«أيها الألم
من أين تعضني
لأعضك ..
ونتبادل العض كغريمين لدودين»
من أين تعضني
لأعضك ..
ونتبادل العض كغريمين لدودين»
شهد المغرب بعد الاستقلال قلاقل سياسية واجتماعية مضطربة، واجهتها الدولة المغربية بحملات من القمع في حق الآلاف من الضحايا الذين كان مصيرهم الاختطاف والاختفاء القسري، ودهاليز المعتقلات السرية لا لشيء سوى أنهم دافعوا عن كرامة الوطن والمواطنين وحقهم في العيش والحرية والمساواة.
ويأتي بعدها، تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة لجبر الأضرار تعويضا ماليا، أو إعادة تأهيل، أو إدماج أو استرداد للكرامة. وتساوقا مع هذا الجبر، تناسلت مجموعة من الروايات تدور أحداثها عن أبشع صور تلك السنوات الموسومة في المشهد السياسي المغربي بـ«سنوات الرصاص»، ومن بين هذه النصوص الروائية التي تناولت محنة الاعتقال السياسي «بوح الذاكرة وجع جنوبي» للقاصة والروائية المغربية البتول المحجوب الصادرة عن دار فضاءات في عمّان من 120 صفحة من القطع المتوسط، لا تتخللها عناوين، وإنما هي عبارة عن مقاطع مفككة ومتناثرة فنيا تعبر عن رغبة أكيدة في اختراق قواعد اللعبة المتداولة في كتابة الرواية، القائمة على تسلسل الأحداث وتتابع الوقائع، إنها رواية من نوع خاص تحكي من خلالها الكاتبة كل شيء عن والدها الذي كان واحدا ممن ذاقوا مرارة الاعتقال والاستشهاد في النهاية تحت سقف المعتقل السري. هذا الجرح الغائر الذي انوشم في ذاكرة الكاتبة وجعا جارحا يأبى النسيان حتى في قصصها، ولأنه فوق الاحتمال، كانت الكتابة هي الحيلة الوحيدة قبل أن تتحول الذاكرة إلى مخزون متعفن «وحدها الكتابة تضفي الدفء على روح ترتعش وحدة ووحشة من برودة الأمكنة».
إن المقبل على غلاف الرواية يواجهه عنوانها الذي يتكون من شقين «بوح الذاكرة – وجع الجنوب»، والبوح مشتق من الإباحة والاستباحة بمعنى الجواز وهو نقيض الحرمة، أي أن الساردة ستفتح ذاكرتها على مجموعة من الذكريات القاتمة والجارحة، كي تنشرها على غسيل المكاشفة الحكائية، إيحاء منها أن القول والكتابة تخلصان من التحريم والموانع، في حين يشير مفهوم الذاكرة بشكل عام إلى مجموعة من النشاطات العقلية والمعرفية، القائمة على ترميز المعلومات التي يستقبلها الدماغ، ومعالجتها وتخزينها بهدف استرجاعها عند الحاجة، أما الوجع الذي يحيل إلى قمة الألم فينتسب إلى «الجنوب»، ويرتبط به، فيحيل إلى الأراضي السمراء ـ الصحراء في هذا المقام، في مقابل الاهتمام بالأراضي البلقاء ـ الشمال. ومن ثمة يمكن القول، إن رواية «بوح الذاكرة وجع جنوبي»، ومنذ الوهلة الأولى، توحي بالكآبة، ومن هذه الزاوية، يكون العنوان قد أفشى بنية النص، التي لن تكون سوى جرعات من البوح الجارح والموجع الذي سيحاصر القارئ من كل الجهات وفي كل الأمكنة، حتى إن هذا الوجع تحول في الرواية إلى شخصية بالكامل، يستفز، يؤلم، يجرح، ويغمز وينبش، ليسرب إلى القارئ عدوى وجع المكان والإنسان في سياق مشترك. وعليه، تكون الرواية تعبيرا عن أكثر من وجع واحد ووحيد، وإنما عن أوجاع متعددة، وجع المعتقل، وجع المنفى اختزلتها الكاتبة في وجعها الجنوبي الذي يحمل أكثر من دلالة.
