تقع رواية «المغاربة» الصادرة عن المركز الثقافي العربي سنة 2016 للروائي المغربي عبد الكريم جويطي، في أربعمئة صفحة من القطع المتوسط، وتأتي بعد تسع
سنوات من إصدار آخر عمل روائي، يتعلق الأمر بـ«كتيبة الخراب» سنة 2007، مما يعني أن الرجل يعرف أين يخطو، وكيف يخطو، فهو لا يتسرع أبدا في كتابة نص على عجل، كما يفعل عادة جل المبدعين العرب، بل إنه يترك النص ينكتب على مهل في داخله، قبل أن يخرج طريّا، سلسا، على الورق.
سنوات من إصدار آخر عمل روائي، يتعلق الأمر بـ«كتيبة الخراب» سنة 2007، مما يعني أن الرجل يعرف أين يخطو، وكيف يخطو، فهو لا يتسرع أبدا في كتابة نص على عجل، كما يفعل عادة جل المبدعين العرب، بل إنه يترك النص ينكتب على مهل في داخله، قبل أن يخرج طريّا، سلسا، على الورق.
لذلك، فقد استطاعتِ الرواية بفنيتها ولغتها وموضوعها أن تفوز بجائزة المغرب للكتاب لسنة 2017، صنف السرديات، كما استطاعت أن تصل إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر في السنة نفسها.
إن رواية المغاربة تجربة جديدة تحاول أن تجعل من التاريخ أفقا غنيا ومثيرا للتخييل، فهي لا تكتب أحداثا تاريخية توثيقية بقدر ما تهضم هذا التاريخ، لتحوله إلى نص سردي منفتح على الماضي الذي يفعل فعله في الحاضر والمستقبل.
ويثير عنوان الرواية الكثير من الإشكالات، ولعلّ هذا ما يتطلبه أيّ عنوان كان، فالعنوان، حسب أمبرتو إيكو، يجب أن يشوش على أفكار القارئ لا أن يحولها إلى قوالب مسكوكة. فلماذا عنوان المغاربة بالضبط؟ هل يحتاج المغاربة اليوم إلى رواية تخاطبهم منذ البداية؟ من أعطى الحق للكاتب في أن يكتب عن المغاربة بهذا الإطلاق؟ هل الرواية تمثل المغاربة فعلا؟
يبدو أن الروائي جويطي واع بهذه الأسئلة، ففي فصل بعنوان: الكتابة يجيب عن ما افترضه سلفا مما قد يخلقه عنوان «المغاربة» من إشكالات. يقول العسكري الأعرج، وكأنه تقمص صوت لجويطي: «ومن أعطى للفنانات والفنانين الرديئين والعاهرات والقوادين وحثالة السياسيين والصحافيين هذا الحق؟ (أي حق الحديث والكتابة عن المغاربة) أنا على الأقل سَفِح بعض دمي في صحرائه، وخرّبتُ حياتي وأنا أدافع عنه». يظهر أن البطل الذي يكتب عن الوطن قد عانى من ويلات حرب الرِّمال، وعاد منها برِجل معطوبة، وهذه المعاناة هي انعكاس من نوع آخر لمعاناة الروائي نفسه، إذ يقول: «حينما كنتُ أكتب فصول الرواية لم يكن في جيبي حتى ثمن كأس قهوة». فلماذا لا يكتب إذن عن المغاربة، عن تاريخهم وهواجسهم، عن آمالهم وآلامهم؟ خاصة أن الكاتب لا يفتأ يكرر: «أنا أكتب كي أتغلب على هواجسي ومخاوفي»، فالكتابة بهذا المنطق عند لجويطي هي «فعل مقاومة»؛ مقاومة الذات في يومها، مقاومة الذاكرة في تاريخها، مقاومة المستقبل الملتصق بعباءة الماضي. ولن يتأتى ذلك إلا بفحص هذه العناصر بعين الأعمى، لأنه الأقدر على إبصار ما لا يبصره الشخص الطبيعي، حين يصغي لحديث البصيرة وهي تتأمل، وهي تحب، وهي ترى، وهي تسأل.
