الثقافة لها تعاريف متعددة وتنوعت تعريفاتها وبلغت عددا كبيرا وكذلك فاعلها المثقف تعددت تعــــريفاته فهــل المثقف هو المطلع على كتب كثيرة؟ أم هو المطلع على كتب ثم المنتج للمعرفة؟ أم هو الذي يتقن هضم المعرفة ثم ينتجها بما يتناسب مع المجتمع الذي هو فيه؟ أم هو الذواق الذي يتقن فن التعامل مع الناس بناء على ما في جعبته من علم ومعرفة.
ولا شك في أن كلمة مثقف ما زالت إلى أيامنا تحمل بين طياتها مهابة وتقديرا في قلوب الناس، فالمثقف يفوق حامل الشهادة، لأنَّ حامل الشهادة قد يكون محدودًا بميدان واحدٍ، أمّا المثقف فهو الممتلك للقدرة على التواصل مع الناس في ما يهمّهم في حياتهم المعيشية والفكرية. ويفوق من يخاطبه معرفةً أو يدعي ذلك. وقد استغل بعض الناس هذه المهابة لكلمة مثقف، وكان في داخله ديكتاتورٌ صغيرٌ، فسعى ليتمرد ويقتنص الفرصة ويربّي هذا المارد، أو يتركه تحت رماد ثم لا يلبث أن يظهر لهبُهُ الديكتاتوري الثقافي ليكوِّن مع الزمن شخصية المثقف الديكتاتور، فتراه لا يقبل الرأي الآخر مع أنّ تسويقه لنفسه يقوم على دعاية الاعتراف بالرأي والرأي الآخر في كتاباته وحواراته، ويتكلم عن الحرية ويكون كاتمًا على كلمات من يكونون تحت إمرته، فلا يترك لهم حيّزَ نقدٍ يخالفون به رأيه، وكأنه ما راق له من معنى المثقف إلا المعنى اللغوي القديم، وهو تثقيف الرمح أي بريه وتسويته، فظنَّ أن عليه بري الناس وتسويتهم وفق عقله ورأيه، لا وفق ما توحي به دلالة مثقف المعاصرة التي تحمل في طياتها معاني حرية الفكر وتقبُّل الآخر وهدوء الحوار.
لكن للأسف قد يجد بعض الناس في الثقافة منفذا لعالم الديكتاتورية بغلاف الحرية فتراه يكتب ويدوِّن وينقد، كي يظهر بمظهر المعارض المدافع عن قضية الإنسان، وما هو إلا متسلق على رقاب أولئك المساكين الذين يتابعونه ويصفقون له، ولا يمثلون له شيء بعد وصوله إلى مبتغاه. فالمثقف الديكتاتور كالناقد الذي لم يستطع كتابة الشعر، فنقد الشعراء وسبَّهم. وكذلك الديكتاتور المثقف هو ذلك الإنسان الذي لم يجد نافذة ليصبح رئيسًا وزعيما يتحكم برقاب الناس فجعل النقد لهم وسيلة للظهور والسعي إلى التحكم بالناس من بعد من نافذة نقدهم ومعارضتهم.
وهذه المسألة أي مسألة المثقف الديكتاتور ليست حديثة الظهور في عالمنا العربي، بل هي ضاربة في جذور التاريخ الثقافي العربي وصفحات التاريخ والأدب، دوّنت لنا هذه الظاهرة وعرضتها وكانت لمثقفين ممن علا كعبهم في العلم والثقافة، فابن الزيات المثقّف وصاحب الشعراء والكُتّاب والمنتديات الثقافية، تراه يفتخر بنفسه قائلًا: «ما رحمْتُ أحدًا قطّ» وذلك بعد تمكّنه ووصوله إلى منصب يتيح له التحكّم والسيطرة، بل يتمادى في إظهار ديكتاتوريته بقوله: «الرحمة خَوْرٌ في الطّبيعة» ووصل به الحال أن يرمي خصومه في تنور ويستلذ بآلامهم وطلبهم الرحمة منه.
