ــ من قال أن السكون، لا صوت له،،؟ وأن اليأس لا
رائحة له؟؟
تساءل عزيز بمرارة، وهو يحاول أن يسد كل منافذه المفتوحة على رائحة اليأس،
استسلم لطوق اليأس، أدار عينيه المتعبتين باحثا
عن شيء يشد نظره ويأخذه بعيدا عن جرحه، لم يجد سوى شمعة مركونة فوق الطاولة الصغيرة
قرب سريره الصدئ. كان الليل قد بدأ يلبس الكون معطفه الأسود، انسحب آخر شعاع للضوء
من الغرفة الباردة، فاسحا المجال لعتمة موحشة، تناول عزيز عود كبريت بيد مرتعشة وأشعل
الشمعة وسيجارته الوحيدة المتبقية من عشرات السجائر الشاهدة على صراعه مع الوحدة والصمت.
كان ضوء الشمعة خافتا، ولوهلة أنْسته دموعها وهي تحترق، دموعه الدفينة،
دخان قلبه وأنفاسه الحارقة، تمدّد على سريره بوجع، ينظر للسقف، وهو ينفث كل أوجاعه
دخانا.
تساءل عن أنجع طريقة وأرحمها لخلاصه، فكر بجدية هذه المرة، لم يعد هناك
مجال للهروب من الحقيقة المرة، لا مكان له بهذه الدنيا الغادرة، فجأة فكر بالانتحار،
وكان اليأس قد أجهز على كل إحساسه بالأمل أو الفرح، بل حتى الخوف من الموت لم يعد يرهبه،
لن يكون حاله أسوأ مما هو فيه، إن لم يصبح أحسن.
فكر بارتياح، ولأول مرة منذ أشهر ابتسم، بعدما استراح لقراره، فجأة اختفى
صوت الصمت وتبددت رائحة السكون، فأغمض عزيز عينيه مسترسلا لنوم جافاه منذ مدة، أيقظته
صراصير بطنه تعزف أنشودة الجوع، نهض متثاقلا، يبحث في درج مكتبه الصغير، قد يجد قطعة
شوكولا تائهة هناك من زمن سعيد، وجد ضالته، جلس على السرير وبدأ يمضغها بتأنّ، لكنه
وجدها مرّة لا طعم فيها، أكملها رغم ذلك فسكنت صراصير بطنه قليلا، أحس برغبة شديدة
في الكتابة، وبافتضاض بكارة الورق الأبيض.
انطلق قلمه جامحا، وفي خضم معركته، انطفأت الشمعة، كاد عزيز يجن، مازال
بجعبته الكثير ولا يريد لحبل أفكاره أن ينقطع.
نهض من مكانه تعثر بكرسي وسط الغرفة، وهو يتلمس طريقه إلى باب الغرفة،
سيجد طريقة ليكتب آخر رواية، قبل أن يعانق الموت، كان القمر كاملا تلك الليلة، انزوى
بركن بالسطح، وجلس على الأرض، وضع كراسته فوق ركبتيه وترك لقلمه العنان، وبين الفترة
والأخرى كان ينظر للقمر، ربما للاستئناس به، وربما كان يبحث في وجهه عن ملامح حبيبته،
التي تركها مرغما منذ مدّة طويلة.
لم يستطع نسيانها، تجري في شرايينه مجرى الدم، وكان كلما اشتد اشتياقه
إليها، يقفل عينيه على طيفها. لذلك، غالبا ما يظل مغمض العينين حتى يلتقي معشوقته،
هي حبيبة دربه ودرسه، لطالما جلسا معا تحت شجرة النخيل الباسقة بساحة الكلية، وكانت
حبيبته تلقي له من طيب ثمارها وحلو رطبها.
كان يرتشف شهدها حدّ الثمالة، يحلم بالغد المشرق وهما يرسمان عشهما الدافئ
وآمالهما الوردية، لكن الأقدار أبت غير ذلك، لم يتوظف، ولم يعيّن بأي جريدة رغم قلمه
النابض، ربما لأن قلمه كان حيّا مثل ضميره، لا يخاف في قول الحق لومة لائم، نشرت له
بعض المقالات ثم أدار له الجميع ظهره.
