كثير من اللبس أحاط بمفهوم العلمنة على مر العصور، ربما بسبب حاجة الجميع إلى توظيفها في ساحة الصراع السياسي. ولعل أبرز مظاهر هذا اللبس هو اعتبار العلمنة ضد الدين، بل إن ظهورها جاء أصلًا لمحاربة الدين، ومن هنا تم اعتبارها مرادفة للإلحاد والكفر، وهذا ما نجده يروج بقوة في الخطابات السلفية المتطرفة، سواء كانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية. كذلك هناك ظروف تحتم اليوم استئناف النظر وإعادة النظر في هذا المفهوم واستعمالاته المتعددة والمتناقضة خاصة في الساحة الثقافية والسياسية العربية.
لتجاوز تلك التصورات الملتبسة والغامضة حول المفهوم، لا بد من استحضار المعرفة التاريخية والنقدية، التي أدت إلى بلورة هذا المفهوم في سياق الفلسفة السياسية الغربية، أي معرفة الظروف الفكرية والسياسية التي أدت إلى نشأة العلمنة، باعتبارها إحدى الركائز الأساسية للفلسفة السياسية الحديثة، وكانت الإرهاصات الأولى قد ظهرت في كتابات ماكيافيلي وهوبز وجون لوك وسبينوزا، إلى أن توضحت معالمها النظرية في فلسفة الأنوار، مرتكزة بصفة خاصة على قاعدة الفكر الليبرالي ومبادئه الأساسية، خاصة التسليم بأولوية الفرد في الوجود وكذلك إعطاء القيمة المطلقة للحرية والاعتقاد بالقدرات اللانهائية للعقل الإنساني.
يقتضي البحث في مفهوم العلمنة، فحص المسار التاريخي والفكري لهذا المفهوم، بقصد التعرف على الأرضية التي تشكل فيها والمقصود هنا هو تاريخ المجتمعات الغربية. تجربة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، التي كان من نتائجها إعادة قراءة النصوص الدينية قراءة جديدة، وتأويلها بعيدًا عن سلطة الكنيسة التي كانت تلعب دور الوساطة والكهنوتية في فهم الناس لتلك النصوص. اعتبار الإيمان مسألة فردية وشأنًا شخصيًا وهذا عنصر أساسي في التفكير الدنيوي. ظهور الدولة باعتبارها كيانًا ذا سيادة مطلقة وجهازًا يقوم بحماية المجتمع ويعبر عن إرادته، وهذا ما أدى إلى نزع الشرعية الدينية عن الكنيسة التي كانت تجمع كل دواليب السلطة في يدها. ظهور الليبرالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبداية انفصال المجتمع المدني عن الدولة باعتباره مجالًا لتجسيد الحريات الفردية والجماعية، الشيء الذي نتج عنه ما أصبح يعرف بالأنظمة الديمقراطية في أوروبا.
كل هذه العوامل، وأخرى غيرها، ساهمت في وضع الدين باعتباره مسألة خاصة، مع إحلال القوانين الوضعية محل الشرائع الدينية في تسيير الشأن العمومي. ولعل أبرز مثال على تطور العلمنة في المجتمعات الأوروبية هو التجربة الفرنسية التي جسدها قانون 1905 الشهير، الذي يعتبر أهم تشريع سياسي عرفه الغرب ينظم العلاقة بين الدين والدولة، انطلاقًا من التفريق بينهما وضمان حرية المعتقد وحياد الدولة تجاه الأديان.
فالمواطن حر في اعتقاد ما يراه منيرًا لحياته ما دام لا يتعارض مع النظام العام. كما على الدولة ألا تلزم أحدًا بأي معتقد كيفما كان، ولا تعترف بدين دون آخر، بل التعامل مع الجميع على أساس المساواة، بدون التمييز بين الناس بسبب عقائدهم في الوظائف العامة، ولا تشير إلى ذلك في ملفاتهم ووثاقهم الشخصية أو هوياتهم، بالإضافة إلى حياد المدرسة العمومية وعدم انتمائها إلى أي دين معين، أو إبراز شعاراته أو رموزه داخل فضاءاتها.
