رغم حداثته النسيبة (حداثة المعنى وليس حداثة المفردة)، فإن مفهوم الثقافة هو من بين أكثر مفاهيم الفكر العربي تداولا سواء في الدراسات الأكاديمية أو في وسائل الإعلام
ومختلف جوانب الحياة.
- See more at: http://www.philopress.net/2017/06/cultureandcivilisation.html#sthash.HzFZUNYV.dpuf
ومختلف جوانب الحياة.
1-الثقافة و الحضارة في الاستعمال الغربي:
كلمة ثقافة في اللغة العربية ترجمة حرفية لكلمة culture في الإنجليزية والفرنسية، و kultur في الألمانية، وهي كلمة من أصل لاتيني cultura، كانت تعني لدى الإغريق «الاهتمام الموجه إلى حقل نظري بعينه»([1]). وقد استمر استخدامها بهذا المعنى طيلة القرون الوسطى وحتى مطلع القرن التاسع عشر، وفي بداية عصر الأنوار استخدم الفيلسوف ورجل القانون صامويل فون بوفندروف كلمة ثقافة لأول مرة بمعنى قريب من ذاك الذي تستخدم به اليوم بهدف التمييز داخل النشاط الإنساني بينما هو طبيعي فطري يعود إلى أسباب حيوية، وبين ما هو ثقافي مكتسب. وهو العمل الذي طوره كانط لتعريفه الثقافة كونها مجموعة من الغايات التي يمكن لإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية انطلاقا من طبيعته العقلانية، وبهذا تكون الثقافة أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه على مستوى الوجود الإنساني (ينظر بهذا الخصوص كتاب نقد العقل العملي). وقد اغتنى المفهوم بعد ذلك بعدة دلالات بحيث يعرفها تايلور بأنها مركب يتضمن جميع المعارف والعقائد والفنون والقوانين والتقاليد وجميع التنظيمات والعادات المكتسبة من طرف الإنسان كعضو في المجتمع([2]).
يحضر مفهوم الثقافة في حقل السوسيولوجيا بشكل بارز، فهي حسب دوركايم نظام موجه تمنح سلوكا مؤمنا نسبيا، إنها ظاهرة اجتماعية تمارس القهر على الأفراد في المجتمع وتضمن استمرارية الهوية. وسيعمل السوسيولوجي المعاصر A.Giddens على ترسيخ الإرث الدوركايمي، إذ يذهب إلى أن الثقافة منظومة من القيم والمهارات والمعارف يتم نقلها من جيل راشد إلى جيل ناشئ ب واسطة التنشئة الاجتماعية (la socialisation). بيد أنه يجب التمييز بين التنشئة الاجتماعية والبرمجة الثقافية(l’uniformisation culturelle ) فالأخيرة يتشرب فيها الوليد ما يقع عليه من مؤثرات بصورة سلبية([3])، عكس الأولى التي يؤثر فيها على من يتولون تربيته من خلال تلبية مطالبه وحاجياته.
جدير بالإشارة إلى أن الثقافة تختص بما هو ذهني، في حين تشمل الحضارة ما هو مادي([4])، ويذهب علماء الإناسة إلى أن الثقافة أوسع دلالة من الحضارة، لأن المظاهر المادية لحضارة ما مشروطة بتطور الإنسان ثقافيا، ويميز د معين زيادة بين تصور الحضارة في الدراسات الأنجلوسكسونية التي تعتبرها محصلة للتاريخ الثقافي للإنسان، وبين الدراسات الألمانية التي تقصر مفهوم الحضارة على الإنجازات التقنية والمعرفة العلمية التي تقاس كميا وتصاغ رياضيا([5]).
2-مفهوم الثقافة في الاستخدام العربي المعاصر:
يكاد يقتصر مفهوم الثقافة في الدراسات العربية الغير المتخصصة على الفكر، ويتم استبعاد المكونات الأخرى ودراستها داخل مجالات مختلفة كالشريعة وفقه المعاملات والتراث ونظرية الأدب والفن والموسيقى... ويعزى ذلك إلى أن نظرتنا للثقافة فكرية أكثر منها ثقافية([6]).
أما مفهوم الحضارة في الفكر العربي الإسلامي فيمتد ليشمل كل المكونات الخاصة بأمة معينة من سياسي واقتصادي وعلمي وفلسفي وديني... بل إن الحضارة تعني تذويب الفروقات داخل رقعة جغرافية معينة وهو ما نجد له دليلا في الحضارة العباسية التي ضمت عناصر ثقافية متعددة، عربية، فارسية، رومانية، وأمازيغية...
