قبل خمسة أشهر، صار اللاعب السابق جورج ويا رئيساً لليبيريا، وتذكرنا أن الجزائر، أيضاً، حكمها لاعب كرة سابق؛ هو الرئيس الراحل أحمد بن بلة (1916-2012). جورج ويا وبن بلة حملا قميص الفريق نفسه: أولمبيك مارسيليا. لكن الفرق بينهما أن الأول كان يلعب ويسجل على خصومه، ويُفرح أبناء بلده، بينما الثاني لم يلعب ـ طوال فترة احترافه ـ سوى مباراة واحدة، ولم يسجل أكثر من هدفين؛ الأول في مرمى أنتيب، والثاني في مرمى شعبه، حيث دفعه إلى الخيارات السياسية الخاطئة.
في السنوات الثلاث التي ترأس فيها الجزائر، مارس بن بلة السياسة على طريقة لاعبي الكرة، أدخل شعباً بأكمله إلى ملعب وأغلق الباب. ووجدنا أنفسنا نتفرج على سياسيين، في مواجهة مُعارضين أو رجال دين، يلعبون، ولا حول لنا سوى التصفيق أو التصفير. لا نملك الحق في تغيير لاعبين ولا خطة اللعب، فقط نلزم أمكنتنا، ونشاهد مباراة مملة، لا تُريد أن تنتهي.
في الجزائر، كرة القدم بدأت كقضية سياسية. فيومان قبل بدء كأس العالم 1958، فرّ عشرة لاعبين جزائريين، من فرنسا إلى تونس، لتشكيل ما سيُطلق عليه: «فريق جبهة التحرير الوطني». من بينهم اثنان من أهم اللاعبين، آنذاك، كانا في قائمة المنتخب الفرنسي، المعنية بكأس العالم: مصطفى زيتوني ورشيد مخلوفي. الهدف من تشكيل فريق كرة كان الترويج لحق الجزائر في الاستقلال، وكسب اعتراف بها من دول غربية. فالكرة هي القوة الناعمة في كسب المعارك الخفية. فريق جبهة التحرير قام بواجبه، سافر إلى كثير من الدول، خصوصاً أوروبا الشرقية، لعب مباريات ودية (في بلغاريا، رومانيا، المجر، يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا)، وربح تعاطف الآخرين مع قضيته. بعد الاستقلال (1962)، عاد لاعبو «فريق الجبهة» إلى فرنسا، والتحقواً، من جديد، بأنديتهم السابقة، وفاز رشيد مخلوفي، مثلاً، بثلاث بطولات فرنسا، مع ناديه سانت إيتيان. في تلك اللحظة، بعدما أدت الكرة واجبها السياسي، كان يمكن التخلي عنها قليلاً والانصراف لأشياء أخرى أهم، لكن النظام أدرك أهميتها في القبض على أعناق الجماهير، واحتجازهم في مساحة واحدة، واختار توظيفها، في تمرير ما يعجز على تمريره بالطرق التقليدية. فحين أراد الكولونيل هواري بومدين الانقلاب على بن بلة، اختار لمهمته موعداً ذا رمزية: يوم مباراة ودية بين الجزائر والبرازيل (1965). ترك بن بلة مشغولاً بمشاهدة بيليه وغارينشا، في وهران، وجلس على كرسي الرئاسة. هكذا، صارت الكرة في الجزائر هي الدين وهي الحزب الواحد.
من الغريب أن نُلاحظ أن النخب المثقفة، في البلد، لا تهتم بالكرة، باعتبارها نقيضاً للمعرفة وللأكاديمية، بل هناك من يستخف بمتابعي كرة القدم، معتقداً أن تلك الرياضة مجال يتسع فقط، للشعبوية، وللطبقات المسحوقة والمغلوبة على أمرها. مع أن الكرة وجماهيرها هي أكثر «المختبرات» التي يمكن أن ندرس فيها الظواهر الاجتماعية، وأرضية تطبق فيها نظريات، وتتسع أيضاً لترويج الثقافة. المثقف في الجزائر يُعادي ملاعب الكرة، ومرتاديها، ظناً منه أنهم سرقوا منه جمهوره، أو ألهوه عن متابعته. بالتالي فهو يعزل نفسه عن محيطه، بينما تواصل كرة القدم توسعها، والتفافها، باكتساب مُريدين جدد لها.
