العهد المريني: من 647هــ إلى 814هـــ
ينتسب بنو مرين إلى القبيلة البربرية العظيمة “زناتة”… توَلّى المُلك من المَرِينيين؛ فرْعان: بنو وزرير قبيل بني عبْد الحقّ ثمّ بنو وطّاس.
ابْتدأ حُكْمُهُمْ بِتَوْلية “أبي محمّد عبْد الحقّ بن أبي خالد محْيو” سنة 592هـ / 1196م من بني عبد الحق. و انتهى بتولية محمد بن أحمد سنة 957هـ / 1550م من بني وطَّاس.ينتسب بنو مرين إلى القبيلة البربرية العظيمة “زناتة”… توَلّى المُلك من المَرِينيين؛ فرْعان: بنو وزرير قبيل بني عبْد الحقّ ثمّ بنو وطّاس.
لم تختلفْ سياَسةُ المرينيّين عمّنْ سبقوها… و لمْ تعرِفِ الجزائرُ طعْم السِّلْم أثناء حُكْمِهمْ؛ بسبب العَداوَة الدّائمة بيْنَهُمْ و بيْن “عبْد الواد” ؛ عداوةٌ مرْجِعُها التّنافسُ على رِئاسة “زناتة”… و حدثت حروب بين الطرفين، إحداها بأحواز وجدة سنة 647هـ / 1250م، والثانية “بوادي تلاغ” سنة 666هـ / 1267م، و الثالثة “بوادي ايسْلي” سنة 680هـ / 1272م، ثمّ جاءتْ غزوة السُّلطان “يوسُف بْن يعقوب المرِيني” لِتلمْسانَ سنة 687هـ / 1290م بسبب إيواء حاكم تلمسان لبعض الثوار على دولة بني مرين و قد « كان حصار السلطان أبي يعقوب المريني لمدينة تلمسان من أفظع و أشدِّ ما عرفه التاريخ في حصار مدينة… و قد طال الحصار ثماني سنين و ثلاثة أشهرٍ و أيّاما، مات فيها نحو العشرين ومائة ألف شخص، و أكلَ النّاسُ يوْمئذٍ الجيف و الكلاب و القِطط و الفئرَان و أشْلاءَ الموْتى، وبلغ ثمنُ الفأر عشرة دراهم. »87 على مستوى المذاهب و المُعْتقدات؛ جنَحَتِ الدّوْلة المَرِينية إلى تثبيت المذهب المالكي والاهتمام بالفقه و التوسع في الفروع و المحافظة على “الأشعرية”.
الحياة الثقافية:
يُثبت التاريخ دائماً؛ أنّ المغرب العربي كان ميّالاً إلى علوم الشريعة و الدين إذْ «علوم الفلسفة و ما يتبعها أو يتصل بها من نظريات و أفكار و بحوث، كانت في نظر القوم محرمة، بل هي عين الكفر والضلال… و تكفي الإشارة إلى موقف علماء فاس فى وجه أبي عبد الله محمد ابن خميس التلمساني المتهم عندهم بتعاطي الفلسفة و ما أبْدوْهُ في ذلك منْ مُعـارضة مع الصّـرامة و الشدّة في مُناظرَته، ثـمَّ مُحَاكمتِه بِإهْدارِ دمِه… »88 يظلّ الشعر من الأشكال التعبيرية الهاّمة، خلال هذه الفترة، إلى جانب النثر الذي ترَاوَح بيْن فنّ الخطابة على يد “ابن مرْزوق الخطيب” و الرّحْلة و الترَاجم على يدِ “ابن قنفذ القسنطيني”.