ثابت لدينا أن معنى مصطلح ثقافة في الاستخدام العربي هو وليد التطورات التي شملت العلوم الإنسانية الغربية منذ القرن 19م، بحيث طرأ تغيير هام على مفهوم الثقافة منذ منتصف القرن الماضي، حيث كانت دلالاتها من قبل تقتصر على جانبها العام المتعلق بمجال المعرفة المدرسية والأكاديمية، والإنتاجات الفكرية والجمالية التي تكون موضوع تنظير وتداول ونقد حسب شروط مؤسسية معينة. ومن المعلوم أن هذا التصور والتحديد لم يكونا يسريان سوى على الثقافة العالمة الكتابية والأعمال الفنية الأكاديمية التي تحظى بقيمة معرفية وجمالية حسب معايير مؤسسية وطيدة الصلة بمرجعية نخبوية وسلطوية([7]).
وبتطور العلوم الإنسانية وعلوم الاجتماع والأنتروبولوجيا بشكل خاص، تغير مفهوم الثقافة وتوسع ليشمل كل ما يتعلق بالإنسان وبمحيطه المتعدد، ويدل على مختلف الممارسات والتعابير المادية والرمزية التي يعبر من خلالها مجتمع أو جماعة بشرية معينة عن وجودهما الثقافي والاجتماعي. وبذلك، انضاف المفهوم الأنتروبولوجي للثقافة وصار تشمل الإنتاج الشفهي والتعابير والصناعات الشعبية، وأنماط العيش وطقوس الاحتفاء وشعائر الموتى...، وكل ما يتصل بتعابير المتخيل والحياة الرمزية للكائن الإنساني ونظرته للحياة وللكون من حوله.
ومقابل اللغة والثقافة الكتابية التي كانت تحتكر معنى الثقافة من خلال سلطة النص والمعرفة التي ترتبط بها، صارت اللغة والثقافة الشفهية تحظى بوضع معرفي ورمزي أساسي، حيث أسهمت بشكل قوي كموضوعات للمقاربة العلمية والتحليلية في اكتشاف جوانب هامة من حياة الإنسان والشعوب، وفي إدراك الفوارق والاختلافات العديدة التي تشكل غنى وتنوع الثقافات والمجتماعات الإنسانية.
وقد صارت هذه العوامل الثقافية والإنسية موضوعا للبحث والدراسة والنقد، مما جعلها في تعرف جوانب هامة من حياة المجتمعات وتطورها، ويكفي الإشارة في هذا السياق إلى الاكتشافات والنتائج المخلخلة التي أفضت إليها الأبحاث الميدانية والدراسات الانتروبولوجية الحديثة، خاصة على مستوى مقولات التمركز العرقي والعقلي الغربيين ومسافة النظر الإثنوغرافية التي كان الغرب ينظر من خلالها إلى الثقافات الأخرى، وإلى اختلافها الرمزي والتعبير والاجتماعي.
هذه النظرية إذن تنفي وجود مضمون متعال للثقافة، ووجود فروق جوهرية بين أصول الثقافات وأشكال تعابيرها المختلفة، وتعيد الاعتبار للمحكي والشفهي والرمزي داخل اللاوعي الجمعي والذاكرة الحية. إن استقراء تاريخ الحضارات والثقافات يدل أيما دلالة على أن كل ثقافة عملت على تلقي جوانب من الثقافات الأخرى، وفي ذلك يكمن غناها وثراءها واستمراريتها. وكدليل على ذلك ما حصل في الثقافة العربية الإسلامية بعيد الفتح الإسلامي، حيث أسهمت كل المكونات عبر تراثها في تبويئ العقل العربي الإسلامي مكانة راقية بين الشعوب والأمم، وتبعا لذلك صارت اللغة العربية هي لغة الإبداع العلمي والفسلفي والأدبي. ولا غرو في ذلك كما يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة "أن مكانة اللغة هي صورة لمكانة دولتها بين الأمم".
أخيرا وبعد الانحطاط الثقافي في أعقاب زوال رمز الخلافة ببغداد، عاد العرب والمسلمون للإسهام في التطورات العلمية المعاصرة، لكن من باب الترجمة والنقل من القيم الحداثية الغربية، في أفق تخليص العقلية العربية من أزمة الإبداع.
[1] - مجلة الوحدة، الثقافة العربية ومعطيات الواقع الراهن والآفاق المنظورة للمختار بنعبدلاوي، سنة 9، العدد 101/102، فبراير/ مارس، 1993، ص: 44.
[2] - نفسه، ص:45.
[3] - أنطوني كيدنز، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005، ص: 87.
[4] - جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، 1992، ج 1، ص: 477.
[5] - معين زيادة، عالم المعرفة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، عدد 348، فبراير 2008، ص: 45.
[6] - مجلة الوحدة، مرجع مذكور، ص: 46.
[7] - عالم المعرفة ، تأليف آدم كوبر، ترجمة تراجي فتحي، 349، مارس 2008، ص: 51.