بغداد ـ «القدس العربي» ـ من كه يلان محمد: أصبحت الجوائز الأدبية ظاهرةً صاخبة في الثقافة العربية، ويتجلى الاهتمام الإعلامي في التمهيد والدعاية لهذه الجائزة أو تلك،
أو هذا العمل الأدبي أو ذاك، ليبدو دور المؤسسات الثقافية القائمة على هذه الجوائز، وما تبذله من مبالغ طائلة، وهو ما يستدعي تأثيرها على دور النشر وطبيعة ونوعية الأعمال التي تتبناها، وما تحاول أن تستشفه من اللجان المختلفة لمنح هذه الجوائز، ومراعاة ذلك في إصداراتها، وفق بوصلة المناخ العام السائد.وهو بدوره الأمر الذي يفسر صعود شكل أو نوع أدبي معين.ووفق هذه الحركة الضخمة ــ ترويج سلعة الأدب ــ ماذا عن المنجز النقدي لهذا الإنتاج، وكيف يسيطر ذلك ويتحكم في ذائقة القارئ واختياراته اليوم؟ حول هذه الأسئلة كانت آراء نخبة من الروائيين والنقاد العرب..
الاهتمام الإعلامي والمعيار الضائع
يقول الكاتب العراقي سعد محمد رحيم، إن وجود الجوائز الأدبية ينشِّط حقل الأدب، ويحفِّز على الإنتاج الجيد، ويلفت انتباه الناس إلى الأعمال المائزة، والفوز بجائزة كبيرة، وحتى الترشّح لها يتيح الفرصة لتسليط الأضواء على المؤلفين، الذين نادرا ما يحظون بالاهتمام الإعلامي، حتى إن كانوا كباراً قياساً إلى الرياضيين والممثلين والمغنين وغيرهم. لكن في المقابل يجب الاعتراف بأن الجوائز الأدبية ليست معيارا نهائيا لجودة الأعمال دائماً وتفوقها، فقد تغفل الجائزة عن أعمال مهمة وتخطئها. ومن أسوأ آثار الجوائز أنها تسحب عددا كبيرا من عديمي الموهبة، أو حتى من المبدعين في حقول أخرى، لتجريب حظهم في كتابة الرواية، عسى أن يحالفهم الحظ ويفوز عملهم بجائزة، فيما تجعل آخرين من مبدعي الرواية يستعجلون في الكتابة، فيصدرون في كل سنة عملاً ليلحقوا بواحدة من الجوائز، وإذا بإبداعهم ينحدر درجات.
البروباغندا وتحولات المجتمع العربي
ويرى الكاتب والناقد العراقي علي حسن الفواز، أن الدعاية جزء فاعل في صناعة المشهد، أيّ المشهد الذي يخصّ الترويج لسلعة ما، وصولا إلى ما يخصّ الصناعة الثقافية، فبغض النظر عن التوصيف الذي تحظى به الجوائز الأدبية، كونها حافزا للتنافس، أو حتى باعثا على الحراك الثقافي، فإنها تدخل في سياق الإعلان عن خطابٍ ما، خطاب يخصّ الجنس الأدبي، أو خطاب يخصّ المؤسسة التي تقف وراء الجائزة، وهذا لا يقلل من قيمتها، ولا من ضرورتها على مستوى إيجاد حراك ثقافي فاعل، أو على مستوى الترويج لجنسٍ معين، لاسيما وأنّ القيمة المادية لهذه الجوائز ستكون دافعا لما يمكن تسميته بـ (الحماية الأدبية) وتعزيز ثقة الأديب في نفسه وبمشروعه. ورغم أن جوائز الرواية قد تكون ظاهرة، لها مرجعيات ثقافية واجتماعية، لكنها أيضا غير بعيدة عن ثقافة البروباغندا، وعن الدوافع التي تقف وراءها مؤسسات معينة، لاسيما وأنّ أغلب الروايات الفائزة تخضع إلى توصيفات نقدية وسوسيوثقافية، إذ من الصعب فصل الثقافي العربي عن طبائع التحوّل والصراع المُعقّد الذي يعيشه العرب اليوم، على مستوى محنة الهويات والتنوع الثقافي، أو حتى على مستوى نقد الخطاب الديني والأيديولوجي.