وكانت تبعات الديكتاتورية الثقافية الزياتية على الجاحظ ذلك الإنسان الموسوعي والفيلسوف صاحب المدرسة المعتزلية، لكن رغم كل مؤهلاته كبِّل بالقيود انتقامًا منه لأنه كان من أصحاب ابن الزيات، الذي كبّله مثقف آخر وهو القاضي أحمد بن أبي دواد، وكان على الجاحظ أن يتحمل تبعات رأيه أو لنقل مسايرته السابقة لذلك المثقف الذي كان ولي نعمته سابقًا، ومع دوران الأيام أصبح عدو ولي نعمته الأوّل، أي ابن الزيات وصاحب من رماه بالتنور أي أحمد بن أبي دواد، وقد دار بين الجاحظ وولي نعمته الجديد حوارٌ يجعل الإنسان يخجل من رواية ما جرى، وأن تكون هذه الحادثة في أوج النضوج الثقافي للأمة، ولكن عقلية الديكتاتور لا تنحصر بعصر، ولا يعني أن الديكتاتور المثقف غير مؤهل فكريًّا، بل ربما يكون موسوعيًّا ولكن يفصل بين المعرفة والخلق، أو لنقل يستغل المعرفة للتسلط والسيطرة، لا فتح باب الحرية والمعرفة، ويقال إنّ ابن المقفع كان من أسباب حرقه في التنور، حقد أقرانه من مثقفين عاصروه فأدى استعار نار الحقد عندهم إلى الوشاية به. وتابع هذا الأمر في الأندلس في بلنسية التي بكاها ابن إبَّال ذلك الأديب الذي أدّى حقد الأقران من المثقفين عليه إلى أن قتل حرقا وحُرِّقت كتبه معه.
فنحن إذن أمام ظاهرة لا تنحصر بزمان ولا بعرق، بل هي منظومة فكرية يقودها مثقفون ذوو رغبة في التسلط والتحكُّم وخلوٍ من المشاعر الإنسانية وإن كانت حياتهم تقوم على الكتابة عن الإنسانية وهمومها وطموحاتها.
لو تتبعنا الثقافات الغربية والشرقية لوجدنا أن كثيرين من الذين بدأوا ناقمين على السلطة الديكتاتورية وكتبوا كتبا في تمجيد العمل الإنساني والتركيز على إحياء المشترك الإنساني عندما أتيحت لهم فرصة الحكم كانوا أشد تنكيلا من كثير ممن نقدوهم من الحكام، فمن أولئك لينين الذي كتب كتبا عن أهمية توزيع الثروة ودعا إلى الثورة على القيصر، وبيّن في كتبه أنّ همه الإنسان وتنمية الحس الإنساني المشترك وتنمية الوطن بمشاركة الإنتاج وجعله مشاعا بين أفراد وأبناء الوطن الواحد، ونصرة العامل والفلاح، ولكن الرؤوس التي جعلوا منها بيادر تشهد أنهم سفاحون وفي قلوبهم حقد على كل من يخالفهم.
وفي عالمنا العربي برز عدد كبير من المثقفين الذين هيئت لهم منابر إعلامية وخلعت عليهم ألقاب في غير موضعها، لكن لو تمكن كثير منهم من قيادة مؤسسة ولو بحجم دكان صغير لفرضوا رؤاهم وخطهم السياسي على كل من يعمل معهم، بل زاد الطين بِلّة أنهم جعلوا هؤلاء يغردون لهم وكثير من المثقفين العاملين عند مثقف ديكتاتور تحوّل إلى أداة لتلميعه، وبهذا شُرعنت صفات على كثير منهم، لأنّ الشهادة لهذا المثقف لم تعد من سياسي أو من جهة حكومية وحسب، بل من مثقفين مشهورين وكتاب معروفين فواقع حال مؤسساتنا الثقافية اليوم، خاصة التي تحمل شعار الحرية الفكرية ما هي إلا مؤسسات ديكتاتورية يقودها في الغالب مثقف ديكتاتور شعاره: «لا أريكم إلا ما أرى» فلا رأي يخالف ولا خط سياسي يناطح، هو الوحيد الذي يحدد مسار النطح وأين توجه سهام النقد ولمن. ولا تستغرب من عقد حلقات ثقافية في المؤسسة تمجد بفكره الحر وأحيانا تجد التطبيل لهذا المثقف وليّ النعمة يفوق صرخة لميس الحديدي زغرتي يا بهية….
إننا في عالم عربي، الديكتاتورية فيه لا تقتصر على حاكم عسكري، بل إن فيه ديكتاتوريات ناعمة يمثلها أصحاب الأقلام والصفحات والمدونات تراهم لا يرون من أمامهم، ويشعرون أن من يعمل عندهم عبارة عن مشردين آووهم وأمنوا لهم رزقهم فالمثقف الديكتاتور يرى أنه هو المطعِم الكاسي لشلة من المشردين الموظفين الذين لجم أفواههم بالدرهم والدينار.
الثقافة عالم يلجأ إليه المرء ليتخلص من قيود الواقع، ولكن بعض المثقفين جعلوا العمل معهم مناقضًا لمفهــوم الثـــقافة التي تمثل في أسمى معانيها حرية الفكر وقبول الرأي الآخر، وانفتاحه على عالم المعرفة التي تنمِّي الحس الإنساني، وتكوِّن صلة روحية بين الإنسانية لا تقوم على الاستعلاء والتعالي، ولذلك يمكن أن نقول كلما وجدت مُدّعيًا للثقافة ويحمل في جيناته خلايا ديكتاتورية فلا تنسبه للثقافة، وإن كثر كلامه عن نفسه وثقافته، لأن الثقافة الحقيقية تلفظ الديكتاتورية ولا تقبلها.