يقولون إن المرحلة جدّ حسّاسة ولا تتحمّل تعرية الواقع، طلبوا منه أن
يلبس الواقع بعضا من ثياب نظيفة، ويضع له روتوشات تجمّله ولو كذبا، يقولون إنه سيساهم
في استقرار بلده و سيكون من الوطنيين الأحرار، لكن عزيز كان له رأي آخر، خصوصا عندما
لم يجد أي ثوب يغطي عورة الواقع، كل الأثواب ضيقة عليه، وكل مساحيق العالم لن تغير
من بشاعة وجهه، قال لهم إنه لا يستطيع أن يلعب لعبة التمويه والغش، اقترح عليهم حلا،
لم يقبلوا به، كان يرى في إجراء عملية جراحية بقلمه للواقع، ضرورة حتمية، بل كان يراها
مطلبا شعبيا، وعلاجا لقبح الواقع، سيشرّحه، ثم يدا بيد، يخيطون كل الرتوقات، وسيُصبِح
الواقع بعدها، جميلا بدون رتوش وبتصحيح جذري لعيوبه، خسر جراء قناعاته وظيفة محرّر،
وخسر حبيبته عندما طال انتظارها لفستان الفرح الأبيض، ولعرس يخلّد لحبهما ولارتباطهما،
اختزلت مشاعره في أرقام وحسابات، فانسحب عزيز بهدوء من حياة حبيبته، فهو لن يستطيع
أن يوفّر طلبات أهلها ولا أن يحقق أحلامها.
لم تبك كثيرا لقراره ولا لانسحابه، وما هي إلا أسابيع حتى زفّت لتاجر
راكم أموالا من تجارة الملابس الداخلية و المناديل التركية، لم يفتح أبدا كتابا، ولم
يتعرف على شعر أو نثر أو قصة، حياته أكل وجنس وجمع للأموال، وكانت حبيبة عزيز، الفتاة
الجميلة الجامعية، هي الإكسسوار الذي ينقصه، ويبحث عنه.
صبّ عزيز بركان غضبه ويأسه في الورق، كتب روايات عدة وقصص، وكان يعيش
في انتظار دائم لما تجنح به قوارب الناشر من حوالات بئيسة تكاد لا تسدّ رمقه من جوع
وتحفظ خصوصيته داخل غرفته، في اعتكافه الأخير كتب رواية أرادها أخيرة، رأى فيها النقطة
التي تفيض الكأس أو القشة التي تقسم ظهر البعير، ابتسم وهو يفكر في القطيع الذي لا
يمشي إلا بالسياط ويستلذ عذابه، ثم فكر في النقطة التي تفيض الكأس.
وتساءل هل يصبح الماء أعذب بعد أن يتخلص الكأس من شوائبه؟؟؟ ضحك وهو يتخيل
الفساد والظلم والبؤس والجهل ينسابون مع الماء الفائض وينجرفون عبر قنوات الصرف إلى
عمق البحر، روايته الأخيرة، بطلها مجاهد، الشاب الذي زُج به في السجن لأنه فضح فساد
مسؤول ما، فأصبح مجرما.
ومن خلال قصته انتقد عزيز الأنظمة العربية الاستبدادية والشخصيات المرضية
التي تتحكم في العباد، وتسير البلاد، بأسلوب ساخر، وأصبح مجاهد هو القضية وليس الفقر
أو الفساد، لفقت له تهمة ورموا به وراء الأسوار، لكن مجاهد لم يستسلم، ومن داخل السجن
كان صوته أقوى، ومزلزلا بعدما أثر في السجناء والمحكومين بأفكاره الثورية، حتى المجرمون،
كثير منهم تاب على يده وانضم لصفوفه، فكانت انتفاضة من داخل الأسوار، وزلزالا، ارتجت
من قوته الأرض تحت كراسي المسؤولين.
أنهى عزيز روايته ومجاهد يطبق على عنق المسؤول عندما حضر لإسكاته ورشوته
حتى يفك السجناء اعتصامهم ويعودوا لرشدهم، وإجرامهم، وتتوقف الكراسي عن الاهتزاز.
كان قد مرّ على عزيز أربعة أسابيع، وهو مسجون داخل غرفته، يأكل قليلا
ويكاد لا ينام، طيلة النهار وهو يصرخ بالورق، وبعد منتصف الليل كان يخرج للسطح لإتمام
كتابته، ينظر للقمر قليلا ويسهو في عينين حبيبته، ثم يمشي بضع خطوات داخل مربع السطح
الصغير، حتى لا يفقد إحساسه بأطرافه السفلى أيضاً.