صرعة العصر واستهلاك المُستهلَك
وترى الشاعرة والروائية هيلانة الشيخ، أن تفشّى (ورم) الجوائز جعل التلوث الأدبي يتسرب للإبداع، فاختلّت الموازين من الإجادة إلى الإفاضة والرداءة، وبات هاجس الفوز هو المحرض الحقيقي على الكتابة. فالجميع يكتبون، يكتبون لمجرد الكتابة، كما لو أنها صرعة العصر الطاغية، ولابدّ من الانغماس في دهاليزها التي تُجيش لأجلها مليارات الدولارات لتتويج العمل الأكثر ملاءمة للمنهج الممنهج، كدكاكين إعلان للثقافة ترضي غرور الحصيلة الحاصلة. فنرى أعمالاً أدبية تتصدر القائمة، بينما تزدحم بالأخطاء النحوية والإملائية، عدا الكوارث التأريخية غير القابلة للتحريف. فعلى غرار المنح لمجرد المنح، فاز الفلسطيني ربعي المدهون بالبوكر لعام 2016 بروايته «مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة»، وفازت «نكات للمسلحين» لمازن معروف في العام التالي بجائزة الملتقى الكويتية، وفاز السعودي محمد علوان بروايتهِ «موت صغير»، وانشطرت الآراء حول مؤيد مصفق ومعارض ناقم. ولم يُضف الفوز للفائزين الحصانة من النقد، بل أدخلهم في طائلة المشرط النقدي الحاد الجّاد. ورغم هذا الفوز إلّا أن الرواية العربية لن تظفر بقارئ محاصر بموجبات الجوائز وعوالمها وتشريعاتها المسيّسة. فالإبداع أكثر اتساعًا وأفقًا، وأكثر تحررًا من معايير الزمان والمكان. وهذا التضارب حول الرواية المتصدرة، على حساب رواية ربما تكون الأجدر، حتمًا لا يخضع للذائقة. هكذا تم تسليع الإبداع ولم تعد للقارئ وظيفة إلا استهلاك المستهلَك.
الجوائز وخيبات القارئ
وتؤكد الكاتبة السورية هيظا نبي، على أن منح عمل أدبي جائزة هو الطريق الأفضل والأسرع لزيادة الطلب على الكتاب من قبل المكتبات، وبالتالي لوصوله إلى أيدي القارئ. هذه الفائدة تعد ضرورة في ظل اكتساح الروايه المشهد الأدبي عامة، فكأن الجائزة تقوم بعمليه فرز وانتقاء ما لتكون بوصلة في إدارة الذوق الأدبي عامة. وتقوم كذلك مقام النقد الأدبي في عمليه الانتقاء، خاصه إذا ما تحدثنا عن حال النقد الأدبي العربي، ودوره الخجول في دفع الأعمال المميزه نحو الأمام، أو في تصويب ونقد الأعمال التي تتكاثر بهول يوما بعد يوم. لكن على الجانب الآخر فإن الجائزة لا تتمكن من إشباع نهم القارئ في بحثه عن نمط كتبه الخاصة، وتسبب بالتالي جملة خيبات، فأمام عمل أدبي مكافئ، يجد القارئ نفسه مندفعا لعمليه نقد تلقائية، لكن حقيقية في الوقت نفسه. كأن القارئ المندفع بفضوله نحو الكتاب لا يتمكن من الفصل بين قيمه الكتاب والجائزة التي منحت له. كذلك فإن القارئ يضع في كفة الميزان استحقاق الكتاب، وإجماع الآراء العامة حوله، مقابل ذوقه الخاص في الكفة الأخرى، وهذا الأمر يخلق رد فعل سلبي تجاه العمل المكافئ، ذلك أن الذوق الأدبي معقد ولا يمكن لما هو مجمع عليه عامة أن ينال بالضرورة إعجاب الأذواق الخاصة. هذا النوع من الخيبات يرد بين الحين والآخر، سواء بالنسبه للأعمال العالمية الخالدة، أو التي في طور انتشارها وصعودها، كالآراء المتناقضة حول آخر الأعمال الفائزة بالبوكر العربي «موت صغير».
