إذا أردنا أن نعطي سمة مميزة للعصر الرقمي والثقافة الرقمية فلن نجد أدق وأشمل من التفاعل والتفاعلية. إن كل الوسائط التي استخدمها الإنسان للتواصل والإبداع والتلقي،
قبل العصر الرقمي، كانت في الإطار العام، خطية تتحدد من خلال اتصال خطي يتحدد من المرسل الذي يتوجه بالخطاب إلى المتلقي. وحتى في الحوار، أو الحديث، يظل ثمة مرسل يتحكم في العلاقة التواصلية، بحسب نوع الخطاب الذي يدور بينهما.لكن هذا لا يعني أن التفاعل لم يكن قائما بين مختلف الأطراف. كان يتحقق بدرجة محدودة، تقوم بصورة أساسية على التلقي بأشكاله المختلفة. لكن الوسائط المتفاعلة أعطت للمتلقي إمكانية أكبر، ليحتل موقعا مهما في العملية التواصلية، بحيث صار بإمكانه الانتقال من التلقي إلى الإرسال أيضا.
إذا كان المرسل والمتلقي في الحديث اليومي ينتميان إلى فضاءين لغويين، فإن التواصل بينهما يكون محدودا، والتفاعل منعدما، لأن كل واحد منهما لا يمتلك قواعد العلامات التي نجدها عند الآخر. قد يستعملان العلامات الإشارية لكنها تظل عاجزة عن إيصال ما يريده كل منهما بصورة طبيعية، ومعنى ذلك أن العملية التواصلية الملائمة تقضي بوجود اشتراك معرفي بالعلامات الموظفة لدى الطرفين ليحصل التفاعل. يمكن قول الشيء نفسه في تواصل القارئ مع النص المكتوب، فإذا كانت معرفته بالقراءة والكتابة ضرورة لإنجاز عملية القراءة، فإن معرفته بآليات تحليل الخطاب وطرائق تحليله مفيدة جدا للوصول إلى أقصى درجات التفاعل مع النص المكتوب.
لا شك في أن ما يحصل في التواصل الشفاهي والكتابي، وما يستدعيه كل منهما من معرفة أولية ومتطورة بالعلامات الموظفة فيهما معا لتحقيق التفاعل، ينطبق في حال استخدام الوسائط المتفاعلة. قد نتعلم بواسطة ما تقدمه لنا هذه الوسائط من وظائف وأيقونات إمكانيات للدخول والخروج، وتحقيق درجة بسيطة للتواصل والتفاعل، غير أنها ليست كافية للارتقاء إلى مستوى التفاعل الحقيقي الذي لا يقف عند حد توظيف أداة التواصل، أو استخدام الوسيط، لأن هذا المستوى من المعرفة لا يتعدى كونه يتيح عملية الاستعمال من أجل الاستهلاك، ولا يسمح بالانتقال إلى مستوى الإنتاج.
إن التفاعل الحقيقي المؤسس على ما تقدمه الوسائط المتفاعلة، لا يقف عند حد الاستخدام المحدود للإمكانيات الأولية والبديهية، التي يمكن أن يدركها ويوظفها حتى الطفل الصغير الذي لم يتعلم لغة الكلام بعد. فالوسائط المتفاعلة نتاج صيرورة تاريخية ظل الهاجس الإنساني المركزي فيها هو تحقيق الانتقال من مستوى خطية التواصل إلى التواصل المتعدد الأبعاد، الذي يكاد يتساوى فيه المرسل والمتلقي على مستوى الفعل والتفاعل. ولهذا السبب نعتبر العصر الرقمي تركيبا لمختلف الوسائط وتضمينا وتطويرا لها أيضا. فالوسائط المتفاعلة ليست فقط أدوات أو وسائل للتواصل والتفاعل، إنها أيضا فضاء ولغة وخطاب، ومجال للإبداع. وبدون معرفة خصوصيات هذا الفضاء، وتمثل دقيق للغاته، والإمكانات التي يتيحها على المستوى الخطابي والإبداعي، ستظل معرفتنا به محدودة وقاصرة عن الإحاطة بمختلف إمكاناته التواصلية والتفاعلية. ولذلك نظل في منطقة الاستهلاك الرقمي الذي يقف عند حد تلقي الرسائل، وإعادة توزيعها، ظنا منا أن من نبعثها إليهم لم يتلقوها هم أيضا؟ وفي أحسن الحالات نعلق على تلك الرسائل بما يعبر عن أهوائنا ودرجات قدراتنا التواصلية البسيطة، ومستويات تفاعلنا الأولية والبديهية.
لا يمكن أن يحصل التفاعل الحقيقي إلا بتمثل مختلف بنيات ووظائف الوسائط المتفاعلة. ومعنى ذلك أنه لا بد لنا من معرفة حقيقية بعوالمها ولغاتها المختلفة، ويستدعي ذلك تعلم «أبجديتها» الخاصة وبلاغتها المتطورة، تماما كما يحصل في تعلمنا نظام قواعد لغة طبيعية، وتمثل مختلف عوالمها الاستعارية والبلاغية. إذا كانت محاربة الأمية لدى الأحداث ضرورية من خلال تعلم القراءة والكتابة، وتعميق المعرفة بهما للانتقال من مستوى القارئ فقط، إلى إمكان التحول إلى الكاتب، فإن محاربة الأمية الرقمية، لدى الأحداث والكبار معا، ضرورية للانتقال من مستوى التلقي الرقمي (الاستهلاك)، إلى مستوى الإنتاج. ولكي تتحقق هذه «المحاربة» لا بد من تطوير خطط تربوية وتعليمية وثقافية على مستوى مختلف مكونات المجتمع، إذا أردنا فعلا الانتقال إلى/ ودخول العصر الرقمي لتحقيق التفاعل الحقيقي والإيجابي بين مختلف مكونات المجتمع.
إذا بقيت هذه المعرفة مقتصرة على المتخصصين في المعلوميات، ولم تنتقل لتصبح شاملة لكل عناصر المجتمع، أو أننا حددنا هذه المعرفة في التلقي الأولي لاستخدام الوسائط الجديدة، سنظل نتحدث عن احتكار هذه المعرفة لدى «الكهنوت الرقمي» الذي يعرف أسرارها، ويطورها بشكل دائم، ونظل نحن فقط مجرد مستهلكين للأدوات والبرمجيات التي ينتجونها. وبذلك سنكون، كما وقع في أوروبا العصر الوسيط، حيث كانت الكنيسة تمتلك معرفة القراءة والكتابة، بينما كل الشعب يعيش في ظلام الأمية والجهل. ليكون التفاعل الرقمي لا بد من الحصول على معرفة رقمية.
ليس الاستهلاك الرقمي سوى رد فعل سلبي. فكيف يمكننا أن نتحول من متلقين إلى مرسلين؟ هل يمكننا أن نحقق التفاعل الحقيقي بدون أن نكون فاعلين حقيقيين؟ هذا هو سؤال التفاعل الرقمي للمشاركة في العصر الرقمي.
٭ كاتب مغربي