وسائل الإعلام ليست هي اليد اليمنى للفوضى فقط، كما يقول دان براون، بل هي أداة تغييب العقل وتبليد الحواس، عندما تقف وراءها سلطة مهجوسة ببرمجة الفرد
والمجتمع، خارج إطار الفكر والممارسة. وهذا طقس يخيم بقتامته على حياة الإنسان العربي في كل مفاصل حياته، ويبلغ أوجه في شهر رمضان، الذي لا يُراد له أن يكون شهر الوعي والإحساس بالوجود، من خلال ما يعرض على الفضائيات من خرافات مستهلكة وسرديات مملة، يؤدي فروضها طابور طويل من رجال الدين المنذورين لتعطيل العقل، وأشباه المثقفين والطارئين على الفن، وحشود من نجوم السوشيال ميديا السطحيين. في الوقت الذي لا يجد المثقف الحقيقي منصة ولو صغيرة لمخاطبة وعي ووجدان وضمير الإنسان العربي. بدعوى أن الشهر الكريم هو شهر العبادات والاسترخاء الحسّي، وليس شهر التفكير والتدبُّر في القضايا الثقافية. وكأن بقية الشهور فضاءات مفتوحة للثقافة والمثقفين.إن ما يتعرض له العقل العربي من قصف على مدار الساعة بالتافه والمسّف والمخدر من السرديات، خلال شهر يُختصر في حيزي التقوى والمغفرة، إنما يعني إفساد الفضاء العام. وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى احتلال الوعي ومسح الذاكرة وتدمير أي إمكانية للتفكير، حتى القرآن، هذا الكتاب المزدحم بالقيم والمعارف والعبر والأفكار، لا توكل مهمة الحديث فيه لمفكرين، بل لفصيل من رجال الدين المنفصلين عن الواقع، الذين يحيلونه إلى كتاب فارغ من المعاني، وكأنه مجرد دستور أحادي البعد، مهمته التبليغ الآلي عن العبادات التي يجترون بدهياتها كل عام. وهذا الفائض من رجال الدين، من كل الطوائف والمذاهب، الذين يخاطبون الناس باستعلاء واستغفال لا يهمهم من شهر الخير، إلا خير صورتهم في وسائل الإعلام، حيث يطلون على الملأ بكامل زينتهم من قصورهم وسياراتهم الفارهة. يرغبون الصائمين في الزهد ورفض المظاهر الدنيوية، في الوقت الذي يراكمون فيه أرصدتهم المالية المتأتية من خداع الناس، ومن أداء المهمة الموكلة إليهم المتمثلة في الإجهاز على أي فرصة للوعي بالذات والوجود.
وإذ يتصدى فصيل من رجال الدين لمهمة إطفاء الرغبة في المعرفة، تستظهر الفضائيات متوالية أخرى لا تقل خطورة من مدعي الثقافة، مهمتهم الإيحاء بوجود الثقافي والمعرفي والعلمي إلى جانب الديني والروحي والغيبي. وهي أدوات أشبه ما تكون بنباتات الزينة التي تحافظ على الشكل وتهدر المضمون حد إهانته وتزويره، إذ لا تؤدي الدور الثقافي بمعناه التنويري، بقدر ما توطّن صورة المثقف الملفق للحقائق. وهذه حقيقة تبدو على درجة من الوضوح في المروجين للمعجزات والكرامات وتصفيح المخترعات بالنص الديني وإرجاع كل المكتسبات الإنسانية إلى أصلانية الثقافة الإسلامية، إذ لا يمكن حضور أي مثقف حقيقي على الشاشة خلال ذلك الفاصل الروحي. وكأن المثقفين هم بعض الشياطين الذين ينبغي تصفيدهم في رمضان، وطردهم بمنتهى العنف واللامبالاة من الفضاء العام. وهذا هو ما يفسر سطوة المثقف البديل، أو الدوبلير بمعنى أدق، الذي يجيد أداء دور المثقف الحداثي القادر على المواءمة ما بين المعارف والدين، وتجسير الفجوات ما بين شطحات العولمة ومراوحات العقل الفقهي، وهذا النمط من المثقفين مثله مثل المحدّث التلفزيوني هم نتاج وأدوات الفضائيات.
