تفضل بكتابتها مشكورا، الكاتب والباحث المسرحي والأكاديمي المغربي الدكتور عبد الرحمن بن زيدان.
المسرح بسؤاله الوجودي موقف ممن يسلبه وجوده.
منذ تولى المسرح ممارسة مهامه في كتابة واقعه ومتخيله، ومنذ أرست كتاباته الدرامية قواعد تثبيت دعائم وجوده الرمزي، والسؤال الوجودي معه يكبر، وتتسع دلالاته، مدعومة بمواقف تعلن عن انتمائه إلى الإنسان الذي يعيش حالات الصراعات الخفية منها والظاهرة، صراعه مع ذاته، وصراعه مع محيطه، ونزاعه مع من تخلى على القيم الإنسانية بعد أن جعلها عرضا وطلبا للتجارة على حساب كل المبادئ التي هي مبادئ خالدة في المثاليات لأنها حلم يحلم به هذا الإنسان، أو أنها مثاليات ترافقه في كل أعماره يريد بها تحقيق سعادته في الحياة.
المسرح كتابة منكتبة برؤية تراجيدية ليست مصاغة من فراغ لتكون وقتية تزول بسرعة، بل هي فعل ثقافي وفكري وفلسفي يحقق وجوده باللغة، وبالطقوس الفرجوية، وبالتمثيل، والرقص، والجنون، وملامسة أصعب اللحظات العصية في أعمار الأفراد والشعوب، إنه بكل المقاييس مسرح خالد خلود رؤية المؤلف الذي يقدّم عالما مختلفا فقد صوابه بعد أن أن طلق ارتباطه بكل أشكال الصراعات، والنزاعات التي لا تبقي ولاتدر بعد أن أخفاها، ووضع لها أقنعة تحجب رؤية المعيش بسبب تضارب المصالح التي تكون ـ دوما ـ وراء هذا الصراع الدائم الذي يكون مداره وأساسه عمليتي المحو وإبدال ما كان قبل المحو بالبديل الذي تراه المصالح الطبقية، أو المصالح المهيمنة على دفة العالم بديلا يخدم مصالحها.
من هنا فكل النصوص المسرحية التي كتبها المؤلفون من العصر اليوناني إلى الآن تبقى نصوصا تقدم تاريخا وقد كتب كل أشكال الصراع، والنزاعات، وأشكال الاختلاف، ومعاني فهم العالم فهما حافلا بالسؤال الأنطولوجي حول الغامض، والواضح، والمُعلن والمستتر، والمنتمي للعالم واللامنتمي إلي عنف هذا العالم، ومن شدة الارتباط بالمفارقات التي تحكم الإنسانية فقد ظلت هذه النصوص ذاكرة حيّة لحياة الرهوط، والأفراد، والجماعات، والانتماءات الفلسفية، والعقدية، والإيديولوجية.
ولعل معاني ودلالات هذه النصوص هي التي تقدم شكل الانتماء إلى السياقات، والأفكار، والمبادئ التي يدافع عنها كل مؤلف يريد أن يُخلّد رأيه مع رؤيته لعالمه بما يكتبه مستعينا في تحقيق ذلك بالأسطورة، أو الملاحم، وبالزمن الافتراضي، أو الزمن الواقعي في علاقتيهما بالشخوص، والأماكن، والأحداث التي يولدها الواقعي والمتخيل، ليتم تأويل كل المصادر والمراجع المتوفرة لدى المؤلف ليعمل على تحيين الموقف المقبول والموقف المرفوض ليكون تعبيرا عن راهنية زمن الكتابة.
كل تجربة مسرحية إلا و تستمد بقاء وجود رؤيتها من سياقاتها، وكل رؤية تراجيدية إلا وتنهل من خلل واقعها ما تراه غير مستقيم وغير صالح للعيش فتنقله إلى الزمن الدرامي لتقابله مع كل خلل يحكم زمن الكتابة حتى يتم استحضار الأيام الحالكة للصراع ليكون التجريب المسرحي إعادة تمثل الواقع بهذا الخلل، وتكون إعادة صوغه بالشكل الذي ينأى عن الواقع تكمن في إعادة بنائه بما يليق بمعنى البحث عن حياة أفضل بعد أن كسرتها أيادي من يعبث بالحياة.
لهذا ظل المسرح بكل اختلافاته، وبكل تباين رؤاه للواقع وفيا لكلام الرفض الذي يتبناه بالمواقف الرافضة لهذا الخلل، وظل يكابد بمرارة لحظة المعاناة التي تجعله كاتبا لتاريخه، وكاتبا لمعنى الزمن المتخيل الذي يبني به حلما إنسانيا يتخذ حضوره في الكتابة وعيا جمعيا يسكن البنيان التراجيدية العميقة في النص الدرامي المكتوب.