من هذا المنطلق يمكن القول بأن العلمنة هي نزع القداسة عن الممارسة السياسية، لأن المجال السياسي هو مجال للحوار والنقاش الحر والصراع العقلاني بعيدًا عن كل المحرمات وعن كل سلطة تتعالى على العقل الحر النقدي. وفي هذا الإطار فإن العقل الأصولي يحاول دائمًا ربط العلمنة باللاتدين والإلحاد، في حين أنها دعوة إلى الحياد السياسي ومجالها هو السياسة، وليس الإيمان أو الدين.
من عوامل الغموض المحيط بالمفهوم هو تناوله بعيدًا عن مجموعة من المفاهيم التي تشكل شبكة متكاملة، تعكس ملامح جوانب أساسية من الصراع التاريخي والفكري في أوروبا ويصعب تناول أحدها دون الآخر، مثل مفاهيم العقلانية والفردية والمواطن والتعاقد الاجتماعي والتسامح والحرية والتقدم.. فالعلمنة تنتمي إلى منظومة الحداثة، حيث يصعب الفصل بين مكوناتها التي تتداخل في ما بينها بصورة جدلية.
ترجع مناسبة استعادة النقاش حول موضوع العلمنة في هذا الركن، إلى الاحتفاء بصدور مصنف في هذا الباب بعنوان: «الديني والدنيوي، نقد الوساطة والكهنة» منتدى المعارف للنشر والتوزيع في بيروت (2018 ) للكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز. ويعتبر هذا المصنف استمرارا للكتابات التي راكمها عبد الإله بلقزيز حول موضوع: الديني والسياسي في التاريخ العربي الإسلامي القديم والمعاصر. ونخص بالذكر: «الإسلام والسياسة» (2001 )، «الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر»(2002 )، «النبوة والسياسة: تكوين المجال السياسي الإسلامي» (2005 )، «الفتنة والانقسام: تكوين المجال السياسي الإسلامي» (2012 )، «الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي» (2015).
غير أن عنصر الجدة في هذا المصنف يتحدد في كونه مدخلا لمشروع تحليلي نقدي أكثر شمولية للتراث الإسلامي، أطلق عليه بلقزيز اسم: الإسلاميات النقدية والذي اختار أن يستأنفه وقوفا عند مسألة الديني والدنيوي. وهي حلقة رئيسة يقول عنها «إنها تكاد أن تختصر مسألة الديني والسياسي وأن تشملها، في الوقت عينه، أو قل إنها المدخل الأعرض إلى التفكير فيها، بما هي لحظة إشكالية نمسئل فيها السياسي حسبانه فضاء رئيسا من فضاءات الدنيوي (الذي تصله بالديني صلات متعددة). ومعنى ذلك أننا آثرنا أن نعيد تصويب التفكير في مسألة العلاقة بين الدين والسياسة (السلطة، الدولة، الحركات السياسية) والدين بالنظر إليها، في تمفصلاتها مع علاقة أشمل وهي علاقة الدنيا بالدين والدين بالدنيا، وقد أخذنا عينة لها في الكتاب وهي ظاهرة الكهنتة بوصفها ظاهرة يتجسد فيها في آن، توسل الدنيوي للدين وتنزل جسم من ذلك الدنيوي منزلة الجسم الديني. واقحام الديني في لعبة الدنيوي (وهما معا وجهان للعملة عينها). ولكن معنى ذلك أيضا، أن فضاءات وميادين أخرى غير السياسة تنتظر البحث والدراسة والتجلية العلمية في نطاق الدنيوي (الاجتماعي، الثقافي، النفسي، الأنثروبولوجي) الأمر الذي تحتاج معه إلى برنامج علمي متكامل ومتعدد التخصصات يشارك فيه باحثون من ميادين علمية متعددة، لا يملك الباحث الواحد أن يلم بها، وبمناهجها جميعها.» (عبد الإله بلقزيز، الديني والدنيوي، نقد الوساطة والكهنتة).
تلتقي مجمل مضامين هذا المصنف في حقلين رئيسين:
• العودة إلى الزمان العربي ماضيا وحاضرا: وذلك من أجل توضيح عوارض الاضطراب والإعضال البنيوي، التي تنخر الذات العربية الإسلامية، الناتج عن المواريث التاريخية، المنبجسة من امتداد جسور الماضي والحاضر، ومن ثمة التشديد والإلحاح على عامل اختلاف الشروط التاريخية، وهاجس احترام التاريخانية.