منذ البداية، كانت الخلطة واضحة؛ استخدام كرة القدم لتنشيط هرمونات القومية، وتعميق الفوارق الهوياتية. وبات الجزائري لا يُشعر بانتماء لبلده سوى في حال فوز منتخبه. المهم الفوز، ولا مشكلة إن كان فوزاً ـ عقيماً ـ ضد فريق ضعيف من أدغال إفريقيا، بل إن صورة العلم الجزائري تكاد لا ترتبط سوى بمباريات كرة القدم. لا يظهر العلم، في العلن، وفي الساحات العامة، سوى تزامناً مع مباريات الكرة. وهذا التعصب الهوياتي لا يقتصر فقط على مباريات المنتخب، بل يتعداه إلى المباريات المحلية ما بين الأندية، حيث أعادت الكرة ذلك الصراع الدفين بين ابن القرية وابن المدينة، وكل واحد منهما يحسب خساراته ومكاسبه من انتصارات وهزائم فريقه. وتشكلت أقطاب ثنائية، في كل واحدة من ولايات البلد. في وهران، سنجد الناس منقسمين بين «المولودية و«الجمعية»، في الجزائر العاصمة بين «الاتحاد» و«المولودية»، في قسنطينة، بين «الشباب» و«الموك»، إلخ. كلما ازداد الجزائري تعلقاً بالكرة زاد كرهه لمواطن له. وقد تصل الأمور إلى خصومات أو نزال، بالأيدي أو بالأسلحة البيضاء. يحدث هذا، بينما، كما ذكرنا، الشعب كله محتجز في ملعب كبير، يُشاهد، في صمت، المباراة الأهم، بين أصحاب السلطة، ويخوض مبارياته الهامشية، على المدرجات.
لقد تحولت ملاعب الكرة إلى معابد، يحتشد فيها الجزائريون، كل مرة، ليس للفرجة، كما هو معمول به في أمكنة أخرى، والاستمتاع بالمشاهدة، بل لتجديد الولاء، والإسراف في المديح وتبجيل اللاعبين. كل لاعب هو «إله صغير»، له شريعته على العشب الأخضر، ومُحبون، يطوفون حوله، ويرتلون اسمه، في كل حين. وشعبية اللاعب لا تتوقف على مهاراته، ولا على اسم النادي، الذي ينتمي إليه، بل تتوقف على عدد متابعيه، الذين يتزايدون أو يتناقصون، بحسب سلوكياته أو استفزازاته، أو شكله أو قصة شعره. لقد حولتنا الكرة إلى مجتمع متعدد الآلهة، لا حرج في الانتقال من إله إلى آخر، شريطة أن لا نخرج من المعبد/ الملعب. وفهم اللاعبون هذا الأمر، وراحوا يغازلون الجماهير بممارسات دخيلة، كالسجود بعد تسجيل هدف، أو رفع الأيدي قبل كل مباراة. هذان السلوكان انتشرا، في السنوات الأخيرة، فالدين هو دينامو القلوب، ولا مشكلة في تجاهل النشيد الوطني، أو عدم حفظ كلماته، الأهم هو كسب المودة الدينية، واستمالة مشجعين، متحمسين، يفكرون في الأهداف، التي ستُسجل، وليس في المصائر المأساوية والجماعية التي تنتظرهم.
ملعب الكرة هو المكان الأمثل، الذي يُمارس فيه الجزائري ذكوريته، ويتمادى فيه في التعبير عن «رجولة هشة»، فرغم تحرر المرأة، وما كسبته من حقوق، فقد عجزت، لحد الساعة، على التجرؤ ودخول معابد الكرة. سيُنظر إليها نظرة دونية، وقد يُعتبرها أحدهم فاسقة أو ساقطة، فالكرة خُلقت ـ في الجزائر ـ ليُشاهدها الرجال، بينما النساء يتوارين، ويغضضن البصر عن سيقان لاعبين، تنزف عرقاً، وهم يركضون أو يسجدون أو يبصقون أو يسبون مشجعين، لا يصطفون في صفهم.
هذا الشهر، والذي سيليه، سيدخل «عباد الكرة»، في الجزائر، مرحلة ما بين الشوطين، يستريحون من مشاهدة مباراة السلطة، التي يلعب فيها الرئيس دور المُدرب والحكم، ويلتفتون إلى ما يحدث في روسيا. سيرتاحون قليلاً وينصرفون عن المعارك، التي تدور باسم الكرة، ويتفرجون، من موقع المُحايد، على جيرانهم، وأشقائهم، الذين عرفوا كيف يسيرون «معابدهم» ووجدوا طريقاً إلى المحفل العالمي، في بلاد دوستويفسكي. سيتوقفون عن حمل سيوف ضد بعضهم بعضاً، ويكتشفون حلاوة الكرة، التي لا نبلغها سوى من المشاهدة المُحايدة، مع ذلك فلن يستطيعوا الخروج من الملعب، المغلقة أبوابه، الذي أدخلهم إليه أحمد بن بلة، ورمى لهم فتاتاً، يتنازعونه في ما بينهم، بينما يقتسم اللاعبون الكعكة الأهم. سيلزمون أمكنتهم، كالعادة منتظرين نهاية كأس العالم، ليواصلوا مشاهدة المباراة الأكبر، التي فرضها عليهم النظام، منذ أكثر من خمسين سنة.