بهذا الاختلاف ينتقل المسرح إلى تجربة أخرى تعطي الحياة للكلمات، وتمنح الحيوية للحوارات الصامتة حتى يصبح الفرجوي فيها ناطقا بزمن تلقي العرض المسرحي، وهو العرض الذي لا يخلو من غرابة تكون مبنية على وسائط فنية أخرى تجعل كل عنصر من عناصره تتحرك بآنسجام شاعري يبوح بما يريد مؤلف النص قوله، ويبوح به المخرج كناقل أو مؤول لهذا النص الذي سيصير بالصوت والصورة والحركة والنور والظلام تعبيرا عن المسكوت عنه في الحياة الإنسانية.
هذا الاختلاف أثناء تكوين التجارب المسرحية، وتكوين كل تصوراتها، و إنشاء نظرياتها، ودعمها بكل ممارساتها المتحولة بتحول الزمن والمكان نلفيه قد أعطى أعمارا متباينة لهذه التجربة المسرحية عبر العصور فيها يظل سؤال التحول، والتجاوز، والتحدي سؤالا يكتب معنى هذا الاختلاف حيث كل تجربة إلا وتُنظر لسيرورتها بما تريد أن تكون عليه العملية الإبداعية للنص والعرض، والتلقي.
في هذا الاختلاف تبقى الرؤية التراجيدية للعالم مدار التجربة المسرحية في التجارب التي تحمل منظومة فكرية وفلسفية وجمالية، وتبقى مرجعياتها منطلقا لكل قراءة تريد استخراج ما تقوله هذه المدارات بلغاتها، وأسئلتها، وعلاماتها الخاصة.
وبالعودة إلى المسرح الذي أنتجه الصراع بين المصالح، والصراع بين الإيديولوجيات التي تهندس مخططاتها للهيمنة بالقوة على العالم، نجد أبعادا جديدة للاختلاف قدمت نماذجها في المسرح الذي خلخل أركان وأسس الممارسة المسرحية الموجودة ، ليظهر بديل هذا المسرح بسؤال وجودي جديد يكون هو القرين الذي يرفض قرينه، ويكون هو القسوة التي ترفض القسوة برؤية جديدة تنتج قسوتها بعد أن صارت ضحية قسوة حقيقية تمارس قسوتها على الإنسان الفنان، المفكر، الهلوع لأنه كاتب زمانه بزمن العنف الجسدي، واللغوي، وعلامات الصورة المحملة بإقناع المتلقي على قبول التلذذ بهذا العنف بعد أن يكون قد سحب منه كل مقومات وجوده.
في القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين اتخذ الأدب منحى جديدا ارتبط بالتفاعل بين الذات المتشظية وبين الآخر المهيمن، كما اتخذت الثقافة أبعادا جديدة حكمتها الاختيارات الجديدة لعالم غزته المصالح، وسيطرت فيه عمليات ترويج الثقافة التي تصلح للتصالح مع كل حداثة وهمية مفقودة، وفي المسرح تمّ اختيار فعل التمرد، والغضب، والهدم، لبناء اللامسرح، أو بناء صورة مسرح جديد يعمل على مدّ قنوات الحوار بينه وبين العالم، لكن وبقدر ما كانت تكبر صعوبة التواصل مع الاختيارات الفنية الجديدة لتكوين رؤية حداثية للتجربة فقد أصبحت العوامل المحبطة للإبداع في المسرح وفي ترويجه محاصرة بالاختيار الرسمي لما اختارته الكثير من الأنظمة لتقزيم دور الثقافة، والفنون، والآداب واستبدالها بما يمكن استهلاكه بسهولة حتى لا تتم العودة إلى كل سؤال وجودي حول الهوية، وحول الرجوع إلى فهم الصيرورة التاريخية التي يوجد فيها الإنسان.
لقد شاعت النظريات المسرحية التي وسّعت من دائرة الاهتمام بكل الاختيارات التي ترفض وهم الحداثة القائمة على ثقافة الاستهلاك، ورسخت مفاهيم جديد أساسها يبدأ من كل تجريب يلامس الفضاء المسرحي ليغيّره جماليا ليكون فضاء العرض المسرحي وجماليات تأثيثه كتابة شاعرية لغرابة العلامات التي تنطق بدهشتها أمام المتلقي، كما بدأت مدارس الإخراج المسرحي تراجع علاقتها بنص المؤلف، وعلاقتها بالجسد، وبالعلامات التي تؤثث زمن الفرجة، وبالنص الموسيقي الذي يزيد من مستويات تلقي ما يقوله برنامج الصور المتعاقبة على الركح، وهذا كله كان بفضل المخرجين المسرحيين، والدراماتورجيين، والسينوغرافيين الذين بعثوا في الركح روحا جديدة أساسها التنويع في العلامات البصرية لتحقيق منظومات فنية دالة على زمن الحروب، والعنف، والارهاب، والذبح، و فضح عمليات استولاد طبقات طفيلية تحكم الدول ومن يتبعها من دول العالم المتخلف.