•المقارنة بين تجربة الإسلام التاريخية وتجربة الأديان التوحيدية الأخرى: بيد أنه لا سبيل إلى معرفة تجربة الإسلام التاريخية (دينا، تراثا، حضارة) إلا بمقارنته بتجارب الأديان التوحيدية الأخرى. وذلك بسلوك مسلك علم الأديان المقارن، بعيدا عن محاولات كثير من الدارسين الغربيين ممن درسوا التاريخ الديني للإسلام من منظور اتصاله بالتقليد الإبراهيمي التوحيدي، فأكثر هؤلاء حسب عبد الإله بلقزيز أهدر أصالة الإسلام ونصه الديني حين قرأه بمعيار الأمانة، أو عدم الأمانة للمصدر اليهودي والمسيحي وأخرجه من دائرة شروطه الخاصة.
وقد اعتمد بلقزيز في استنطاقه لهذين الحقلين الشائكين، مقاربة تضم خليطا منهجيا فرضه تعدد وتشعب أبعاد الظاهرة المدروسة، إذ نجده تارة يسلك مسلك التناول النظري الفلسفي ،وتارة أخرى يسلك مسلك الدرس التاريخي للظاهرة والتحليل الاجتماعي السياسي. ساعيا من وراء ذلك إلى تحصيل ما اسماه الوضوح النظري. يقول في هذا الصدد: «لست أخفي أن أكثر ما يعنيني، وأنا أبحث المسألة، (هو) أن أستجليها نظريا أكثر من أن أنصرف إلى درسها متوسلا فقط، وحصرا، أدوات علم الاجتماع وعلم السياسة. وما ذلك لأنني انتصرت لتخصصي الأكاديمي كمشتغل بالفكر الفلسفي، ولكن لاعتقادي المكين بأن أكثر مما ينقصنا، في الفكر العربي، في دراسة الظاهرة الدينية، وغيرها من الظواهر الأخرى، هو الوضوح النظري. فثمة كمية واضحة من الغموض والالتباس في النظر إلى المسائل المختلفة، تهيئ الناس إلى ركوب الاستسهال وطرق العويص المتعصي وتدليل استعصائه بكلام إنشائي مزدحم بالأحكام القيمية والقطيعات واليقينيات، بدون تبين فكري أو بناء نظري أو مسؤولية في استخدام المفاهيم، وهو ما يقود بالتالي، إلى إنتاج لغو يزيد ركامه الغث على لغو سابق! وما هذا بمعرفة ولكن شبه لمن يخوض فيها ـ من غير أصول وعدة اشتغال- إنها كذلك». (عبد الإله بلقزيز، الديني والدنيوي، نقد الوساطة والكهنتة)
لتجاوز تلك التصورات الملتبسة والغامضة حول المفهوم، لا بد من استحضار المعرفة التاريخية والنقدية، التي أدت إلى بلورة هذا المفهوم في سياق الفلسفة السياسية الغربية، أي معرفة الظروف الفكرية والسياسية التي أدت إلى نشأة العلمنة، باعتبارها إحدى الركائز الأساسية للفلسفة السياسية الحديثة، وكانت الإرهاصات الأولى قد ظهرت في كتابات ماكيافيلي وهوبز وجون لوك وسبينوزا، إلى أن توضحت معالمها النظرية في فلسفة الأنوار، مرتكزة بصفة خاصة على قاعدة الفكر الليبرالي ومبادئه الأساسية، خاصة التسليم بأولوية الفرد في الوجود وكذلك إعطاء القيمة المطلقة للحرية والاعتقاد بالقدرات اللانهائية للعقل الإنساني.
يقتضي البحث في مفهوم العلمنة، فحص المسار التاريخي والفكري لهذا المفهوم، بقصد التعرف على الأرضية التي تشكل فيها والمقصود هنا هو تاريخ المجتمعات الغربية. تجربة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، التي كان من نتائجها إعادة قراءة النصوص الدينية قراءة جديدة، وتأويلها بعيدًا عن سلطة الكنيسة التي كانت تلعب دور الوساطة والكهنوتية في فهم الناس لتلك النصوص. اعتبار الإيمان مسألة فردية وشأنًا شخصيًا وهذا عنصر أساسي في التفكير الدنيوي. ظهور الدولة باعتبارها كيانًا ذا سيادة مطلقة وجهازًا يقوم بحماية المجتمع ويعبر عن إرادته، وهذا ما أدى إلى نزع الشرعية الدينية عن الكنيسة التي كانت تجمع كل دواليب السلطة في يدها. ظهور الليبرالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبداية انفصال المجتمع المدني عن الدولة باعتباره مجالًا لتجسيد الحريات الفردية والجماعية، الشيء الذي نتج عنه ما أصبح يعرف بالأنظمة الديمقراطية في أوروبا.