ليس المكان مجرّد خلفية لأحداث الرواية، بل يعتبر عنصرا أساسيا في تقديم الحدث الروائي ونحت شخوص الرواية، ولا يمكن أن تستغني عنه، سواء كانت الرواية كلاسيكية أو تجريبية، إذ يعتبر الحيّز الذي توجد فيه الشخصيات الروائية وتتطوّر الأحداث.
تحفل رواية «بوح الذاكرة وجع جنوبي» بالعديد من الأمكنة المفتوحة والمغلقة، ومن خلال صوت الساردة تتتالى المشاهد والحكايات الموجعة التي تستوحي أمكنة جارحة في ظل أحداث ساخنة، وفي ظل واقع يعيد إخراج التهميش نفسه، وفي منفى قاتل، تأتي الكتابة لمواجهة ضراوة العنف وخراب الموت، من خلال رحلة ذاكرة مفجوعة ومفزوعة تبوح الساردة بتجربتها المريرة، ويتسع الكلام لكل شاردة وواردة، ليكون المكان مسرحا تتوالى فيه الأحداث الموجعة من لحظة البداية إلى اللحظات الأخيرة من الحكاية، وتتحرك فوقه شخصيات مكتظة بالأوجاع، ومن هذه الأماكن نذكر:
أ – المعتقل
المكان الذي يلفت انتباه القارئ هو المعتقل الذي يأخذ شكل قوة ضاغطة، بل إن نمطيته المتوحشة كانت لها القدرة على التأثير في شخوص الرواية خارجه كما في داخل دهاليزه، الذي يشار إليه مباشرة بـ»غرف التحقيق، الزنزانة، الفضاء الضيق، غياهب مظلمة، زوايا باردة، مخبأ «مكونة»، جدران صقيعية، المخبأ، دهليز أكدز …»، وأخرى بأساليبه وأدواته مناخات الوجع: «الشيفون، الجلاد، الليالي الباردة، نزع الأظافر، رائحة الموت، أصابع مرتعشة، ليالي الصيف الحارقة والخانقة».
في فضاء «أكدز» معتقل سري ورهيب، يتحول المعتقل إلى حكاية، والكتابة إلى ذاكرة وإبداع، وفي غمرة هذا البوح وما يصطحبه من وجع، تستعيد الساردة أوجاع التجربة السجنية لدى الأب والأخ والرفيق، ثم تعيد لملمة تشظيها، أي إعادة إخراجها في مجاز الحكاية موجعة جارحة، ما يتيح للقارئ التعرف على أقبح أو أشنع المخترعات البشرية، نقرأ للساردة: «وتلك الزنزانة الانفرادية في الليالي الباردة في أرض برودتها تحت الصفر في ليالي الشتاء الكئيبة، وحارس لعين يجيد التعذيب في ليالي صقيعية». وتعرية لهذا العنف المتوحش نقرأ أيضا: «كنا هنا نتعفن كعلب سردين نتن، وكان ينزوي هناك في ذلك الركن موليا وجهه للجدران كلما ضاقت به أمتار الزنزانة». هكذا تبوح الكاتبة بما يمكن أن يعانيه الإنسان داخل هذا الفضاء المغلق من معاملات قاسية جسدية ونفسية، وهو كذلك الفضاء السجني المغلق في وجه الحياة، والمفتوح على الموت البطيء، وأخيرا الاستشهاد. هذا الصنيع الخارج عن أي ثقافة إنسانية يتساوى فيه الرجل والمرأة والشيوخ، لأن وسائل القمع مسموح بها لكل الفئات بالتساوي. نقرأ أيضا «رفاق العتمة من رجال ونساء في العنابر المجاورة يزداد حنقا كلما تذكر صورة كهل أشرف على النهاية ومازال يعلق على آلة التعذيب». ونقرأ: «كلما دنس الكرباج تصرخ دفاعا عن شرف الأرض السمراء، ورائحة «الشيفون المبلل ببول حارس لعين يمرره على فم وأنف».