جاءت روايته صادقة بعد تجربته هذه للحبس الانفرادي،
سجنه بحكم صدر منه، قرر البقاء بغرفته لا يخرج منها، بالبداية، كان يحذوه أمل التوصل
بحوالة انتظرها شهورا، من ناشر كتبه، حتى يستطيع دفع الكراء والكهرباء وديونه المتراكمة،
لذلك كان لا يخرج إلا متخفيا وفي جنح الليل، وللضرورة القصوى، حتى يتفادى الإحراج من
صاحب البيت أو الدكان، وعندما فقد كل أمل في الحوالة، فكر جديا في وضع حدّ لبؤسه، لكن
ليس قبل أن يفضح الفساد والمفسدين، ويرسل الرواية الأخيرة لناشره.
تنفّس عزيز الصعداء وهو ينهي روايته ويتخيل بطله مجاهد، طابقا بعنق المسؤول
حتى جحظت عيناه، جمع أوراقه، نظر للقمر يودعه، وبعث بقبلة طائرة مبلولة لحبيبته ثم
دخل إلى غرفته، استلقى على فراشه ونام على أمل اللقاء بالموت غدا وهو يعانق روايته،
"عدالة مجاهد"، استيقظ عزيز وقلبه يكاد ينفجر من الغضب واليأس.
اقتنع أن ألم مجاهد وما عاناه من ظلم وحكرة قد انضاف إلى ألمه لذلك فشعوره
بالغبن والغضب قد تضاعف، لكنه اعترف لنفسه بصوت عال أن مجاهد أكثر شجاعة منه، هو صحيح
شجاع بقلمه لكنه لن يستطيع أبدا أن يطبق على الفساد ويخنقه، أو ينتصر على اليأس، أكيد
لأن الغول استوحش، لذلك فضل هو أن يرميه برصاص من رشاش قلمه، ومن بعيد، أحس عزيز بعطش
شديد ، ربما بفعل مرارة الظلم.
نهض متثاقلا من مكانه ليشرب، وكان الماء أيضا قد انقطع ذلك الصباح، كاد
يجن، نظر كالأبله داخل غرفته، ثم خرج للسطح يجري وهو يحمل مقصاً قطع به حبل الغسيل
وآخر أمل له بالحياة، وضع كرسي وسط الغرفة، عقد الحبل وأحكم ربطه بمصباح الإنارة بالسقف،
ثم نصب مشنقة، فكر لحظة في حبيبته وأمه العجوز بالقرية النائية هناك بعمق الجبال والإقصاء،
وفكّر بإخوته الخمسة، لم يرهم منذ أزيد من سنة، كل واحد غارق في تفاصيل معاناته اليومية
بالجهات الأربع، ثم لعن جَهْراً، الزمن البئيس الذي يباع فيه لحم النساء بالترخيص،
كما بيعت حبيبته ولعن سرا الزمن الذي تباع فيه القيم النبيلة من أجل المال، كما أغلبية
الأقلام المستأجرة.
ابتسم بمرارة وهو يطمأن على ابنه الذي لن يخلّد اسمه ولن يولد في زمن
الاستبداد لا احترام فيه لحقوق الإنسان وشروط المواطنة، ثم أخذ روايته وخرج من سجنه
دون أن ينظر في المرآة، كان يتجنب أن يرى كل الخوف والقلق الذي يسكنه وينطق من عينيه،
وهو يهم بالخروج من البيت اصطدم بساعي البريد، سأله عن اسمه ناظرا إليه بارتياب تارة
ولصورة بطاقة تعريفه تارة أخرى، يبدو مختلفا كثيرا عن صورته، فقد أسدل الهم والسجن
والبؤس، غمامة على وجهه، أخفت ملامحه الجميلة، فبدا وجهه شاحبا، بعينين فارغتين، لحية
طويلة كثة ورأس غير ممشوط، بعد تردد، ناوله رسالة مضمونة، فتح عزيز الرسالة وبلهفة
مستعجلة ونظرة داهشة، قرأ أسطرا من ناشره يستعجله فيها للحضور في نفس اليوم، لأمر يهمه.