لم يكن اختيار لوحة «فرانسيسكو غويا»، لتكون غلافا للرواية، اعتباطا. فهي تصور عراك شخصين اثنين، كل منهما يحمل في يده هراوة يريد أن يهشم بها وجه الآخر. فهل هذا يعني أن تاريخ المغاربة هو تاريخ صراع واقتتال؟ تقول الرواية: نعم. ويتجلى هذا بوضوح في فصل «عودة الباشا» و»هذيانات مغربية» و»عودة الموتى» وغيرها. لكن الرواية تنظر إلى هذا الاقتتال بصفته نوعا أو شكلا من العمى، لأننا لا نحارب إلا الإنسانية فينا، نجعل الشر الكامن ينتصر على الخير والسلم، فتصيح لوحة «غويا» ما أغبى الإنسان.
تكشف لنا الرواية انطلاقا من تحليلها السوسيولوجي والنفسي عن عوالم غنية ومستورة من تاريخ المغاربة، عبر محاولة تفكيك الكثير من القضايا الشائكة، مثل: القبيلة، المخزن، الدين، لما لها من دور خطير في صنع الماضي، وتوجيه الحاضر، وقيادة المستقبل، لأننا دوما نعيش في جلباب التاريخ، ونتركه يكرر نفسه ببلاهة. إن «المغاربة» رواية ضد التجميل، صحيح أنها تقسو على المغاربة (خاصة في فصل هذيانات مغربية: باب المغاربة)، لكنّ تلك القسوة التي تجعلك تستفيق من سبات عميق، تزيل عن عينيك الغشاوة لتقول لك: هذا تاريخك الذي أريد لك أن تنساه. هذا تاريخك الذي يصنع لحظتك. هذا تاريخك الذي سيتحول بقدرة قادر إلى مستقبل يخنق شرايينك، من ثمة، فإن لجويطي يؤمن بمقولة الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، حين يعتبر أن الرواية هي «امبراطورية الرّيبة»، أي الشك في كل شيء، ومساءلة الأفكار والمسلمات، وفحص التاريخ المنسي، وتفكيك المخزن من الداخل بهدف خلق أفق انتظار جديد لا يسلم بشيء بقدر ما يرى ببصيرة الأعمى. وعليه يمكن تلخيص أحداث الرواية من خلال خمس حكايات كبرى، تتماهى مع بعضها تارة، ويضيء بعضها الآخر تارة أخرى.
حكاية العمى: وتحكي قصة البطل الأول «محمد» عبر تتبّع هواجسه الأولى وهو يسير إلى العمى، إذ رغم كل المحاولات التي سيقوم بها لتلافي عدم الرؤية، إلا أنه سيستسلم لقدَرِه أخيرا، فلا الجَدّ ولا الأضرحة ولا «بازوف» ولا «دليل الخيرات» بقادرين على أن يعيدوا له نور عينيه وهو في سن العشرينيات.
حكاية العسكري: وهو أخ الأعمى، سيعود من حرب الرمال معطوبا، وبنفس مضطربة، وذاكرة مليئة بما رأته من عمى الحرب والصراع والقتل، ونضال «البوكمازي» وهو يستنبت حديقة وسط الصحراء، قبل أن ترديه قذيفة غادرة، وتجعله ينظر إلى الأفق بعينين رماديتين فارغتين.
حكاية الباشا: تلخص هذه الحكاية جزءا مريرا من تاريخ المغرب؛ تاريخ العصبية القبلية، تاريخ الثأر والقمع والاستبداد، تاريخ القتل والدماء المُسالة. تاريخ يكرر نفسه بكل أسف كل حين. وباختصار، فإن هذه الحكاية تعمد إلى تعرية المخزن من الداخل، عبر بيان علاقاته، وتلاعباته، وسياساته من خلال عائلة «البوزكري» التي تستوطن مدينة بني ملال، وتعيث فيها فسادا.
حكاية الجماجم: إذ سيتم اكتشاف عدد هائل من الجماجم في مقبرة جماعية في بني ملال، وسيتولّى خبيران مهمة الكشف عن أصول تلك الجماجم في مسرحية عبثية مثيرة للسخرية، تبرز عدم الاهتمام واللامبالاة بالبحث عن الحقيقة، لذا، فإن التقرير النهائي الذي سينجزانه لن يقول شيئا مثل سائر التحقيقات في بلادنا. وستظل الحقيقة تبعا لذلك غائبة وموارّاة.
