاعل، ألا وهو إحداث
التغيير في العناصر. قد يقول قائلٌ: أليست هذه الصفات هي المطلوبة في الحوار، وسبق
للفلاسفة الذين نظروا لمفهوم الحوار، أن تناولوا هذه الصفات، واعتبروا الحوار فعلا
تبادليا بين الأفراد، كما وجدنا عند المفكر الروسي ميخائيل باختين الذي يعتبر الحوار
شكلا من التفاعل الشفهي بين الأفراد، ثم يضيف مبدأ «الحوارية»، ليُعزز مفهوم تحقق الحوار
باعتباره تبادلا بين أصوات/ أنماط وعي، وليس مجرد تبادل كلام بين أفراد.
إن المفاهيم تنتعش من بعضها، وتُطور عمل بعضها،
وقد تستمر في أخرى، لكن بدلالة جديدة، ولهذا، تظل مستمرة باعتبارها ذاكرة للمفاهيم
اللاحقة. وعليه، فإن فلسفة الحوار تُعد جوهر التفاعل. والتفاعل يعتبر تطويرا عمليا
للحوار. وبتأمل مبدأ الحوارية لدى باختين، يمكن اعتبار التفاعل فعلا تبادليا بين أنماط
وعي تتشكل بالتوازي مع التفاعل، وليست أنماطا جاهزة، وربما هنا الفرق بين وظيفة الحوار
ووظيفة التفاعل.
لهذا، نقترح مجموعة من الأسئلة حول واقع علاقتنا
بالمواقع الاجتماعية، ومختلف وسائل التواصل التكنولوجي؟ وهل طبيعة الاستعمال تُحقق
فعل التفاعل؟ أي مستوى من فعل التفاعل حاضرٌ بقوة؟ وهل هناك ملامح لبداية تحقيق التغيير
لدى الأطراف المتفاعلة؟ وهل يمكن الحديث في التجربة العربية، عن بداية ظهور طبقة بمواصفات
فعل التفاعل؟ هل المنتوج الاجتماعي عبر الوسائط ، يُبشر بإمكانية تحقيق التفاعل والتغيير
والطبقة الجديدة، ثم الديمقراطية الجديدة التي تتأسس على مبدأ الشراكة الحقيقية بين
الأفراد والنخب السياسية؟ وهل هناك وعي سياسي بضرورة وضع استراتيجيات في التعليم والإعلام
والثقافة والتدبير السياسي، من أجل حسن تدبير هذا التحول العالمي؟ هل انفتحت الجامعات
العربية على تكوينات علمية تُساهم في التربية على فلسفة التكنولوجيا؟ وهل نستطيع تمثل
واقع التحولات التي تعرفها المجتمعات والسياسات العربية، من خلال تحليل الخطاب الاجتماعي
التكنولوجي؟ تلك عينة من الأسئلة، التي بالاقتراب منها، نفتح النقاش حول موقعنا في
الزمن التكنولوجي.
روائية وناقدة مغربية