وعليه، يكون السجن ذاكرة مكانية يختزن الرعب، الخوف، السادية والاحتضار جرعات، إنه فضاء قاس وظالم بكل الحمولة الدلالية لكلمتي القسوة والظلم، وبمثابة القَدَر الذي يتحكّم في الشخوص، إذ هو الذي يشكّل الشخصيات ويضبط مصيرها ويحدّد البنية النفسية والذهنية ومن ثمة يحركّها ويصنع تفاعلها مع كل ما يحيط بها.
ب ـ طانطان
في الرواية، مدينة جنوبية مجاورة للبحر والصحراء اسمها «طانطان «، تهديها الكاتبة نصها الروائي، نقرأ من الإهداء: «إلى مدينة تسكنني وأسكنها، نتقاسم الوجع والحب والفرح ذاته، إلى مدينة مكونة بالوفاء لمن رحل ذات فجر ضبابي وتوارى في الغياب إلى مدينة عصية على النسيان». «طنطان» التي تهديها الكاتبة بوحها الموجع إذن، تمثل السطوة في الرواية، تربطها وإياها علاقة حلولية بلغة المتصوفة، فهي تحفظ قسماتها وجغرافيتها: «تشرد نظراتي بعيدا صوب تمثال ناقة وجمل كادا يتعانقان عناقا يمنحك دفء قبلات شمس صحراوية الإشراق»، هي ذاكرة الطفولة: «مدينة احتضنتني في يوم ماطر بركن بيتنا العتيق»، بل تتأنسن هذه المدينة كي تتقاسم والكاتبة فائض قيمة الوجع فيبدو وجعها نفسه وجع مدينة طانطان «محياها تغلفه غمامة حزن على وداعته، ذات صباح ماطر، وآثار الدمع على حيطانها تنبئ عن مرور مطر من هناك»، هي مدينة ذاكرة مكان لولادة الحب وسيرته الحاضرة ـ الغائبة، كما تنزف جراحا ويعاني شخوصها في مكان جنوبي القسمات: «تتابع حكيها عن مدينة جريحة، عن وجوه أطفال أبرياء، عن أمهات يلتحفن سوادا، وعن حيطان دامعة هناك «عن وعن..». ثم هي شرسة لأن «حسن المحجوب» غادرها ذات فجر ضبابي، وتوارى في الغياب»، وأخيرا، هي «حكاية الأرض، أو المدينة الجنوبية الجريحة، ومعاناة شخوصها في مكان جنوبي القسمات» يكتب الأديب «بشير حيدر» في تقديمه للرواية.
نعم، هي مدينة عصية وحافلة بالمتناقضات، لكنها مدينة بمذاق الشهد قصة إنسان عبر عن اختياراته ومواقفه حد العطب النفسي والجسدي، وبقمة الكرامة الوفاء للمبدأ: «رجل أسمر المحيا قوي البنية، حاد النظرات، رجل هزم جلاده بدون أن ينطق، مقيد الأيدي والأرجل معا»، وأحيانا أخرى، حد الاستشهاد.
