كشفت دراسة أجرتها جامعة “إيسيكس” في بريطانيا أن الشعور بفقدان اللغة الأم واضمحلالها لا يخفى على أكثر الناس الذين طال مقامهم في بلاد المهجر، حين لا تسعف المرء لغته الأولى بالكلمات التي يحتاج إليها للتعبير عن نفسه، وهذا يعني أن لغته الأم تتلاشى تدريجياً من الذاكرة كلما طال الاغتراب عن الوطن.
وأشارت إلى أن الأطفال الذين في عمر التاسعة يكادون ينسون لغتهم الأم كلياً بعد الانتقال إلى البيئة الجديدة، وهم الأكثر تأثراً بالعوامل الخارجية حتى سن الـ12، ويزداد الخلط بين مفردات اللغتين المكتسبة والأصلية كلما زادت مخالطة السكان المحليين في المغترب، إذ يرى المرء أنه ليس مضطراً إلى التمسك بلغة واحدة ما دام الآخرون سيفهمون اللغتين، ومن ثم يثمر هذا الخلط لغة هجينة.
ونبهت الدراسة إلى أن مشكلة تآكل اللغة الأصلية لا تقتصر على المهاجرين فحسب، بل قد يعاني منها أيضا أي شخص يتعلم لغة ثانية، وقالت مونيكا شميت، الخبيرة اللغوية في جامعة إيسيكس “بمجرد أن تشرع في تعلم لغة أخرى يتنافس النظامان اللغويان للغة الأولى واللغة المكتسبة”. وهذه الظاهرة يسهل تفسيرها لدى الأطفال، لأن أدمغتهم أكثر مرونة وقدرة على التكيف بشكل عام مقارنة بالبالغين.
وبينت شميت لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” أن نسيان اللغة هو استثناء، إذ أن أغلب المهاجرين يتحدثون اللغتين الأصلية والمكتسبة معا، وإن تفاوتت درجات إتقانهم للغتين. إلا أن رسوخ اللغة الأم في الذاكرة يتوقف على الملكة اللغوية، أي أن الناس الذين لديهم استعداد فطري لإجادة اللغات لن تتأثر لغتهم الأم في أغلب الأحيان مهما طال غيابهم عن وطنهم.
وتعد شميت من كبار الباحثين في مجال فقدان اللغة واضمحلالها، وهو مجال بحوث جديد يُعنى بأسباب فقدان اللغة الأم.وأضافت موضحة “غير أن إتقان اللغة الأم يرتبط ارتباطا وثيقا بالطريقة التي تتعامل بها أدمغتنا مع اللغات المختلفة”، مشيرة إلى أنه “عندما تصبح ثنائي اللغة عليك أن تضيف ما يشبه وحدة التحكم التي تتيح لك الانتقال بسلاسة من لغة إلى أخرى، وهذا ما يميز دماغ أحادي اللغة عن آخر ثنائي اللغة”.
وأعطت مثالا على ذلك أنها عندما تنظر إلى منضدة قد يختار دماغها بين المرادف الإنكليزي والمرادف الألماني للكلمة، بما أن الألمانية هي لغتها الأصلية، فإذا كانت محاطة بأشخاص يتحدثون الإنكليزية فسيختار الدماغ المرادف الإنكليزي، والعكس صحيح، فإذا ضعفت آلية التحكم في اللغات لدى المتحدث فسيتلعثم ويعجز عن إيجاد الكلمة المناسبة أو سيكثر من استخدام مفردات من اللغة الثانية.
الخلط بين مفردات اللغتين المكتسبة والأصلية يزداد كلما زادت مخالطة السكان المحليين في المغترب، إذ يرى المرء أنه ليس مضطرا إلى التمسك بلغة واحدة ما دام الآخرون سيفهمون اللغتين، ومن ثم يثمر هذا الخلط لغة هجينة.
الخلط بين مفردات اللغتين المكتسبة والأصلية يزداد كلما زادت مخالطة السكان المحليين في المغترب، إذ يرى المرء أنه ليس مضطرا إلى التمسك بلغة واحدة ما دام الآخرون سيفهمون اللغتين، ومن ثم يثمر هذا الخلط لغة هجينة.