ولا شك في أن كلمة مثقف ما زالت إلى أيامنا تحمل بين طياتها مهابة وتقديرا في قلوب الناس، فالمثقف يفوق حامل الشهادة، لأنَّ حامل الشهادة قد يكون محدودًا بميدان واحدٍ، أمّا المثقف فهو الممتلك للقدرة على التواصل مع الناس في ما يهمّهم في حياتهم المعيشية والفكرية. ويفوق من يخاطبه معرفةً أو يدعي ذلك. وقد استغل بعض الناس هذه المهابة لكلمة مثقف، وكان في داخله ديكتاتورٌ صغيرٌ، فسعى ليتمرد ويقتنص الفرصة ويربّي هذا المارد، أو يتركه تحت رماد ثم لا يلبث أن يظهر لهبُهُ الديكتاتوري الثقافي ليكوِّن مع الزمن شخصية المثقف الديكتاتور، فتراه لا يقبل الرأي الآخر مع أنّ تسويقه لنفسه يقوم على دعاية الاعتراف بالرأي والرأي الآخر في كتاباته وحواراته، ويتكلم عن الحرية ويكون كاتمًا على كلمات من يكونون تحت إمرته، فلا يترك لهم حيّزَ نقدٍ يخالفون به رأيه، وكأنه ما راق له من معنى المثقف إلا المعنى اللغوي القديم، وهو تثقيف الرمح أي بريه وتسويته، فظنَّ أن عليه بري الناس وتسويتهم وفق عقله ورأيه، لا وفق ما توحي به دلالة مثقف المعاصرة التي تحمل في طياتها معاني حرية الفكر وتقبُّل الآخر وهدوء الحوار.
لكن للأسف قد يجد بعض الناس في الثقافة منفذا لعالم الديكتاتورية بغلاف الحرية فتراه يكتب ويدوِّن وينقد، كي يظهر بمظهر المعارض المدافع عن قضية الإنسان، وما هو إلا متسلق على رقاب أولئك المساكين الذين يتابعونه ويصفقون له، ولا يمثلون له شيء بعد وصوله إلى مبتغاه. فالمثقف الديكتاتور كالناقد الذي لم يستطع كتابة الشعر، فنقد الشعراء وسبَّهم. وكذلك الديكتاتور المثقف هو ذلك الإنسان الذي لم يجد نافذة ليصبح رئيسًا وزعيما يتحكم برقاب الناس فجعل النقد لهم وسيلة للظهور والسعي إلى التحكم بالناس من بعد من نافذة نقدهم ومعارضتهم.
وهذه المسألة أي مسألة المثقف الديكتاتور ليست حديثة الظهور في عالمنا العربي، بل هي ضاربة في جذور التاريخ الثقافي العربي وصفحات التاريخ والأدب، دوّنت لنا هذه الظاهرة وعرضتها وكانت لمثقفين ممن علا كعبهم في العلم والثقافة، فابن الزيات المثقّف وصاحب الشعراء والكُتّاب والمنتديات الثقافية، تراه يفتخر بنفسه قائلًا: «ما رحمْتُ أحدًا قطّ» وذلك بعد تمكّنه ووصوله إلى منصب يتيح له التحكّم والسيطرة، بل يتمادى في إظهار ديكتاتوريته بقوله: «الرحمة خَوْرٌ في الطّبيعة» ووصل به الحال أن يرمي خصومه في تنور ويستلذ بآلامهم وطلبهم الرحمة منه.
وكانت تبعات الديكتاتورية الثقافية الزياتية على الجاحظ ذلك الإنسان الموسوعي والفيلسوف صاحب المدرسة المعتزلية، لكن رغم كل مؤهلاته كبِّل بالقيود انتقامًا منه لأنه كان من أصحاب ابن الزيات، الذي كبّله مثقف آخر وهو القاضي أحمد بن أبي دواد، وكان على الجاحظ أن يتحمل تبعات رأيه أو لنقل مسايرته السابقة لذلك المثقف الذي كان ولي نعمته سابقًا، ومع دوران الأيام أصبح عدو ولي نعمته الأوّل، أي ابن الزيات وصاحب من رماه بالتنور أي أحمد بن أبي دواد، وقد دار بين الجاحظ وولي نعمته الجديد حوارٌ يجعل الإنسان يخجل من رواية ما جرى، وأن تكون هذه الحادثة في أوج النضوج الثقافي للأمة، ولكن عقلية الديكتاتور لا تنحصر بعصر، ولا يعني أن الديكتاتور المثقف غير مؤهل فكريًّا، بل ربما يكون موسوعيًّا ولكن يفصل بين المعرفة والخلق، أو لنقل يستغل المعرفة للتسلط والسيطرة، لا فتح باب الحرية والمعرفة، ويقال إنّ ابن المقفع كان من أسباب حرقه في التنور، حقد أقرانه من مثقفين عاصروه فأدى استعار نار الحقد عندهم إلى الوشاية به. وتابع هذا الأمر في الأندلس في بلنسية التي بكاها ابن إبَّال ذلك الأديب الذي أدّى حقد الأقران من المثقفين عليه إلى أن قتل حرقا وحُرِّقت كتبه معه.