أما الدراما المفضلة للفضائيات، فهي ليست تلك المكتوبة بأقلام واعية ومسؤولة، التي تحاكي الواقع وتؤرخ للظواهر والتحولات التاريخية، بحيث تتحول في ما بعد إلى سجل اجتماعي. ولا هي ذلك الشكل من الفكر المنذور لتعميق الاتصال بين البشر وتحويل التصورات المجردة إلى علاقات إنسانية، بل العكس، فهي دراما ضد الوعي والذاكرة، ولا تهب الفرد أي فكرة أو أداة لوعي العالم، لأنها دراما إثارة واستعراض وتغييب واستلاب، وهي مجرد لعبة لهوية لا ترقى إلى مستوى النظام الاجتماعي، بالنظر إلى كونها متخفّفة من الأدب، بل منسلخة عنه، بمقتضى الضرورات الإعلامية، حيث توكل المهمة لشركات إنتاج تجارية شرهة بمقدورها تلميع المهرجين وتقديمهم كنجوم وفنانين ومبشرين بالتغيير والإبدال الثقافي، وذلك ضمن حيلة مكشوفة يتواطأ عليها المنتفعون في الفضاء الإعلامي الذين يحيلون الدراما إلى خدعة كبرى لتزوير الوعي وإبطال مفاعيل الإحساس بالوجود.
ومع صعود الميديا برز جيل شبابي من المتكلمين المنذورين لتقديم وجبات معرفية جاهزة ومستعجلة ونيئة، أشبه ما تكون بالكبسولات الكلامية. حيث تراهن الفضائيات على شبابية المتحدث وعصريته المظهرية، لمخاطبة الأجيال الشابة بلغة سهلة توهمهم بأن ما يشاهدونه هو من صميم إنتاج المعرفة، كما تصور تلك المنابر هؤلاء المتكلمين وكأنهم قادة اللحظة ومفكروها، بل هم النموذج الأمثل للتعامل مع منتجات العصر الحضارية، ولذلك يلاحظ أن خطاب أولئك تمتزج فيه الخبرة الاستهلاكية بالتكنولوجيا، والرغبة المخادعة لتمثل أفعال الخير والإحسان، والاغتراف السطحي من القيم الدينية، لأن هذا الطراز من الميدياويين يُراد له أن يكون عنواناً شكلياً لمثقف مصقول المظهر خاوي الجوهر، إذ لا حاجة تدفعه للقراءة أو التعلّم من العارفين، بل تكفيه غارة على محرك من محركات البحث ليعد كبسولته الكلامية الخالية من أي بعد معرفي، وهذا هو أحد مقترحات الإعلام الفضائي أيضاً لطمس الثقافة.
إن كُلفة أي برنامج من البرامج التلفزيونية التي تتخمنا بها الفضائيات خلال شهر رمضان تكفي لتأسيس مركز ثقافي بكامل مرافقه المادية واللامادية، أو على الأقل سد حاجة الفقراء الذين يتاجرون بقضاياهم وهمومهم. وما تبثه تلك المؤسسات من وعظ ساذج معبأ في أردية حريرية ليس إلا حالة مبرمجة لتفريغ الكائن من وعيه، ومحو ذاكرته، وتسطيح إحساسه بالوجود، وتعميق حالة الاستلاب في ذاته. وهي آلية بقدر ما تعكس خواء القائمين على الفضائيات وتردي حالهم الثقافي، تحيل في المقابل إلى قصدية صريحة للإجهاز على ما تبقى من أطلال الإنسان العربي. الأمر الذي يدفع للتساؤل عن الشكل الذي سيبدو عليه وعي ووجدان الإنسان العربي بعد شهر من القصف الإعلامي المبرمج والمكثف، من قبل رجال دين مستجلبين من القرن الأول الهجري بكل تزمتهم وتقليديتهم، إلى جانب مدعي معرفة أُعيد إنتاجهم بمقاييس الشاشة، بالإضافة إلى حفلات الاستعراض والتزييف التي يؤدي فروضها مهرجون تحت عنوان الدراما. تساندهم في ذلك موجات من الحضورات النيئة لنجوم الميديا المعلّبين!
٭ كاتب سعودي
القدس العربي