كل هذه العوامل، وأخرى غيرها، ساهمت في وضع الدين باعتباره مسألة خاصة، مع إحلال القوانين الوضعية محل الشرائع الدينية في تسيير الشأن العمومي. ولعل أبرز مثال على تطور العلمنة في المجتمعات الأوروبية هو التجربة الفرنسية التي جسدها قانون 1905 الشهير، الذي يعتبر أهم تشريع سياسي عرفه الغرب ينظم العلاقة بين الدين والدولة، انطلاقًا من التفريق بينهما وضمان حرية المعتقد وحياد الدولة تجاه الأديان.
فالمواطن حر في اعتقاد ما يراه منيرًا لحياته ما دام لا يتعارض مع النظام العام. كما على الدولة ألا تلزم أحدًا بأي معتقد كيفما كان، ولا تعترف بدين دون آخر، بل التعامل مع الجميع على أساس المساواة، بدون التمييز بين الناس بسبب عقائدهم في الوظائف العامة، ولا تشير إلى ذلك في ملفاتهم ووثاقهم الشخصية أو هوياتهم، بالإضافة إلى حياد المدرسة العمومية وعدم انتمائها إلى أي دين معين، أو إبراز شعاراته أو رموزه داخل فضاءاتها.
من هذا المنطلق يمكن القول بأن العلمنة هي نزع القداسة عن الممارسة السياسية، لأن المجال السياسي هو مجال للحوار والنقاش الحر والصراع العقلاني بعيدًا عن كل المحرمات وعن كل سلطة تتعالى على العقل الحر النقدي. وفي هذا الإطار فإن العقل الأصولي يحاول دائمًا ربط العلمنة باللاتدين والإلحاد، في حين أنها دعوة إلى الحياد السياسي ومجالها هو السياسة، وليس الإيمان أو الدين.
من عوامل الغموض المحيط بالمفهوم هو تناوله بعيدًا عن مجموعة من المفاهيم التي تشكل شبكة متكاملة، تعكس ملامح جوانب أساسية من الصراع التاريخي والفكري في أوروبا ويصعب تناول أحدها دون الآخر، مثل مفاهيم العقلانية والفردية والمواطن والتعاقد الاجتماعي والتسامح والحرية والتقدم.. فالعلمنة تنتمي إلى منظومة الحداثة، حيث يصعب الفصل بين مكوناتها التي تتداخل في ما بينها بصورة جدلية.
ترجع مناسبة استعادة النقاش حول موضوع العلمنة في هذا الركن، إلى الاحتفاء بصدور مصنف في هذا الباب بعنوان: «الديني والدنيوي، نقد الوساطة والكهنة» منتدى المعارف للنشر والتوزيع في بيروت (2018 ) للكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز. ويعتبر هذا المصنف استمرارا للكتابات التي راكمها عبد الإله بلقزيز حول موضوع: الديني والسياسي في التاريخ العربي الإسلامي القديم والمعاصر. ونخص بالذكر: «الإسلام والسياسة» (2001 )، «الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر»(2002 )، «النبوة والسياسة: تكوين المجال السياسي الإسلامي» (2005 )، «الفتنة والانقسام: تكوين المجال السياسي الإسلامي» (2012 )، «الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي» (2015).