وأفادت بأن الخلط يزداد بين مفردات اللغتين كلما زادت مخالطة السكان المحليين، حيث يرى المرء أنه ليس مضطرا إلى التمسك بلغة واحدة، ما دام الآخرون سيفهمون اللغتين، ومن ثم يثمر هذا الخلط لغة هجينة. ولأن لندن تعد واحدة من المدن التي تضم أكبر عدد من ثنائيي اللغة في العالم، فستألف أذناك هذا الضرب من اللغات الهجينة إلى حد أنك تشعر بأنها اللكنة المحلية.
كما تقول شميت إن الدماغ بمرور الوقت قد يجد صعوبة في الثبات على لغة واحدة عندما تقتضي الضرورة، بسبب كثرة التنقل من لغة إلى أخرى، مضيفة “ستجد نفسك في نهاية الأمر متذبذبا بين اللغتين، فلا يمكنك الاستقرار على لغة واحدة”.
ومن جهة أخرى أجرت لاورا دومينغويز، مديرة معهد اللغات والثقافة بجامعة ساوثهامبتون، مقارنة بين مجموعتين من المهاجرين الإسبان والكوبيين القدامى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وبينما كان الإسبان الذين يعيشون في مختلف أنحاء المملكة المتحدة يكادون لا يتحدثون سوى الإنكليزية فإن الكوبيين الذين يعيشون وسط جالية كبيرة من ذوي الأصول اللاتينية في مدينة ميامي كانوا لا يتحدثون سوى الإسبانية.
وأظهرت أن “جميع الإسبان في المملكة المتحدة قالوا لي: بالطبع لقد نسينا الكلمات. ويبررون ذلك عادة بالقول: أجد صعوبة في تذكر اللفظ الصحيح، لا سيما إذا كنت استخدم اللفظ المرادف له عادة في سياق عملي”.
وتضيف دومينغويز -وهي إسبانية وأمضت معظم حياتها المهنية في الخارج- “لا أخفيك سرا أنني قد لا أستطيع أن أكرر هذا الحديث باللغة الإسبانية، لو كنت أتحدث مع إسباني”.
إلا أنها توصلت إلى فارق لافت بين المجموعتين، إذ بينما احتفظ الإسبان في المملكة المتحدة بقواعد لغتهم الأصلية السليمة فقدَ الكوبيون في الولايات المتحدة اللهجة الكوبية المميزة، رغم أنهم لم يتحدثوا سوى الإسبانية. وهذا يعني أن اللهجة الكوبية ذابت في اللهجات الكولومبية أو المكسيكية بسبب اختلاطهم بذوي أصول لاتينية يتحدثون الإسبانية بلهجات مختلفة في ميامي.
وأرجعت دومينغويز هذه الظاهرة إلى أن لغتنا الأصلية تتأثر باللغات أو اللهجات الأخرى التي تشبهها أكثر مما تتأثر بغيرها، مشيرة إلى أن ” تآكل لغة وتراجعها أمام لغة أخرى ليسا أمريْن سيئَيْن، فهي عملية طبيعية؛ إذ يعمد الناس إلى تطويع قواعد اللغة لتواكب واقعهم الجديد، فقدرة البشر على تعلم اللغة لا تقل كفاءة عن قدرتهم على تغييرها”.
وشددت على أنه لا يمكن أن تتضاءل القدرة على التعبير باللغة الأصلية. ومهما ضعفت واضمحلت اللغة الأصلية، فإن زيارة الوطن بين الحين والآخر تساعد دائما في استرجاعها واستعادة مفرداتها، على الأقل لدى البالغين.
وقالت بيترا ماير غولدباخ -وهي معلمة لغة ألمانية وتعمل مستشارة في مدرسة الشعب الألمانية في مدينة هاغن غرب ألمانيا- إنّ تعليم اللغة الأم لأبناء المهاجرين أيّاً كانت هذه اللغة يعدّ أمراً إيجابياً، ويؤثر بصورة جيدة في الاندماج، مضيفة “إن تدريس اللغة الأم مهم بشكل خاص لأنها أساسُ هويةِ الشخص. وقد أظهرت العديد من الدراسات أن الطلاقة في اللغة الأم تؤثر بشكل إيجابي في اكتساب وتعلم اللغة الثانية”.