في السنوات الثلاث التي ترأس فيها الجزائر، مارس بن بلة السياسة على طريقة لاعبي الكرة، أدخل شعباً بأكمله إلى ملعب وأغلق الباب. ووجدنا أنفسنا نتفرج على سياسيين، في مواجهة مُعارضين أو رجال دين، يلعبون، ولا حول لنا سوى التصفيق أو التصفير. لا نملك الحق في تغيير لاعبين ولا خطة اللعب، فقط نلزم أمكنتنا، ونشاهد مباراة مملة، لا تُريد أن تنتهي.
في الجزائر، كرة القدم بدأت كقضية سياسية. فيومان قبل بدء كأس العالم 1958، فرّ عشرة لاعبين جزائريين، من فرنسا إلى تونس، لتشكيل ما سيُطلق عليه: «فريق جبهة التحرير الوطني». من بينهم اثنان من أهم اللاعبين، آنذاك، كانا في قائمة المنتخب الفرنسي، المعنية بكأس العالم: مصطفى زيتوني ورشيد مخلوفي. الهدف من تشكيل فريق كرة كان الترويج لحق الجزائر في الاستقلال، وكسب اعتراف بها من دول غربية. فالكرة هي القوة الناعمة في كسب المعارك الخفية. فريق جبهة التحرير قام بواجبه، سافر إلى كثير من الدول، خصوصاً أوروبا الشرقية، لعب مباريات ودية (في بلغاريا، رومانيا، المجر، يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا)، وربح تعاطف الآخرين مع قضيته. بعد الاستقلال (1962)، عاد لاعبو «فريق الجبهة» إلى فرنسا، والتحقواً، من جديد، بأنديتهم السابقة، وفاز رشيد مخلوفي، مثلاً، بثلاث بطولات فرنسا، مع ناديه سانت إيتيان. في تلك اللحظة، بعدما أدت الكرة واجبها السياسي، كان يمكن التخلي عنها قليلاً والانصراف لأشياء أخرى أهم، لكن النظام أدرك أهميتها في القبض على أعناق الجماهير، واحتجازهم في مساحة واحدة، واختار توظيفها، في تمرير ما يعجز على تمريره بالطرق التقليدية. فحين أراد الكولونيل هواري بومدين الانقلاب على بن بلة، اختار لمهمته موعداً ذا رمزية: يوم مباراة ودية بين الجزائر والبرازيل (1965). ترك بن بلة مشغولاً بمشاهدة بيليه وغارينشا، في وهران، وجلس على كرسي الرئاسة. هكذا، صارت الكرة في الجزائر هي الدين وهي الحزب الواحد.
من الغريب أن نُلاحظ أن النخب المثقفة، في البلد، لا تهتم بالكرة، باعتبارها نقيضاً للمعرفة وللأكاديمية، بل هناك من يستخف بمتابعي كرة القدم، معتقداً أن تلك الرياضة مجال يتسع فقط، للشعبوية، وللطبقات المسحوقة والمغلوبة على أمرها. مع أن الكرة وجماهيرها هي أكثر «المختبرات» التي يمكن أن ندرس فيها الظواهر الاجتماعية، وأرضية تطبق فيها نظريات، وتتسع أيضاً لترويج الثقافة. المثقف في الجزائر يُعادي ملاعب الكرة، ومرتاديها، ظناً منه أنهم سرقوا منه جمهوره، أو ألهوه عن متابعته. بالتالي فهو يعزل نفسه عن محيطه، بينما تواصل كرة القدم توسعها، والتفافها، باكتساب مُريدين جدد لها.