وضمن هذا الاختلاف، كان المسرح في الوطن العرب يبحث عن موقع لخطابه بين باقي الخطابات حتى يجعل كل تجربة مسرحية جديدة عارفة بكيفية مواجهة من يصادر حرية التعبير، ويحد من إبداعية الإبداع، ويضع التحريم أساس ما يسميه في منظومته الإيديولوجية بالتنمية الثقافية والفنية، وهذا في الحقيقة يقدم هذه المنظومة المفرغة من دلالات التنمية لأنها بدون ثقافة حداثية، وبدون مسرح متسائل، وبدون شعر دفّاق بوجعه الشعري، وبدون رواية تكتب في سرودها عن واقعية الواقع.
لا يمكن أن نتحدث عن مسرح عربي إلا في سياق ما يقع في هذا الواقع الذي يعيش حالة ذعر شديد أمام كوارث بشرية يكون فيها العربي ضحية الانكسارات المتتالية المكتوبة بزمن الهجرة القصرية المفروضة عليه ، إنها التراجيديات التي تخلف يوميا لائحة طويلة من المغادرين لأوطانهم، والمغادرين قصرا للحياة، نتيجة حروب ظالمة تقودها مصالح الدول العظمى حبا ـ كما تدعي ـ في تثبيت دائم الديموقراطية، وحبا في إعادة إعمار ما خربته بأيديها مع من خان الوطن.
المسرح العربي يعيش مأساة واقعه الذي يقدمه بصعوبة زمن اللقاء بالمتلقي، واقع يستخرجه المسرحيون من كمونه إلى الحياة بعد معاناة شديدة حتى يجعلون العروض منخرطة في مأساة واقعها لتكون خطابات كل النصوص المسرحية حاملة لوعيها التاريخي بصحبة صرخة صامتة، أو تكون صمتا صارخا بصحبة احتجاج على ما آل إليه الواقع العربي بسبب غياب للحريات، وبسبب غياب دعم الدولة للإنتاجية المسرحية، وغياب الاحتفاء بالمسرحيين الذي كانوا طليعيين في تقديم ما يبرز التزامهم بما يمكن أن يكون عليه الوطن العربي بالحلم العربي، لكن النسيان الرسمي سلاهم فأصبحوا مفرغين من رمزيتهم حتى بعد مماتهم لأن القائمين على الشأن الثقافي يريدون هذا...
في الوطن العربي لا يمكن لهذا المسرح أن يكون فضاء للتعبير الحر في وطن يعتقل مسرحييه، ويضعهم خلف القضبان، ولا يمكن لمسرح أن يتنفس نسائم الحرية في وطن تصادر فيه ذهنية التحريم كل الفنون، و تصادر كل ثقافة حداثية، و تمنع كل فكر متنور، وفلسفة متسائلة، وتهمّش كل سؤال وجودي بإمكانه أن يزرع في المتلقي حب استنبات الحياة ليحب الحياة، ويعشق الجمال بعيدا عن ذهنية التحريم، والمنع، والمصادرة.
وفي المغرب الذي مازال فيه المسرحيون يعيشون بآمال البقاء واقفين فوق الركح للمساهمة في بقاء هذا المسرح واقفا بكرامة للدفاع على المشروع المسرحي والمجتمعي الممكن، للمغرب الحداثي الممكن، لأن ارتباطهم قوي بقوة مواقفهم وهم ينتقدون ما يمكن انتقاده لتبقي خطاباتهم ساخرة من الحالات التي هي خلل يستوجب السخرية منه، وهم في هذا يوظفون غضبهم بالسخرية للتعبير عن واقع مفروض لا يعطيهم الأمل في البقاء لكنهم يصرون على البقاء.
العالم متغيّر بغموضه، والغموض يبقى هو صانع وضوح من يحكم هذا العالم بعنف يكسر الأقلام كل يوم، وينشر صور الذبح، والقتل، والاختطافات اليومية لرجال الفكر، وهدم بنايات المسرح، وقص جناح التخييل عند ساردي الفرجات الشعبية، وكل غرضهم هو إفراغ الحياة من جمالية الجمال، ومتعة المتعة، لخلق مظاهر بشرية بعيدة عن كل ما يمكن أن يرتقي بذوقها، وإدراكها لفهم الذات والعالم معا.
منع الفنون من بناء الذوق، وبناء الفكر، وتوقيف بناء مسارح تعيد الثقة إلى الإنسان، هو ما يقلص مسافة الارتباط بالحياة ليعطي للظلامية مبررات سياسيتها التي تدافع بها عن وجودها بهذا المنع، وهذا التوقيف لكن الأدب، والفنون، والمسرح سيظلون وجها من وجوه التحدي في توعية كل مجتمع يريد التطور والإرتقاء لفهم ذاته وفهم عالمه حتى يتملك إرادة إضاءة العتمات بما يضع حدا لانتشار الجهل، والتخلف الفكري، وبناء مجتمع الثقافة وليس مجتمع اللاثقافة....واللامسرح، واللاحياة....