يقول فيها إن آخر رواية لعزيز، أثارت اهتمام أحد النقاد الكبار، الذي
رآها ترسي لمرحلة جديدة في السرد العربي، واعتبر أن تمزيقها للحكي التقليدي واعتمادها
لغة ساخرة بأسلوب تجريبي، جعلها قمة في الإمتاع ولذة النص، لذلك قرر الناشر أن يطبع
طبعة ثانية، وأن يتعاقد معه بمبلغ كبير .
تمسك عزيز برسالته، وكأنه يمسك بطوق نجاته تم صعد جريا السلالم حتى غرفته،
كان قلبه يدق بسرعة كبيرة، يكاد يقفز من قفصه الصدري، استلقى على سريره وضع روايته
جانبا ودخل في نوبة هستيرية من البكاء، بعد أن استعاد رباطة جأشه، أعاد قراءة الرسالة
حتى حفظها عن ظهر غيب، انتفض من مكانه وهو يرى المشنقة وسط الغرفة، أسرع بانتزاعها
بشدة، ورمى بها من وراء جدار السطح للشارع، جلس يفكر في المبلغ الكبير الذي سيكون بحوزته
بعد ساعات، سيؤمن له العيش الكريم طيلة سنة، ابتسم ثم قطب جبينه وهو يفكر ثانية في
ما وراء السنة، وفي قلقه الوجودي الذي يقتات من روحه وعمره؛
- ليس علي أن أقلق قريبا... قال عزيز في نفسه،
و هو ينظر في المرآة، يهذب لحيته، يمشط شعره الأسود الجميل، ويبتسم بعينيه الساحرتين،
غيّر قميصه، تأبط روايته وعانق أمله ورسالته ثم أطبق الباب على يأس كاد يطبق على عنقه،
وخرج، وظِلُّ ابتسامةٍ ينير وجهه من جديد، وهو يغني... أغدا ألقاك...
رمزيةُ انتحارِ الكاتب في قصة ( قلم ، سيجارة وقمر) ،للقاصة والروائية الدكتورة زهرة عز .القصة الفائزة بالمرتبة الأولى لــ ( جائزة العرب
للثقافة واللغة والأدب ) .
قراءة محمد غزلي .
بعيدا عن الدوران في حلقة التغويمات الهُلامية لنصوص التمرد على قوالب القصة القصيرة ، والابتعاد
عن روح الحكي إلى مسارب المُعاضلات اللغوية والميتانصية بما تحمله من جنوح سديمي شارد
يبلبل ذهن القارئ ، تكتب القاصة والروائية الدكتورة زهرة عز قصصها التي تعبر عن قلق
الواقع بأمراضه وشيخوخته وموته .
وإذا كان مجموعة من الكتاب قد تآمروا على الواقع
بكتابة قصص ساخرة نكاية في الرغيف الذي حُرمته ثقيف ، كما يقال ، فإن نصوص المبدعة
زهرة عز عموما ، وقصة ( قلم ، سجارة وقلم ) خصوصا تحزم حقائب المتلقي بإحكام ، وتضرب
له موعدا على سواعد الصرامة الأدبية والجمالية ، في قالب حكائي ظلا وفيّا للأنساق الواقعية
الموجعة .
وأنا أقرأ القصة ، أحسست كأنني
مدفوع بقوة إلى التماهي بشخصية النص الرئيسة ( عزيز ) ، الكاتب الموهوب ، بدءا بسؤال الصمت الذي يعتبر لحظة كمون
خطير في مسيرة البطل عزيز مع الكتابة ، وتحوله من كاتب صارخ إلى صائت بالهمس ، وبالنهاية
إلى صامت يتقمص شخصية ( مجاهد ) في روايته التي سيكتبها في أخريات أحلامه ، إلى اللحظة
التي يريد عزيز أن يودع فيها العالم عبر مقصلة الموت ، ليكون الوداع بطريقة مأساوية انتحارية انتقاما من الذات التي
لايعترف المجتمع المادي بكينونتها .
تعالج القصة موضوعا مزقني أشلاءا منذ زمن بعيد ،
عندما اخترت أن أكون كاتبا ، لأجدني ممزقا ، كما عزيز ، بين ممارسة العيش بعيدا عن
المعترك وبين ممارسة الكتابة لفضح سلطة الزفت المادية التي تنخر مفاصل المجتمع ، وفق
ترسيخ ممهنج لفلسفة السكوت على الانتكاسات ، كما يراد لنا ،
خوفا من الوقوع فيما هو أطمّ بزعمهم . لكن ، أثمة سلطة تستطيع أن تلزم البطل أن
"يلبس الواقع بعضا من الثياب النظيفة" لتزويقه ، هل سيتمرد على الأوامر مادام "قلمه حيا مثل ضميره" ، وسؤالات
أخرى استطاعت الساردة أن تفجرها في ذهن القارئ تلقائيا وهو يتابع مجريات الأحداث .