حكاية العشق: وهي من أمتع وأجمل الحكايات في الرواية، تجري أطوارها بين الأعمى وخادمة جارته «صفية»، حيث تعرّف عليها من خلال سماع صوتها، وهي تغنّي حين تستحمّ كل أسبوع. من ثم ستُنسج بينهما علاقة حب فريدة، وسيكتب لها رسالة قصيرة «أنا محمد. قصدي شريف»، وستردّ عليه بأن ترسل له خصلة من شعرها ملفوفة في ورقة. لكنه حين يلجأ إلى خِطبتها برفقة صديق له، سيكتشف متأخرا بأن صديقه المحتال هذا قد خطبها لنفسه. وهكذا ستقضي الخيبة الكبيرة على أحلامه الوردية، غير أنه رغم ذلك لن يتخلى عن حبه لـ»صفية» التي صارت تمثل له وطنا روحيا لا تنقطع نسائمه.
هذه الحكايات الخمس تتضافر في ما بينها وفق بناء محكم ومنسجم ومنفتح على أنماط إبداعية أخرى مثل: الشعر والمسرح والتاريخ والأغاني. ولعلّ الرواية هي الجنس الأقدر على استيعاب كل هذه الروافد ضمن بوتقة واحدة. كما أن العمى يظل هو الناظم بين كل تلك الحكايات، ويمكن رصد أشكال العمى في الرواية في ما يلي:
العمى الخارجي: وهو أقل درجات العمى، تمثله شخصية «محمد»، لكنّه في مقابل ذلك يمتلك بصيرة ثاقبة، ويظل اهتمامه في الرواية مركزا حول ذاته بالأساس. «في عُمر الحادية والعشرين (…) وقع ما كنت أحذره، أزحتُ عنّي اللّحاف وأنا أحسّ الأنسام الندية للصباح وحاولتُ، سدى، العثور على البلغة لأذهب للمرحاض».
العمى في أن ترى الآخر دون أن يراك: ويبرز هذا النوع حين يشارف جَدّ البطل على الموت، إذ يظل ممددا دون أن يقدر على رؤية من حوله. «أتأمله بشوقٍ وتساؤل وضياع، وأختبر، ولأول مرة صلافة هذا العمى الآخر: أن يتمدد بجانبك الكائن العزيز، فتراه ولا يراك، وتحسّ به ولا يحسّ بك».
عمى الحرب: تتحول كل حرب في عيون الرواية إلى عمى، فما قيمة نصر يستوي على الخراب؟ «ما قيمته والخاسر ليس سوى حيّز من إنسانيتنا؟». يفصح الروائي من خلال هذا المستوى عن رفضه المطلق لأي حرب مهما كانت مبرراتها، لأن هناك أعداءً حقيقيين آخرين لو انشغلنا بهم لنسينا همّ الاقتتال بيننا. «يتعاركان وهما لا يدركان أن العدو الحقيقي يتمثل في الرّمل الذي يستدرجهما إلى حتفهما. أيّ عمى أصابهما؟ ألا يحتاج أحدهما إلى الآخر في هذه الأرض الجحيمية التي تتّسع بفداحة لهما ولسلالتهما من بعدهما؟».
عمى السلطة: تُلمح الرواية إلى أن السلطة تضع غشاء منيعا يفصل الحاكم عن إنسانيته، يتحول إلى آلة قوية تستعيض عما جُبل عليه من خير، بأعمال شرّ بغية إرساء حكمه، وتحويل الرعية إلى عبيد. سلطة عمياء ماكرة، ترى بعين المصالح لا بعين الشعور والإنساني فينا. غير أنه مهما بالغ الحاكم في كبريائه تأتي عليه لحظات تجعله يعود إلى نفسه، لكن بعد فوات الأوان: «ويتأمل حياته المنقضية التي هيأت له كتتويج لكل المرارات التي عاشها أن يرى مأساة حقيقية في عائلته، أن يرى الضعف والحاجة والعطب في فلذة كبده. حياة وهبته من خلال عمى حفيده بأن يبصرها، ولأول مرة، كما هي، متقلّبة ومخزية. لم يكن الباشا في حاجة إلى مسيح ليقول له: حياتك تافهة أيها الباشا».
