يهدي الروائي المغربي مبارك ربيع روايته الجديدة “غرب المتوسط” إلى روح الروائي عبدالرحمن منيف صاحب رواية “شرق المتوسط”، مصدرة بمفتتح “أي نظرة هي؟ ماذا تقول؟ أي بوح صارخ مكتوم؟”.
تشكل الرواية، الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، تطلعا أوروبيا شمالا، وامتدادا إفريقيا جنوبا، فضاءات وأبعادا جغرافية بشرية، موغلة، تتحرك فيها بدوافع وغايات مختلفة، متعايشة حينا، متصارعة ومصارعة حينا آخر، تقبلا لمصير أو صنعا له، شخصيات من قبيل صفية الحسوني، بوتو نغورا، سامان، راييلي، مع أخريات وآخرين.
“غرب المتوسط” رواية تنقل القارئ إلى أجواء زمن ماضي المغرب القريب، يسلط فيها ومن خلالها مبارك، بأسلوب أدبي سلس يتميز بالواقعية وبناء سردي ولغوي واضح يخلو من كل أشكال التعقيد، الضوء على فترة زمنية سوداء في تاريخ المغرب المستقل.
يستهل ربيع مبارك عالم روايته على لسان الراوي، في حجرة الدراسة، بدرس طبائع الاستبداد للكواكبي، ضمن برنامج التعليم الثانوي، الدرس الأهم على الإطلاق، الذي أثار انتباه التلاميذ وتابعوه باهتمام زائد- نهاية السبعينات- بخلاف النصوص الأدبية الأخرى، إذ كان حقيقة مدخلا مواتيا ليشد أنفاس القارئ إلى النهاية.
تبدأ أحداث الرواية (الأم) من محطة الحافلات في “بن اجدية” بالدار البيضاء لينتقل القارئ مع الراوي الذي يستقل سيارة أجرة، ويشرع نافذة على الرواية (الجنين) من خلال استخدامه تقنية الرواية داخل الرواية أو الميتارواية، منكبا بين الركاب على قراءة الرواية المسودة قبل أن يسلمها لأخيه كي يحسم في أمرها.
وهكذا، في انحناءة واحدة، تفتح الذاكرة الرواية كصنبور للحكي الممتع، على حدث اعتقال الأستاذ “طالب” من القسم وهو يقدم درس “طبائع الاستبداد” لعبدالرحمن الكواكبي، ويستدرج في واضحة الثانوية، بمباركة الإدارة، إلى المخفر، ومن ثمة تبدأ معاناة البطل في الزنزانة التي يمكن أن تكون هي بطلة الرواية إلى أن يغادر التكسي، ويفتح حوارا مع جلاده الذي لم يكن إلا سائق “الطاكسي”، كما أومأ بذلك في معرض حديثه عن السائق الذي تدلى بطنه على حزامه في محطة بنجدية.
ترد في الرواية، عن طريق فيض من الاسترجاع، شخصيات وأحداث ووقائع تاريخية لا ترميز فيها ولا مجاز، ومعلومات موثقة قدمت بمهارة سردية فائقة، إذ تحفل بالتفاصيل والجزئيات الدقيقة التي لا مناص من سردها، معتمدة الأحاسيس الذاتية لتصوير واقع مرير عاشت فصوله فئات عريضة من متنوري هذا المغرب.
وكما أن رواية “شرق المتوسط” لعبدالرحمن منيف تعتبر رواية شهادة كذلك “غرب المتوسط”، فهي رواية شهادة على عصر الظلم والطغيان، واحتقار الإنسان لأخيه الإنسان في وقت أمسى فيه الإنسان قطيعا يساق للمشانق بالجملة في واضحة السياسة الرسمية، وبمباركة وتواطؤ الإخوة الرفاق الأعداء.
والجميل في هذه الرواية أنها لم تعتمد ثيمة الضرب والتنكيل والتعذيب بشتى أنواعه فقط، أي التعذيب من أجل التعذيب، ونقل آلام الشخصية الذاتية للبطل فحسب، بل الملفت للنظر والعلامة الفارقة، وما يميزها عن “شرق المتوسط”، على نحو خاص، هو الدخول في حوار مع الجلادين، سواء داخل السجن أو بعد الانعتاق، ليترك الباب مفتوحا حول تأويل وحدود مسؤولية كل طرف في كل ما حدث ويحدث.
شخصيات الرواية، وعلى رأسها طالب، ثم الحار وعمي صالح والأستاذ المنتحر كلها تعض بالنواجذ على الثبات على المواقف، رغم محاولات “المخزن” الحاكم تركيعها.
وتخللت الرواية شلالات السرد باللهجة العامية المغربية التي يمكن ان تكون لغة دارجة مخدومة ما بين الفصحى والدارجة حيث إسناد الملفوظ إلى فاعله الاجتماعي، وهي وسيلة لا مناص منها عند الكاتب حينما يتحدث بألسنة الفلاحين والأم وغيرهم من شخصيات المحطة وراكبي التاكسي، أو في أثناء سرد نكتة أو الحديث عن موقف من مواقف رجال الدرك، إضافة إلى التقابل الساخر اللاذع والجميل في المعنى والمبنى.
وفي حالات التوتر النفسي القصوى لبطل الرواية طالب يلجأ الكاتب، عن وعي أو لاوعي، إلى تناوب الراوي على السرد، تاركا للبطل مساحة للتنفس، وقد أوكل هذا الأمر، أكثر من مرة، في عدة مواقع، للأخ الذي يتولى أمر السرد. وهناك فجوات في تسلسل أحداث الرواية، بل فرص كثيرة أتاحها الراوي لبطله طالب ليغوص بذاكرته في فضاءات وأزمنة وفترات جميلة مستقطعة من زمن ولى، كفضاء القسم، فضاء الكلية، فضاء مدينته الأولى، فضاء الأحاجي والمحكيات الساحرة التي ظلت معتقة في ذاكرة الوالدة وفضاء الزنزانة.
ولعل قارئ الرواية يشعر، لا محالة، بمدى الحيز الذي استأثرت به ثيمة الاعتقال الأساسية، وتقنية الاسترجاع والحفر عميقا في منابع الحكي والمخزون الداخلي، وكذلك الفضاءات والأحداث التي اتسمت بقوة الحضور، إن على مستوى السرد البراني المفتوح أو السرد الجواني المنولوجي الداخلي، وتوزعت بين مجالات مختلفة، كأحداث حصلت لشخصيات متعددة في السياق العام للرواية كالخال والسائق، واللحظات القاسية المنفلتة من زمن قاس.
وعلى مستوى آخر، لا بد من الإشارة إلى البيبليوغرافيا الثرية التي تزخر بها أحداث الرواية، حيث وردت فيها أسماء وكتاب وروايات تعدت الثمانين كاتبا ورواية، تدخل في إطار ما يسمى بذاكرة الرواية.