ويأتي بعدها، تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة لجبر الأضرار تعويضا ماليا، أو إعادة تأهيل، أو إدماج أو استرداد للكرامة. وتساوقا مع هذا الجبر، تناسلت مجموعة من الروايات تدور أحداثها عن أبشع صور تلك السنوات الموسومة في المشهد السياسي المغربي بـ«سنوات الرصاص»، ومن بين هذه النصوص الروائية التي تناولت محنة الاعتقال السياسي «بوح الذاكرة وجع جنوبي» للقاصة والروائية المغربية البتول المحجوب الصادرة عن دار فضاءات في عمّان من 120 صفحة من القطع المتوسط، لا تتخللها عناوين، وإنما هي عبارة عن مقاطع مفككة ومتناثرة فنيا تعبر عن رغبة أكيدة في اختراق قواعد اللعبة المتداولة في كتابة الرواية، القائمة على تسلسل الأحداث وتتابع الوقائع، إنها رواية من نوع خاص تحكي من خلالها الكاتبة كل شيء عن والدها الذي كان واحدا ممن ذاقوا مرارة الاعتقال والاستشهاد في النهاية تحت سقف المعتقل السري. هذا الجرح الغائر الذي انوشم في ذاكرة الكاتبة وجعا جارحا يأبى النسيان حتى في قصصها، ولأنه فوق الاحتمال، كانت الكتابة هي الحيلة الوحيدة قبل أن تتحول الذاكرة إلى مخزون متعفن «وحدها الكتابة تضفي الدفء على روح ترتعش وحدة ووحشة من برودة الأمكنة».
إن المقبل على غلاف الرواية يواجهه عنوانها الذي يتكون من شقين «بوح الذاكرة – وجع الجنوب»، والبوح مشتق من الإباحة والاستباحة بمعنى الجواز وهو نقيض الحرمة، أي أن الساردة ستفتح ذاكرتها على مجموعة من الذكريات القاتمة والجارحة، كي تنشرها على غسيل المكاشفة الحكائية، إيحاء منها أن القول والكتابة تخلصان من التحريم والموانع، في حين يشير مفهوم الذاكرة بشكل عام إلى مجموعة من النشاطات العقلية والمعرفية، القائمة على ترميز المعلومات التي يستقبلها الدماغ، ومعالجتها وتخزينها بهدف استرجاعها عند الحاجة، أما الوجع الذي يحيل إلى قمة الألم فينتسب إلى «الجنوب»، ويرتبط به، فيحيل إلى الأراضي السمراء ـ الصحراء في هذا المقام، في مقابل الاهتمام بالأراضي البلقاء ـ الشمال. ومن ثمة يمكن القول، إن رواية «بوح الذاكرة وجع جنوبي»، ومنذ الوهلة الأولى، توحي بالكآبة، ومن هذه الزاوية، يكون العنوان قد أفشى بنية النص، التي لن تكون سوى جرعات من البوح الجارح والموجع الذي سيحاصر القارئ من كل الجهات وفي كل الأمكنة، حتى إن هذا الوجع تحول في الرواية إلى شخصية بالكامل، يستفز، يؤلم، يجرح، ويغمز وينبش، ليسرب إلى القارئ عدوى وجع المكان والإنسان في سياق مشترك. وعليه، تكون الرواية تعبيرا عن أكثر من وجع واحد ووحيد، وإنما عن أوجاع متعددة، وجع المعتقل، وجع المنفى اختزلتها الكاتبة في وجعها الجنوبي الذي يحمل أكثر من دلالة.
ليس المكان مجرّد خلفية لأحداث الرواية، بل يعتبر عنصرا أساسيا في تقديم الحدث الروائي ونحت شخوص الرواية، ولا يمكن أن تستغني عنه، سواء كانت الرواية كلاسيكية أو تجريبية، إذ يعتبر الحيّز الذي توجد فيه الشخصيات الروائية وتتطوّر الأحداث.