العمى الأركيولوجي: بعدما سيتم اكتشاف مقبرة غريبة تحتوي على ثلاثمئة رأس سترسل الإدارة المركزية خبيرين للتحقيق في الواقعة. لكن ويا لغرابة الصدف، فالخبير الأركيولوجي شخص أعمى. فهل هذه استعارة تستبطن عمى آخر أكثر جرأة هو العمى التاريخي؟ تقول الرواية مجددا: نعم. المغاربة لا يعرفون عن تاريخهم إلا ما يراد أن يعرفوه. نحتاج إذن إلى كتابة التاريخ المنسي؛ تاريخ الخيانات والقتل والجماجم. نحتاج إلى بحث أركيولوجي حفري حقيقي، ليس ذلك المزوّر الذي يطمس الحقيقة بدل أن يظهرها، ويقيس حجم الجماجم، ويضع لكل واحدة رقما بدل أن ينشغل في البحث عن أصل الجريمة.
عمى العالم: ينتج هذا العمى حين ينشغل كل فرد بنفسه. فيطغى ما هو ذاتي على ما هو إنساني، وتستحيل آلام الناس إلى فرجة وتسلية وشفقة. انغلاق ذاتي يكشف عن موت القيم الخيّرة، عن عذاب الإنسان الفرد ضمن ماكينة الحياة القوية. «العمى هو أن يتنكّر لك العالم فجأة، وتصير كل خطوة مغامرة، وكل يدّ ممدودة منك سباحة في المجهول».
يتبدى مما سبق، أننا أمام أشكال متعددة من العمى، لكن أقوى هذه الأشكال هو العمى التاريخي، الذي يقود البشرية إلى استنساخ ماض مرّ، وإلى تكرير الأخطاء والمزالق نفسها. وهذا النوع يتعالق مع العمى المرتبط بالسلطة، لأنها تستند إلى هذه الخلفية بغية تجميل التاريخ ضمانا لاستمراريتها. إن رواية «المغاربة» بهذا المعنى الشامل هي رواية العمى الأكبر، العمى المركّب والمعقّد، غير أنها أفلحت إلى حدّ كبير في تعريته، وإزالة القداسة عنه. مع العلم بأن هذا العمى لا يزال مستمرّا في الزمان والمكان وإن بأشكال مختلفة.
ولا يسعني أخيرا إلا أن أردد مع الرواية: «إنه زمن الجنون الأكبر، والعمى الهائل يا صديقي؟»
فمتى نُبصر؟ فمتى نُبصر؟
٭ باحث مغربي
إن رواية المغاربة تجربة جديدة تحاول أن تجعل من التاريخ أفقا غنيا ومثيرا للتخييل، فهي لا تكتب أحداثا تاريخية توثيقية بقدر ما تهضم هذا التاريخ، لتحوله إلى نص سردي منفتح على الماضي الذي يفعل فعله في الحاضر والمستقبل.