تتويج للرؤية المؤسساتية
ويضيف الناقد الجزائري بن علي يونس، يجب النظر إلى الجائزة لا باعتبارها تتويجا لتجربة إبداعية، بغضّ النّظر عن قيمتها الفنية، بل باعتبارها تكريسا مؤسساتيا لجماليات محددة، إنها تعكس المفهوم المؤسساتي لما يجب أن تكون عليه الرواية، وإعادة تشييد الذائقة الجمالية الجمعية. من هنا، فأي جائزة هي قبل كلّ شيء رؤية مؤسساتية للفن وللأدب، تفرضها على المجتمع من خلال تسويق نموذج فني أو أدبي يوجّه القارئ نحوه. فلا أعتبر الجائزة تكريسا للجماليات المتفردة، بقدر ما هي طريقة ذكية للمؤسسة، حتى تتمكن من التسلل إلى الذائقة العامة، ومحاولة إعادة تأطيرها بما يخدمها. وللجائزة تأثير حقيقي على التوجهات القرائية في المجتمع، فلا يمكن أن نغفل دورها في الترويج للعمل المتوّج. صحيح أنّ قانون اللعبة يفرض أنّ عملا من الأعمال يقع الإجماع عليه، ولا نتصوّر بأيّ حال من الأحوال أن يفوز بها كلّ المترشّحين. وحصول عمل على جائزة لا يلغي بجرة قلم النصوص الأخرى، مهما علا شأن الجائزة. لقد لاحظتُ أنّ الإعلان عن فوز عمل روائي بجائزة مرموقة، تعقبه دائما استفهامات من طبيعة تشكيكية: هل تستحق الرواية هذه الجائزة؟ ولماذا لم تذهب إلى روائي آخر؟ هذا في ظني سؤال عبثي، وأي نقاش يحوم حول هذا السؤال هو حرث في الماء، إذ لابد من التساؤل عن القيمة الفنية والجمالية للنص المتوج، بدل ممارسة نوع من الشعوذة النقدية: ماذا لو؟ يبقى على النقاد البحث في الإضافات الجمالية والفنية للأعمال المتوجة، دون السقوط في التأويلات العبثية.
جوائز أم جنائز؟
وترى الروائية والشاعرة اللبنانية نسرين بلوط المفارقة ما بين المعيار والقيمة، حيث الروايات التي نالت الجوائز واستحقّت اهتماماً وتقديراً من مجموعة من الحكّام، الذين لا ندري مدى نزاهتهم الأدبية، ولا نستطيع أن نحكم على ما يضمرونه من آراءٍ تتقلّب باختلاف الأذواق، ورأينا الناس تقبل عليها بنهم، وكأنّها طبقٌ سحري ينتمي للحلم والإعجاز، ثمّ يلفظون الكثير منها بعد أن تجوب أبصارهم في جوانبها، وتعتصر معانيها، فتراها مادّة فارغة، لم تبتكر أيّ جنسٍ أدبي، ولم تشفع لها تلك الهالة الكبيرة التي منحتها إيّاها الجائزة، في اعوجاجها وتقلّبها بين أمواج السرد والجرد. عندها، ندركُ أنّ العامل النفسي وحده، مع القليل من التعطّش للمعرفة، هو ما جذب هؤلاء القرّاء وما سيجذبهم لاحقاً، في تهافتهم لاقتناء الكتب المكلّلة بداء العظمة التي تُدعى «جائزة». ولا نُنكرُ أنّ هناك من استحقّ تلك الجائزة بجدارة، ولكنّ الأكثرية الذين ينالونها هذه الأيام، يتّكئون على وسادة اللغة وحدها، حتى تصبح روايتهم معرضاً لغويّاً فقط لا غير، دون أن يعيروا للحدث والمفاجأة ومؤشرات السرد أدنى اهتمام. فكأنّهم يطربون الآذان، ولا يسلبون العقول بل يسبونها. وهنا، يتوهّج النقد وتصدح الأقلام به، وتتعالى صيحات الاستنــــكار من المثقفين، ممّن لا تمر عليهم تلك اللعبة اللغــــــوية المملّة، التي نجحت في أن تحصد جوائز، دون أن تحصد اعجـــــاباً، إلا من الطبقة التي تؤخذ بوهج الفوز وأضوائه. فالجوائز في الأدب العربي، خاصة في هذه الأيام، قد تنقلب إلى جنائز للمعنى، حيثُ تحلّ الكلمات المنمّقة مكان المعنى الحقيقي.
التسليع وأهدافه الغامضة
ويقول الشاعر والكاتب العراقي أوس حسن، إن الجوائز الأدبية هي بمثابة سلاح إعلامي ترويجي للكتاب والمؤلف، وقد تغني في بعض الأحيان القارئ عن البحث عن جودة الكتاب، لكن هذا لا يعني أن جميع الكتب الحائزة جوائز أدبية لها قيمة فكرية ومعرفية تنسجم وتتلاقى مع افكار ورؤى المتلقي الحاذق. تخضع الجوائز الأدبية وتحديداً في عالمنا العربي لمزاجية لجنة التحكيم، وتبقى أسيرة تجاذبات عديدة للحكم عليها أهمها الانتماءات السياسية والدينية والأيديولوجية، وهنا يغيب أهم عنصر في العمل الأدبي، وهو الإبداع المتحرر من قيود السياسة والدين وتابوهات المجتمع. أما في الدول الغربية المتقدمة نرى أن الجوائز التي تمنح للكتب تخضع لمقاييس الإبداع الخالص، وما يضيفه المؤلف من رؤية جديدة للعالم وما يعتمل في النفس البشرية من أسئلة وجودية كونية، وتبقى هذه من أهم وظائف الأدب، وهي خلق عالم مواز للعالم الواقعي، يتحرر من الأوهام والموروثات. عموماً تبقى الجوائز الأدبية وعلى مختلف أشكالها وتصانيفها حافزاً مهماً للخلق والابتكار والتجديد، فهي أفضل من صنع قنبلة نووية أو صاروخ، يبقى الكتاب سلاحاً نعيد به بناء الإنسان ونواجه به عالماً مجنوناً يعج بالفوضى والحروب.