تحفل رواية «بوح الذاكرة وجع جنوبي» بالعديد من الأمكنة المفتوحة والمغلقة، ومن خلال صوت الساردة تتتالى المشاهد والحكايات الموجعة التي تستوحي أمكنة جارحة في ظل أحداث ساخنة، وفي ظل واقع يعيد إخراج التهميش نفسه، وفي منفى قاتل، تأتي الكتابة لمواجهة ضراوة العنف وخراب الموت، من خلال رحلة ذاكرة مفجوعة ومفزوعة تبوح الساردة بتجربتها المريرة، ويتسع الكلام لكل شاردة وواردة، ليكون المكان مسرحا تتوالى فيه الأحداث الموجعة من لحظة البداية إلى اللحظات الأخيرة من الحكاية، وتتحرك فوقه شخصيات مكتظة بالأوجاع، ومن هذه الأماكن نذكر:
أ – المعتقل
المكان الذي يلفت انتباه القارئ هو المعتقل الذي يأخذ شكل قوة ضاغطة، بل إن نمطيته المتوحشة كانت لها القدرة على التأثير في شخوص الرواية خارجه كما في داخل دهاليزه، الذي يشار إليه مباشرة بـ»غرف التحقيق، الزنزانة، الفضاء الضيق، غياهب مظلمة، زوايا باردة، مخبأ «مكونة»، جدران صقيعية، المخبأ، دهليز أكدز …»، وأخرى بأساليبه وأدواته مناخات الوجع: «الشيفون، الجلاد، الليالي الباردة، نزع الأظافر، رائحة الموت، أصابع مرتعشة، ليالي الصيف الحارقة والخانقة».
في فضاء «أكدز» معتقل سري ورهيب، يتحول المعتقل إلى حكاية، والكتابة إلى ذاكرة وإبداع، وفي غمرة هذا البوح وما يصطحبه من وجع، تستعيد الساردة أوجاع التجربة السجنية لدى الأب والأخ والرفيق، ثم تعيد لملمة تشظيها، أي إعادة إخراجها في مجاز الحكاية موجعة جارحة، ما يتيح للقارئ التعرف على أقبح أو أشنع المخترعات البشرية، نقرأ للساردة: «وتلك الزنزانة الانفرادية في الليالي الباردة في أرض برودتها تحت الصفر في ليالي الشتاء الكئيبة، وحارس لعين يجيد التعذيب في ليالي صقيعية». وتعرية لهذا العنف المتوحش نقرأ أيضا: «كنا هنا نتعفن كعلب سردين نتن، وكان ينزوي هناك في ذلك الركن موليا وجهه للجدران كلما ضاقت به أمتار الزنزانة». هكذا تبوح الكاتبة بما يمكن أن يعانيه الإنسان داخل هذا الفضاء المغلق من معاملات قاسية جسدية ونفسية، وهو كذلك الفضاء السجني المغلق في وجه الحياة، والمفتوح على الموت البطيء، وأخيرا الاستشهاد. هذا الصنيع الخارج عن أي ثقافة إنسانية يتساوى فيه الرجل والمرأة والشيوخ، لأن وسائل القمع مسموح بها لكل الفئات بالتساوي. نقرأ أيضا «رفاق العتمة من رجال ونساء في العنابر المجاورة يزداد حنقا كلما تذكر صورة كهل أشرف على النهاية ومازال يعلق على آلة التعذيب». ونقرأ: «كلما دنس الكرباج تصرخ دفاعا عن شرف الأرض السمراء، ورائحة «الشيفون المبلل ببول حارس لعين يمرره على فم وأنف».
وعليه، يكون السجن ذاكرة مكانية يختزن الرعب، الخوف، السادية والاحتضار جرعات، إنه فضاء قاس وظالم بكل الحمولة الدلالية لكلمتي القسوة والظلم، وبمثابة القَدَر الذي يتحكّم في الشخوص، إذ هو الذي يشكّل الشخصيات ويضبط مصيرها ويحدّد البنية النفسية والذهنية ومن ثمة يحركّها ويصنع تفاعلها مع كل ما يحيط بها.