ويثير عنوان الرواية الكثير من الإشكالات، ولعلّ هذا ما يتطلبه أيّ عنوان كان، فالعنوان، حسب أمبرتو إيكو، يجب أن يشوش على أفكار القارئ لا أن يحولها إلى قوالب مسكوكة. فلماذا عنوان المغاربة بالضبط؟ هل يحتاج المغاربة اليوم إلى رواية تخاطبهم منذ البداية؟ من أعطى الحق للكاتب في أن يكتب عن المغاربة بهذا الإطلاق؟ هل الرواية تمثل المغاربة فعلا؟
يبدو أن الروائي جويطي واع بهذه الأسئلة، ففي فصل بعنوان: الكتابة يجيب عن ما افترضه سلفا مما قد يخلقه عنوان «المغاربة» من إشكالات. يقول العسكري الأعرج، وكأنه تقمص صوت لجويطي: «ومن أعطى للفنانات والفنانين الرديئين والعاهرات والقوادين وحثالة السياسيين والصحافيين هذا الحق؟ (أي حق الحديث والكتابة عن المغاربة) أنا على الأقل سَفِح بعض دمي في صحرائه، وخرّبتُ حياتي وأنا أدافع عنه». يظهر أن البطل الذي يكتب عن الوطن قد عانى من ويلات حرب الرِّمال، وعاد منها برِجل معطوبة، وهذه المعاناة هي انعكاس من نوع آخر لمعاناة الروائي نفسه، إذ يقول: «حينما كنتُ أكتب فصول الرواية لم يكن في جيبي حتى ثمن كأس قهوة». فلماذا لا يكتب إذن عن المغاربة، عن تاريخهم وهواجسهم، عن آمالهم وآلامهم؟ خاصة أن الكاتب لا يفتأ يكرر: «أنا أكتب كي أتغلب على هواجسي ومخاوفي»، فالكتابة بهذا المنطق عند لجويطي هي «فعل مقاومة»؛ مقاومة الذات في يومها، مقاومة الذاكرة في تاريخها، مقاومة المستقبل الملتصق بعباءة الماضي. ولن يتأتى ذلك إلا بفحص هذه العناصر بعين الأعمى، لأنه الأقدر على إبصار ما لا يبصره الشخص الطبيعي، حين يصغي لحديث البصيرة وهي تتأمل، وهي تحب، وهي ترى، وهي تسأل.
لم يكن اختيار لوحة «فرانسيسكو غويا»، لتكون غلافا للرواية، اعتباطا. فهي تصور عراك شخصين اثنين، كل منهما يحمل في يده هراوة يريد أن يهشم بها وجه الآخر. فهل هذا يعني أن تاريخ المغاربة هو تاريخ صراع واقتتال؟ تقول الرواية: نعم. ويتجلى هذا بوضوح في فصل «عودة الباشا» و»هذيانات مغربية» و»عودة الموتى» وغيرها. لكن الرواية تنظر إلى هذا الاقتتال بصفته نوعا أو شكلا من العمى، لأننا لا نحارب إلا الإنسانية فينا، نجعل الشر الكامن ينتصر على الخير والسلم، فتصيح لوحة «غويا» ما أغبى الإنسان.
تكشف لنا الرواية انطلاقا من تحليلها السوسيولوجي والنفسي عن عوالم غنية ومستورة من تاريخ المغاربة، عبر محاولة تفكيك الكثير من القضايا الشائكة، مثل: القبيلة، المخزن، الدين، لما لها من دور خطير في صنع الماضي، وتوجيه الحاضر، وقيادة المستقبل، لأننا دوما نعيش في جلباب التاريخ، ونتركه يكرر نفسه ببلاهة. إن «المغاربة» رواية ضد التجميل، صحيح أنها تقسو على المغاربة (خاصة في فصل هذيانات مغربية: باب المغاربة)، لكنّ تلك القسوة التي تجعلك تستفيق من سبات عميق، تزيل عن عينيك الغشاوة لتقول لك: هذا تاريخك الذي أريد لك أن تنساه. هذا تاريخك الذي يصنع لحظتك. هذا تاريخك الذي سيتحول بقدرة قادر إلى مستقبل يخنق شرايينك، من ثمة، فإن لجويطي يؤمن بمقولة الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، حين يعتبر أن الرواية هي «امبراطورية الرّيبة»، أي الشك في كل شيء، ومساءلة الأفكار والمسلمات، وفحص التاريخ المنسي، وتفكيك المخزن من الداخل بهدف خلق أفق انتظار جديد لا يسلم بشيء بقدر ما يرى ببصيرة الأعمى. وعليه يمكن تلخيص أحداث الرواية من خلال خمس حكايات كبرى، تتماهى مع بعضها تارة، ويضيء بعضها الآخر تارة أخرى.
حكاية العمى: وتحكي قصة البطل الأول «محمد» عبر تتبّع هواجسه الأولى وهو يسير إلى العمى، إذ رغم كل المحاولات التي سيقوم بها لتلافي عدم الرؤية، إلا أنه سيستسلم لقدَرِه أخيرا، فلا الجَدّ ولا الأضرحة ولا «بازوف» ولا «دليل الخيرات» بقادرين على أن يعيدوا له نور عينيه وهو في سن العشرينيات.