فنحن إذن أمام ظاهرة لا تنحصر بزمان ولا بعرق، بل هي منظومة فكرية يقودها مثقفون ذوو رغبة في التسلط والتحكُّم وخلوٍ من المشاعر الإنسانية وإن كانت حياتهم تقوم على الكتابة عن الإنسانية وهمومها وطموحاتها.
لو تتبعنا الثقافات الغربية والشرقية لوجدنا أن كثيرين من الذين بدأوا ناقمين على السلطة الديكتاتورية وكتبوا كتبا في تمجيد العمل الإنساني والتركيز على إحياء المشترك الإنساني عندما أتيحت لهم فرصة الحكم كانوا أشد تنكيلا من كثير ممن نقدوهم من الحكام، فمن أولئك لينين الذي كتب كتبا عن أهمية توزيع الثروة ودعا إلى الثورة على القيصر، وبيّن في كتبه أنّ همه الإنسان وتنمية الحس الإنساني المشترك وتنمية الوطن بمشاركة الإنتاج وجعله مشاعا بين أفراد وأبناء الوطن الواحد، ونصرة العامل والفلاح، ولكن الرؤوس التي جعلوا منها بيادر تشهد أنهم سفاحون وفي قلوبهم حقد على كل من يخالفهم.
وفي عالمنا العربي برز عدد كبير من المثقفين الذين هيئت لهم منابر إعلامية وخلعت عليهم ألقاب في غير موضعها، لكن لو تمكن كثير منهم من قيادة مؤسسة ولو بحجم دكان صغير لفرضوا رؤاهم وخطهم السياسي على كل من يعمل معهم، بل زاد الطين بِلّة أنهم جعلوا هؤلاء يغردون لهم وكثير من المثقفين العاملين عند مثقف ديكتاتور تحوّل إلى أداة لتلميعه، وبهذا شُرعنت صفات على كثير منهم، لأنّ الشهادة لهذا المثقف لم تعد من سياسي أو من جهة حكومية وحسب، بل من مثقفين مشهورين وكتاب معروفين فواقع حال مؤسساتنا الثقافية اليوم، خاصة التي تحمل شعار الحرية الفكرية ما هي إلا مؤسسات ديكتاتورية يقودها في الغالب مثقف ديكتاتور شعاره: «لا أريكم إلا ما أرى» فلا رأي يخالف ولا خط سياسي يناطح، هو الوحيد الذي يحدد مسار النطح وأين توجه سهام النقد ولمن. ولا تستغرب من عقد حلقات ثقافية في المؤسسة تمجد بفكره الحر وأحيانا تجد التطبيل لهذا المثقف وليّ النعمة يفوق صرخة لميس الحديدي زغرتي يا بهية….
إننا في عالم عربي، الديكتاتورية فيه لا تقتصر على حاكم عسكري، بل إن فيه ديكتاتوريات ناعمة يمثلها أصحاب الأقلام والصفحات والمدونات تراهم لا يرون من أمامهم، ويشعرون أن من يعمل عندهم عبارة عن مشردين آووهم وأمنوا لهم رزقهم فالمثقف الديكتاتور يرى أنه هو المطعِم الكاسي لشلة من المشردين الموظفين الذين لجم أفواههم بالدرهم والدينار.
الثقافة عالم يلجأ إليه المرء ليتخلص من قيود الواقع، ولكن بعض المثقفين جعلوا العمل معهم مناقضًا لمفهــوم الثـــقافة التي تمثل في أسمى معانيها حرية الفكر وقبول الرأي الآخر، وانفتاحه على عالم المعرفة التي تنمِّي الحس الإنساني، وتكوِّن صلة روحية بين الإنسانية لا تقوم على الاستعلاء والتعالي، ولذلك يمكن أن نقول كلما وجدت مُدّعيًا للثقافة ويحمل في جيناته خلايا ديكتاتورية فلا تنسبه للثقافة، وإن كثر كلامه عن نفسه وثقافته، لأن الثقافة الحقيقية تلفظ الديكتاتورية ولا تقبلها.
٭ أكاديمي سوري
محمد خالد الفجر
القدس العربي