ب ـ طانطان
في الرواية، مدينة جنوبية مجاورة للبحر والصحراء اسمها «طانطان «، تهديها الكاتبة نصها الروائي، نقرأ من الإهداء: «إلى مدينة تسكنني وأسكنها، نتقاسم الوجع والحب والفرح ذاته، إلى مدينة مكونة بالوفاء لمن رحل ذات فجر ضبابي وتوارى في الغياب إلى مدينة عصية على النسيان». «طنطان» التي تهديها الكاتبة بوحها الموجع إذن، تمثل السطوة في الرواية، تربطها وإياها علاقة حلولية بلغة المتصوفة، فهي تحفظ قسماتها وجغرافيتها: «تشرد نظراتي بعيدا صوب تمثال ناقة وجمل كادا يتعانقان عناقا يمنحك دفء قبلات شمس صحراوية الإشراق»، هي ذاكرة الطفولة: «مدينة احتضنتني في يوم ماطر بركن بيتنا العتيق»، بل تتأنسن هذه المدينة كي تتقاسم والكاتبة فائض قيمة الوجع فيبدو وجعها نفسه وجع مدينة طانطان «محياها تغلفه غمامة حزن على وداعته، ذات صباح ماطر، وآثار الدمع على حيطانها تنبئ عن مرور مطر من هناك»، هي مدينة ذاكرة مكان لولادة الحب وسيرته الحاضرة ـ الغائبة، كما تنزف جراحا ويعاني شخوصها في مكان جنوبي القسمات: «تتابع حكيها عن مدينة جريحة، عن وجوه أطفال أبرياء، عن أمهات يلتحفن سوادا، وعن حيطان دامعة هناك «عن وعن..». ثم هي شرسة لأن «حسن المحجوب» غادرها ذات فجر ضبابي، وتوارى في الغياب»، وأخيرا، هي «حكاية الأرض، أو المدينة الجنوبية الجريحة، ومعاناة شخوصها في مكان جنوبي القسمات» يكتب الأديب «بشير حيدر» في تقديمه للرواية.
نعم، هي مدينة عصية وحافلة بالمتناقضات، لكنها مدينة بمذاق الشهد قصة إنسان عبر عن اختياراته ومواقفه حد العطب النفسي والجسدي، وبقمة الكرامة الوفاء للمبدأ: «رجل أسمر المحيا قوي البنية، حاد النظرات، رجل هزم جلاده بدون أن ينطق، مقيد الأيدي والأرجل معا»، وأحيانا أخرى، حد الاستشهاد.
ج ـ المنفى
فضاء المنفى في الرواية لم يكن اختيارا طوعيا، بل هروبا من وطن لا يساوي سوى المخابئ المظلمة ولغة الجلاد: «أنسيت الغياهب المظلمة وسوط جلاد لا يرحم وزنازين انفرادية وصراخ نساء يجلدن تحت التعذيب؟». كما أنه فضاء غارق في الغربة والوحدة والبرودة، نقرأ على لسان «أحمد» في منفاه: «فضلت التسكع على أرصفة المنافي الباردة هنا، وارتياد أماكن التاريخ بأندلس فقدناها لحظة وبقينا نحوم حولها حسرة وغصة في الحلق». بيد أن هذا المنفى والملجأ البارد يتحكم فيه فضاء «الوطن ـ المدينة الجنوبية، مما ينتج عنه مواقف يصعب التجانس والتوافق بين مكوناتها، ونكتفي بموقفين:
1 – موقف «علي» المتطرف والرافض أن يؤوب لأرض الوطن، لأن نيوب الوطن مازالت في جسده شهادة إثبات وإدانة وتعاند المحو والمصالحة: «أرتعش كلما نظرت لجسدي العاري أمام المرآة.. خريطة المخابئ السرية منقوشة عليه». والأكثر منه: «أن غرف التحقيق الباردة مازالت على حالها وذاك المحقق الكريه الألفاظ بنظراته الحاقدة، لم أتخلص من كابوس ضرباته المتوالية»، وهذا الموقف سيولد الرغبة في المنفى شفاء وتضميدا: «الجرح أعمق.. دعنا نبحث عن ضماد لجراحنا هنا، بعيدا عن أوطان جرعتنا الوجع ولوعة الغياب ورمت بنا صوب المنافي الباردة».