حكاية العسكري: وهو أخ الأعمى، سيعود من حرب الرمال معطوبا، وبنفس مضطربة، وذاكرة مليئة بما رأته من عمى الحرب والصراع والقتل، ونضال «البوكمازي» وهو يستنبت حديقة وسط الصحراء، قبل أن ترديه قذيفة غادرة، وتجعله ينظر إلى الأفق بعينين رماديتين فارغتين.
حكاية الباشا: تلخص هذه الحكاية جزءا مريرا من تاريخ المغرب؛ تاريخ العصبية القبلية، تاريخ الثأر والقمع والاستبداد، تاريخ القتل والدماء المُسالة. تاريخ يكرر نفسه بكل أسف كل حين. وباختصار، فإن هذه الحكاية تعمد إلى تعرية المخزن من الداخل، عبر بيان علاقاته، وتلاعباته، وسياساته من خلال عائلة «البوزكري» التي تستوطن مدينة بني ملال، وتعيث فيها فسادا.
حكاية الجماجم: إذ سيتم اكتشاف عدد هائل من الجماجم في مقبرة جماعية في بني ملال، وسيتولّى خبيران مهمة الكشف عن أصول تلك الجماجم في مسرحية عبثية مثيرة للسخرية، تبرز عدم الاهتمام واللامبالاة بالبحث عن الحقيقة، لذا، فإن التقرير النهائي الذي سينجزانه لن يقول شيئا مثل سائر التحقيقات في بلادنا. وستظل الحقيقة تبعا لذلك غائبة وموارّاة.
حكاية العشق: وهي من أمتع وأجمل الحكايات في الرواية، تجري أطوارها بين الأعمى وخادمة جارته «صفية»، حيث تعرّف عليها من خلال سماع صوتها، وهي تغنّي حين تستحمّ كل أسبوع. من ثم ستُنسج بينهما علاقة حب فريدة، وسيكتب لها رسالة قصيرة «أنا محمد. قصدي شريف»، وستردّ عليه بأن ترسل له خصلة من شعرها ملفوفة في ورقة. لكنه حين يلجأ إلى خِطبتها برفقة صديق له، سيكتشف متأخرا بأن صديقه المحتال هذا قد خطبها لنفسه. وهكذا ستقضي الخيبة الكبيرة على أحلامه الوردية، غير أنه رغم ذلك لن يتخلى عن حبه لـ»صفية» التي صارت تمثل له وطنا روحيا لا تنقطع نسائمه.
هذه الحكايات الخمس تتضافر في ما بينها وفق بناء محكم ومنسجم ومنفتح على أنماط إبداعية أخرى مثل: الشعر والمسرح والتاريخ والأغاني. ولعلّ الرواية هي الجنس الأقدر على استيعاب كل هذه الروافد ضمن بوتقة واحدة. كما أن العمى يظل هو الناظم بين كل تلك الحكايات، ويمكن رصد أشكال العمى في الرواية في ما يلي:
العمى الخارجي: وهو أقل درجات العمى، تمثله شخصية «محمد»، لكنّه في مقابل ذلك يمتلك بصيرة ثاقبة، ويظل اهتمامه في الرواية مركزا حول ذاته بالأساس. «في عُمر الحادية والعشرين (…) وقع ما كنت أحذره، أزحتُ عنّي اللّحاف وأنا أحسّ الأنسام الندية للصباح وحاولتُ، سدى، العثور على البلغة لأذهب للمرحاض».
العمى في أن ترى الآخر دون أن يراك: ويبرز هذا النوع حين يشارف جَدّ البطل على الموت، إذ يظل ممددا دون أن يقدر على رؤية من حوله. «أتأمله بشوقٍ وتساؤل وضياع، وأختبر، ولأول مرة صلافة هذا العمى الآخر: أن يتمدد بجانبك الكائن العزيز، فتراه ولا يراك، وتحسّ به ولا يحسّ بك».