قارئ حائر وناقد لاهث
وفي الأخير ترى آشتي كمال الطالبة في كلية اللغات قسم اللغة العربية، أن الجوائز منحصرة في بعض الأجناس الأدبية كالروايات، فلها حصة الأسد عربيًا وعالميًا، ذلك يدفع القارئ نحو قراءة الروايات أكثر من أي جنس آخر، ويرجع السبب إلى الإعلام، ومواقع التواصل، فالقارئ يثيره الفضول ويحاول بأي طريقة الحصول على تلك الروايات الفائزة بجوائز قَيّمة؛ ليرى فعلاً هل استحقت ذلك الفوز؟ وما الذي يميّزها عن غيرها من الروايات؟ ولا ننسَ دور النقاد والدارسين، حيث يقصرون دراساتهم الأدبية وجل اهتماماتهم على تلك المؤلفات الحاصلة على جوائز قيّمة؛ لشهرتها عند القارئ، بعد أن تَعَرَّفَ عليها عن طريق الإعلام ومواقع التواصل. ولكن السؤال حول الكتابة في المجالات الأخرى غير الأدب، ألا تستحق مؤلفات هؤلاء الحصول على جوائز قَيّمة؟ ذلك يجعلنا أمة متحضرة تتقدم نحو الأمام بثقافتها وحضارتها العلمية، والأدبية.
النوع أولا..
شكري الميدي أجي الروائي والقاص الليبي يرى أن الجوائز تمنح الشهرة للعمل الفائز بين القراء، بالتالي يصبح نوع هذا العمل الفائز هو الأكثر قبولاً لدى المكتبات، لأن الجميع سيبحث عن تلك الرواية أو واحدة تشبهها، عندما ذاع صيت رواية قواعد العشق الأربعون لإليف شافاق، أصبح النوع الأكثر طلباً في سوق النشر ولدى المكتبات وعموم القراء، بالتالي ظهرتْ عشرات الروايات التي حاولتْ أن تستفيد من هذا الزخم المفاجئ للتوجه الصوفي مع استخدام مفردة العشق، بعض الروايات نجحتْ. حدث الشيء نفسه مع رواية عزازيل (بوكر 2009) التي أعادتْ العديد من الروائيين إلى استخدام الرقائق التاريخية ضمن رواياتهم، والعودة إلى الرواية التاريخية باعتبارها النوع الأفضل لدى جمهور القراء، ربما للجوائز دور في هذا إنما عشرات الروايات الفائزة بالجوائز العالمية، كانتْ روايات تاريخية، بالنسبة لي اعتبر أن روايات مثل قصر الذئاب لهيلاري ماتيل (بوكر 2009) والمريض الإنكليزي لمايكل أونداتجي (بوكر 1992) بمثابة الأكثر قيمة وأهمية وقد حددتْ لفترة غير قصيرة النوع المفضل لي أدبياً، المؤسف أن بعض القراء، بسبب هــــذا التكريس للروايات التاريخية أو تلك التي تعتــــمد على السير الذاتية لبعض المشاهير، أصبحوا يفقدون الثقة في الروايات الخيالــــية التي لا تعتمد على حدث تاريخي أو لا تسفيد من حـــياة أحدهم، باعتبارها روايات بلا حقيقة هامة، فتصبح الروايـــة التاريخية هي المفضـــلة لدى القراء وهو ما لاحظه بعــــض القراء بأن الوصفة الناجحة لنيل أي جــــائزة هي كتابة رواية تاريخـــــية، مؤخراً وصــــلتْ ست روايات إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية لرواية العربية (البوكر) أكـــثرها روايات تاريخية. هناك المزيد من الروايات التاريخية التي تصدر من دور النشر المتعددة، وهناك المزيـــد من القراء الذين سيبحثون عنها.