منذ البداية، كانت الخلطة واضحة؛ استخدام كرة القدم لتنشيط هرمونات القومية، وتعميق الفوارق الهوياتية. وبات الجزائري لا يُشعر بانتماء لبلده سوى في حال فوز منتخبه. المهم الفوز، ولا مشكلة إن كان فوزاً ـ عقيماً ـ ضد فريق ضعيف من أدغال إفريقيا، بل إن صورة العلم الجزائري تكاد لا ترتبط سوى بمباريات كرة القدم. لا يظهر العلم، في العلن، وفي الساحات العامة، سوى تزامناً مع مباريات الكرة. وهذا التعصب الهوياتي لا يقتصر فقط على مباريات المنتخب، بل يتعداه إلى المباريات المحلية ما بين الأندية، حيث أعادت الكرة ذلك الصراع الدفين بين ابن القرية وابن المدينة، وكل واحد منهما يحسب خساراته ومكاسبه من انتصارات وهزائم فريقه. وتشكلت أقطاب ثنائية، في كل واحدة من ولايات البلد. في وهران، سنجد الناس منقسمين بين «المولودية و«الجمعية»، في الجزائر العاصمة بين «الاتحاد» و«المولودية»، في قسنطينة، بين «الشباب» و«الموك»، إلخ. كلما ازداد الجزائري تعلقاً بالكرة زاد كرهه لمواطن له. وقد تصل الأمور إلى خصومات أو نزال، بالأيدي أو بالأسلحة البيضاء. يحدث هذا، بينما، كما ذكرنا، الشعب كله محتجز في ملعب كبير، يُشاهد، في صمت، المباراة الأهم، بين أصحاب السلطة، ويخوض مبارياته الهامشية، على المدرجات.
لقد تحولت ملاعب الكرة إلى معابد، يحتشد فيها الجزائريون، كل مرة، ليس للفرجة، كما هو معمول به في أمكنة أخرى، والاستمتاع بالمشاهدة، بل لتجديد الولاء، والإسراف في المديح وتبجيل اللاعبين. كل لاعب هو «إله صغير»، له شريعته على العشب الأخضر، ومُحبون، يطوفون حوله، ويرتلون اسمه، في كل حين. وشعبية اللاعب لا تتوقف على مهاراته، ولا على اسم النادي، الذي ينتمي إليه، بل تتوقف على عدد متابعيه، الذين يتزايدون أو يتناقصون، بحسب سلوكياته أو استفزازاته، أو شكله أو قصة شعره. لقد حولتنا الكرة إلى مجتمع متعدد الآلهة، لا حرج في الانتقال من إله إلى آخر، شريطة أن لا نخرج من المعبد/ الملعب. وفهم اللاعبون هذا الأمر، وراحوا يغازلون الجماهير بممارسات دخيلة، كالسجود بعد تسجيل هدف، أو رفع الأيدي قبل كل مباراة. هذان السلوكان انتشرا، في السنوات الأخيرة، فالدين هو دينامو القلوب، ولا مشكلة في تجاهل النشيد الوطني، أو عدم حفظ كلماته، الأهم هو كسب المودة الدينية، واستمالة مشجعين، متحمسين، يفكرون في الأهداف، التي ستُسجل، وليس في المصائر المأساوية والجماعية التي تنتظرهم.
ملعب الكرة هو المكان الأمثل، الذي يُمارس فيه الجزائري ذكوريته، ويتمادى فيه في التعبير عن «رجولة هشة»، فرغم تحرر المرأة، وما كسبته من حقوق، فقد عجزت، لحد الساعة، على التجرؤ ودخول معابد الكرة. سيُنظر إليها نظرة دونية، وقد يُعتبرها أحدهم فاسقة أو ساقطة، فالكرة خُلقت ـ في الجزائر ـ ليُشاهدها الرجال، بينما النساء يتوارين، ويغضضن البصر عن سيقان لاعبين، تنزف عرقاً، وهم يركضون أو يسجدون أو يبصقون أو يسبون مشجعين، لا يصطفون في صفهم.
هذا الشهر، والذي سيليه، سيدخل «عباد الكرة»، في الجزائر، مرحلة ما بين الشوطين، يستريحون من مشاهدة مباراة السلطة، التي يلعب فيها الرئيس دور المُدرب والحكم، ويلتفتون إلى ما يحدث في روسيا. سيرتاحون قليلاً وينصرفون عن المعارك، التي تدور باسم الكرة، ويتفرجون، من موقع المُحايد، على جيرانهم، وأشقائهم، الذين عرفوا كيف يسيرون «معابدهم» ووجدوا طريقاً إلى المحفل العالمي، في بلاد دوستويفسكي. سيتوقفون عن حمل سيوف ضد بعضهم بعضاً، ويكتشفون حلاوة الكرة، التي لا نبلغها سوى من المشاهدة المُحايدة، مع ذلك فلن يستطيعوا الخروج من الملعب، المغلقة أبوابه، الذي أدخلهم إليه أحمد بن بلة، ورمى لهم فتاتاً، يتنازعونه في ما بينهم، بينما يقتسم اللاعبون الكعكة الأهم. سيلزمون أمكنتهم، كالعادة منتظرين نهاية كأس العالم، ليواصلوا مشاهدة المباراة الأكبر، التي فرضها عليهم النظام، منذ أكثر من خمسين سنة.
٭ كاتب من الجزائر
عن القدس العربي