عمى الحرب: تتحول كل حرب في عيون الرواية إلى عمى، فما قيمة نصر يستوي على الخراب؟ «ما قيمته والخاسر ليس سوى حيّز من إنسانيتنا؟». يفصح الروائي من خلال هذا المستوى عن رفضه المطلق لأي حرب مهما كانت مبرراتها، لأن هناك أعداءً حقيقيين آخرين لو انشغلنا بهم لنسينا همّ الاقتتال بيننا. «يتعاركان وهما لا يدركان أن العدو الحقيقي يتمثل في الرّمل الذي يستدرجهما إلى حتفهما. أيّ عمى أصابهما؟ ألا يحتاج أحدهما إلى الآخر في هذه الأرض الجحيمية التي تتّسع بفداحة لهما ولسلالتهما من بعدهما؟».
عمى السلطة: تُلمح الرواية إلى أن السلطة تضع غشاء منيعا يفصل الحاكم عن إنسانيته، يتحول إلى آلة قوية تستعيض عما جُبل عليه من خير، بأعمال شرّ بغية إرساء حكمه، وتحويل الرعية إلى عبيد. سلطة عمياء ماكرة، ترى بعين المصالح لا بعين الشعور والإنساني فينا. غير أنه مهما بالغ الحاكم في كبريائه تأتي عليه لحظات تجعله يعود إلى نفسه، لكن بعد فوات الأوان: «ويتأمل حياته المنقضية التي هيأت له كتتويج لكل المرارات التي عاشها أن يرى مأساة حقيقية في عائلته، أن يرى الضعف والحاجة والعطب في فلذة كبده. حياة وهبته من خلال عمى حفيده بأن يبصرها، ولأول مرة، كما هي، متقلّبة ومخزية. لم يكن الباشا في حاجة إلى مسيح ليقول له: حياتك تافهة أيها الباشا».
العمى الأركيولوجي: بعدما سيتم اكتشاف مقبرة غريبة تحتوي على ثلاثمئة رأس سترسل الإدارة المركزية خبيرين للتحقيق في الواقعة. لكن ويا لغرابة الصدف، فالخبير الأركيولوجي شخص أعمى. فهل هذه استعارة تستبطن عمى آخر أكثر جرأة هو العمى التاريخي؟ تقول الرواية مجددا: نعم. المغاربة لا يعرفون عن تاريخهم إلا ما يراد أن يعرفوه. نحتاج إذن إلى كتابة التاريخ المنسي؛ تاريخ الخيانات والقتل والجماجم. نحتاج إلى بحث أركيولوجي حفري حقيقي، ليس ذلك المزوّر الذي يطمس الحقيقة بدل أن يظهرها، ويقيس حجم الجماجم، ويضع لكل واحدة رقما بدل أن ينشغل في البحث عن أصل الجريمة.
عمى العالم: ينتج هذا العمى حين ينشغل كل فرد بنفسه. فيطغى ما هو ذاتي على ما هو إنساني، وتستحيل آلام الناس إلى فرجة وتسلية وشفقة. انغلاق ذاتي يكشف عن موت القيم الخيّرة، عن عذاب الإنسان الفرد ضمن ماكينة الحياة القوية. «العمى هو أن يتنكّر لك العالم فجأة، وتصير كل خطوة مغامرة، وكل يدّ ممدودة منك سباحة في المجهول».
يتبدى مما سبق، أننا أمام أشكال متعددة من العمى، لكن أقوى هذه الأشكال هو العمى التاريخي، الذي يقود البشرية إلى استنساخ ماض مرّ، وإلى تكرير الأخطاء والمزالق نفسها. وهذا النوع يتعالق مع العمى المرتبط بالسلطة، لأنها تستند إلى هذه الخلفية بغية تجميل التاريخ ضمانا لاستمراريتها. إن رواية «المغاربة» بهذا المعنى الشامل هي رواية العمى الأكبر، العمى المركّب والمعقّد، غير أنها أفلحت إلى حدّ كبير في تعريته، وإزالة القداسة عنه. مع العلم بأن هذا العمى لا يزال مستمرّا في الزمان والمكان وإن بأشكال مختلفة.
ولا يسعني أخيرا إلا أن أردد مع الرواية: «إنه زمن الجنون الأكبر، والعمى الهائل يا صديقي؟»
فمتى نُبصر؟ فمتى نُبصر؟
٭ باحث مغربي
«المغاربة»: رواية العمى الأكبر
القدس العربي