غير أن عنصر الجدة في هذا المصنف يتحدد في كونه مدخلا لمشروع تحليلي نقدي أكثر شمولية للتراث الإسلامي، أطلق عليه بلقزيز اسم: الإسلاميات النقدية والذي اختار أن يستأنفه وقوفا عند مسألة الديني والدنيوي. وهي حلقة رئيسة يقول عنها «إنها تكاد أن تختصر مسألة الديني والسياسي وأن تشملها، في الوقت عينه، أو قل إنها المدخل الأعرض إلى التفكير فيها، بما هي لحظة إشكالية نمسئل فيها السياسي حسبانه فضاء رئيسا من فضاءات الدنيوي (الذي تصله بالديني صلات متعددة). ومعنى ذلك أننا آثرنا أن نعيد تصويب التفكير في مسألة العلاقة بين الدين والسياسة (السلطة، الدولة، الحركات السياسية) والدين بالنظر إليها، في تمفصلاتها مع علاقة أشمل وهي علاقة الدنيا بالدين والدين بالدنيا، وقد أخذنا عينة لها في الكتاب وهي ظاهرة الكهنتة بوصفها ظاهرة يتجسد فيها في آن، توسل الدنيوي للدين وتنزل جسم من ذلك الدنيوي منزلة الجسم الديني. واقحام الديني في لعبة الدنيوي (وهما معا وجهان للعملة عينها). ولكن معنى ذلك أيضا، أن فضاءات وميادين أخرى غير السياسة تنتظر البحث والدراسة والتجلية العلمية في نطاق الدنيوي (الاجتماعي، الثقافي، النفسي، الأنثروبولوجي) الأمر الذي تحتاج معه إلى برنامج علمي متكامل ومتعدد التخصصات يشارك فيه باحثون من ميادين علمية متعددة، لا يملك الباحث الواحد أن يلم بها، وبمناهجها جميعها.» (عبد الإله بلقزيز، الديني والدنيوي، نقد الوساطة والكهنتة).
تلتقي مجمل مضامين هذا المصنف في حقلين رئيسين:
• العودة إلى الزمان العربي ماضيا وحاضرا: وذلك من أجل توضيح عوارض الاضطراب والإعضال البنيوي، التي تنخر الذات العربية الإسلامية، الناتج عن المواريث التاريخية، المنبجسة من امتداد جسور الماضي والحاضر، ومن ثمة التشديد والإلحاح على عامل اختلاف الشروط التاريخية، وهاجس احترام التاريخانية.
•المقارنة بين تجربة الإسلام التاريخية وتجربة الأديان التوحيدية الأخرى: بيد أنه لا سبيل إلى معرفة تجربة الإسلام التاريخية (دينا، تراثا، حضارة) إلا بمقارنته بتجارب الأديان التوحيدية الأخرى. وذلك بسلوك مسلك علم الأديان المقارن، بعيدا عن محاولات كثير من الدارسين الغربيين ممن درسوا التاريخ الديني للإسلام من منظور اتصاله بالتقليد الإبراهيمي التوحيدي، فأكثر هؤلاء حسب عبد الإله بلقزيز أهدر أصالة الإسلام ونصه الديني حين قرأه بمعيار الأمانة، أو عدم الأمانة للمصدر اليهودي والمسيحي وأخرجه من دائرة شروطه الخاصة.
وقد اعتمد بلقزيز في استنطاقه لهذين الحقلين الشائكين، مقاربة تضم خليطا منهجيا فرضه تعدد وتشعب أبعاد الظاهرة المدروسة، إذ نجده تارة يسلك مسلك التناول النظري الفلسفي ،وتارة أخرى يسلك مسلك الدرس التاريخي للظاهرة والتحليل الاجتماعي السياسي. ساعيا من وراء ذلك إلى تحصيل ما اسماه الوضوح النظري. يقول في هذا الصدد: «لست أخفي أن أكثر ما يعنيني، وأنا أبحث المسألة، (هو) أن أستجليها نظريا أكثر من أن أنصرف إلى درسها متوسلا فقط، وحصرا، أدوات علم الاجتماع وعلم السياسة. وما ذلك لأنني انتصرت لتخصصي الأكاديمي كمشتغل بالفكر الفلسفي، ولكن لاعتقادي المكين بأن أكثر مما ينقصنا، في الفكر العربي، في دراسة الظاهرة الدينية، وغيرها من الظواهر الأخرى، هو الوضوح النظري. فثمة كمية واضحة من الغموض والالتباس في النظر إلى المسائل المختلفة، تهيئ الناس إلى ركوب الاستسهال وطرق العويص المتعصي وتدليل استعصائه بكلام إنشائي مزدحم بالأحكام القيمية والقطيعات واليقينيات، بدون تبين فكري أو بناء نظري أو مسؤولية في استخدام المفاهيم، وهو ما يقود بالتالي، إلى إنتاج لغو يزيد ركامه الغث على لغو سابق! وما هذا بمعرفة ولكن شبه لمن يخوض فيها ـ من غير أصول وعدة اشتغال- إنها كذلك». (عبد الإله بلقزيز، الديني والدنيوي، نقد الوساطة والكهنتة)
القدس العربي