وتبقى حالة الافتراق بيني وبينه حين اختارت له الأقدار
بعادا موقوف التنفيذ بينه وبين حبيبة أحلامه ، ولحسن حظه وتعاستي أنا أن ابنه
"لن يخلد اسمه ، ولن يولد في زمن الاستبداد ، لا احترام فيه لحقوق الانسان وشروط
المواطنة" ، ربما وجدتني مسرورا بموت
البطل لأول مرة ، لأن القصة بأسلوبها الذي يضرب سايكولوجيا الأعماق ، صنعت من ( عزيز
) شخصية ملحمية بحذاقة . عزيز الكاتب الذي يفترض أن يكون رائدا في كتابة المقالات التي
تنقد الواقع يجد نفسه وجها لوجه أمام عُتاة الإفساد وسلطة المجتمع ، فيسكت ثم يخبو
ويعتزل ، وهنا تدخلنا الساردة بحرفية نادرة
إلى دائرة الصمت ، ثم عزلة الكاتب عزيز ، ومن ثم سجنه داخل جسده وبيته الذي يفتقد شروط
الحياة ، ليستفيق على فكرة جنونية لعلها تعيد الاعتبار لذاته المشنوقة بأمعاءه الجائعة
وهي محاولته الانتحار والخلاص بعد أن يُحرّر آخر سطر من روايته الأخيرة ، التي ستكون
صرخة بالقلم هذه المرة ، ومع تحرير آخر سطر في الرواية سيتحرر بطلها ( مجاهد ) من عبودية السكوت ، ومن
خلاله ، سيبوح ( عزيز ) بأشياء تعذر عليه أن يتفوه بها في الواقع ، وعندئذ فليأت الموت
والانتحار من أوسع أبوابه ، حتى الخوف من الموت لم يعد يرهبه ، وكأنه يقول لجلاديه
خذوني إلى الموت ، إذا كان غياب هذا الجسد سيعفيكم وسيريحكم فإنني سأجهز عليه ، هكذا
ليثبت لهم أنه يعيش بلا حياة بعدما فقد كل شيء في وطن كلُّ شيء فيه مهيّأ للبيع ، حتى
جسده تحول إلى هدف للاغتيال بعدما اغتيلت كل أحلامه . لكنه ، وبعد أن تخلد روحه الثائرة
إلى الموت سيصرخ صرخة اللاخوف التي أخرجته من صمته الرهيب ، تلك الصرخة التي خلدها
في روايته الأخيرة ، ليفاجأه الناشر بأن روحه بعثت مرة أخرى وأن روايته سيعاد طبعها
مرات ، وسيكون له الرصيد المُعلّى ، وسيضحك ، ليكتشف أن كل تلك المعاناة إنما هي محطات
لصقل موهبته الإبداعية ، وعلى العكس ستنقله من حالة اليأس والإنتحار إلى حالة النجومية .
تختزل القصة في تكوينها السردي مجموعة من خيوط الأسى
التي تجتمع كلها عند مركزية البطل ، الحزن ، القلق ، الخوف ، تمزق الذات بين المرغوب
والممنوع ، الشعور بالموت على قيد الحياة ، محاولة التنصل من متلازمة الفقر والجوع ، تعرية الوجه الحقيقي للإنسان خارج حدوده المادية
المرسومة له ..
كل هذا الكم السردي المتراكم يجعل القارئ بعيدا
من فوضى التشويش الذي تتخبط فيه سرود مابعد الحداثة ، وقريبا من بؤرة التأثر والانفعال
إلى درجة الانصهار مع الشخصية الرئيسية في القصة .
أشد على يديك بحرارة ، أستاذتي المبدعة المتفوقة
زهرة عز ، نصك يستحق التاج ، وهو مفتوح على تآويل أخرى ، جعلتني أومن بسحرك القصصي
إلى الأبد .
تحياتي لك وأكاليل الأمل ، ومزيدا من التفوق والتتويج .