2 – موقف «أحمد»، نفسه موقف «علي» من الوطن الذي يساوي الأوجاع مستودعا: «أحمد بسحنته السمراء هاجر مرغما وارتمى في حضن امرأة شقراء ووطن بديل بعيدا عن غرف التحقيق وعيون تترصد حركاته»، لكنه، يبقى مشوبا بالحنين، ومازال في القلب ما يستحق الاهتمام بهذا الوطن: «لا الشقراء ولا وطن الحرية أنسياني الحنين إلى أرض الصحراء، وذاك الكثيب هماك، وخيام الوبر الدافئة وقمر منير يمحو عتمة الليل الطويل». هكذا، لم يعد المنفى مكانا يعيش فيه الناس، بل استشفاء ووطنا بديلا يجعل كل أوجاع الوطن الأصل، بمذاق الحرية، وأحيانا يحمل هذا المنفى حنينا، كما يحمل على ظهره نقمة وثأرا.
فضاء المنفى في الرواية لم يكن اختيارا طوعيا، بل هروبا من وطن لا يساوي سوى المخابئ المظلمة ولغة الجلاد: «أنسيت الغياهب المظلمة وسوط جلاد لا يرحم وزنازين انفرادية وصراخ نساء يجلدن تحت التعذيب؟». كما أنه فضاء غارق في الغربة والوحدة والبرودة، نقرأ على لسان «أحمد» في منفاه: «فضلت التسكع على أرصفة المنافي الباردة هنا، وارتياد أماكن التاريخ بأندلس فقدناها لحظة وبقينا نحوم حولها حسرة وغصة في الحلق». بيد أن هذا المنفى والملجأ البارد يتحكم فيه فضاء «الوطن ـ المدينة الجنوبية، مما ينتج عنه مواقف يصعب التجانس والتوافق بين مكوناتها، ونكتفي بموقفين:
1 – موقف «علي» المتطرف والرافض أن يؤوب لأرض الوطن، لأن نيوب الوطن مازالت في جسده شهادة إثبات وإدانة وتعاند المحو والمصالحة: «أرتعش كلما نظرت لجسدي العاري أمام المرآة.. خريطة المخابئ السرية منقوشة عليه». والأكثر منه: «أن غرف التحقيق الباردة مازالت على حالها وذاك المحقق الكريه الألفاظ بنظراته الحاقدة، لم أتخلص من كابوس ضرباته المتوالية»، وهذا الموقف سيولد الرغبة في المنفى شفاء وتضميدا: «الجرح أعمق.. دعنا نبحث عن ضماد لجراحنا هنا، بعيدا عن أوطان جرعتنا الوجع ولوعة الغياب ورمت بنا صوب المنافي الباردة».
2 – موقف «أحمد»، نفسه موقف «علي» من الوطن الذي يساوي الأوجاع مستودعا: «أحمد بسحنته السمراء هاجر مرغما وارتمى في حضن امرأة شقراء ووطن بديل بعيدا عن غرف التحقيق وعيون تترصد حركاته»، لكنه، يبقى مشوبا بالحنين، ومازال في القلب ما يستحق الاهتمام بهذا الوطن: «لا الشقراء ولا وطن الحرية أنسياني الحنين إلى أرض الصحراء، وذاك الكثيب هماك، وخيام الوبر الدافئة وقمر منير يمحو عتمة الليل الطويل». هكذا، لم يعد المنفى مكانا يعيش فيه الناس، بل استشفاء ووطنا بديلا يجعل كل أوجاع الوطن الأصل، بمذاق الحرية، وأحيانا يحمل هذا المنفى حنينا، كما يحمل على ظهره نقمة وثأرا.
٭ كاتب من المغرب