من النّصوص الشعْرية لِجزائرِ تِلكَ الفتْرة؛ قول أبي الحسن عليّ الخزاعي التلمساني، في موسى بن أبي عنان المريني لمّا كبا به فرسُه بالشمّاعين بفاس إثر صلاته الجمعة بالقروِيّين:
مولاي لا ذنب لـلشقراء إن عثرت * ومـن يـلمهـا لعمري فهو ظالمها
و هـــالـها ما اعتراها من مهابتكم * مـن أجــلِ ذلك لـم تـثبت قوائمها
و لم تزل عـادة الفرسان مُذْ ركبوا * تـكـبو الجـياد و لم تثب عزائمها
و فـي النبي رســول الله أســـــوتنا * أعـــلى النبيين مـقـداراً و خاتمها
كــبـا بـه فــرس أبــقى بــسـقـطته * فـي جـنـبـه خـدشة تبدو معـالمها
صــلّى عـلـيـه الإلــه دائـمـــاً أبـداً * أزكـى صـلاة تُحـييها نـواسـمهـا89
و من نصوص النثر، ترَاجمُ “ابن قنفذ القسنطيني” صاحب كتاب “الوفيات” و هو عينة فريدة في الكتابة الجزائرية القديمة (سبق و اشتغلتُ عليْه في موضوع السيرة في الأدب الجزائري القديم / دراسة في الانماط و البناء) و قلتُ في ذلك: « لقد حرص الرّجلُ على تدوين تواريخ رحيل النماذج العليا في التاريخ الإسلامي، مستهلاّ بضبط زمن رحيل النبي محمّد صلى الله عليْه وسلّم، و ابْنته فاطمة رضي الله عنها، ثمّ الصّحابة، و أزواج النبي (بعضهن)، فالمحدثون و المفسرون و المؤلفون… و هكذا حوى مؤلف الوفيات لابن قنفذ ثلاث فئات كبرى تحت مظلة مرجعية أساسية. و يجري منهج ضبط التواريخ في كتاب الوفيات على ترتيب القرون؛ انطلاقاً من سنة 11هـ إلى غاية السنوات العشر الأولى من المائة التاسعة أي إلى حدود سنة 807هـ. و قد يتزامن تاريخ وفاة شخصين أو أكثر في نفس السـنـة، فـيجـمـع الـمؤلـف الـمتـوفين فـي فـقـرة مـوجزة، موظفاً واو العطف، أو واو العطف
مصحوبة بلفظة: “كذلك”… »90
من النصوص التمثيلية لِترَاجِم “الوَفيات” لابْنِ قُنفذ القسَنْطيني: « تُوُفي حَميد الطويل سنة ثلاث و أربعين و مائة. و كذلك يحيى بن سعيد الأنصاري. »91.
و قوله: « و في سنة ثلاث و أربعمائة توفي الخطيب المحدث الحافظ الشهير أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي صاحب “تاريخ بغداد” ببغداد و دُفن بجنْب قبْر بِشْر الحَافي بوَصيته. »92 . و يقول في موْضعٍ آخرَ: « و توفي عطاء بن أبي رباح سنة خمس عشرة و مائة ، و كان من الراسخين في العلم، و لازَمَ الإفادة و الفتيا مدة ثمانين سنة، و كان أسود أعور أفطس أشلَّ أعرج، فالعلم ليس بالجمال و لا بالمال، و إنّما هو نور يضعه الله في صدر من يشاء من عباده. »93
وعلى هذه الشاكلة؛ جرى كتاب “الوفيات”… ترَاجمُ مُختزَلة، تهْتمّ بتاريخ الوفاة فقط… وكأن “الوفاة” هي الحقيقة التي تُثبِتُ الحياة !
كتَبَ ابن قنفذ في الرِّحلة كتابَهُ الموْسُوم بـِ: “أنْسُ الفقير و عِزُّ الحَقير” يشير فيها إلى زيارته للشيخ الصالح، أبي العباس أحمد بن العاشر الأندلسي، بمدينة “سلا” بالمغرب الأقصى وذلك سنة 763هـ، و يُحَدّثُ عنْ وُقوفهِ على قبْر “السّبْتي”… ثم يُخْبر عن سبب كتابة هذا الكتاب؛ فيُرْجعُ ذلك إلى إهتمامه بالشيخ العارف الإمام القطب “أبي مدين” و بعض الصوفية و يُخْبر عنْ وُقوفه على قبْر “ابْن العربي” بين مدينتيْ فاس القديمة و فاس الجديدة، و قد تمَّ له اللقاء بمشاييخ؛ “سلا” و “فاس” و منْهم: أبو الحسن بن يوسف الصنهاجي و غيْرُهُ كثير… و كانت هذه اللقاءات تُعمِّقُ معْرِفته بالتّصوّف… كما وقف على عدة أضرحة و ختم كتابة رحلته بِنُكتٍ تنفع الفقير و تُعِزُّ الحَقير… ومن مقتطفات هذه الرحلة، قوله: « حدثني قاضي الجماعة بمــراكش الشيخ الفاضل المتخلق الحافظ لسيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو زيد عبد الرحمن القيسي ويعرف بطالب عافية أنه أراد أن يقرأ عليه علم العروض. قال لي: “ولا دريت هل له معلافة به أم لا. وفكرت في نفسي كيف يكون سؤالي عن ذلك. فدخلت عليه، وهو في حلقة العلم وأنا قلق من ذلك. فجلست ثم سمعته قد رفع صوته وهو يقول مثل ما يقول العروضيون كذا وتكلم في فن العروض. فعلمت أنه معي.” ومازال رحمه الله، يحدثني بهذه الحكاية وتدمع عيناه في أثنائها. وهذا الشيخ أول من قرأت عليه فن المنعلق بمراكش. وكان من الفضلاء. حضر في مجلس علمه طالب أعرفه. فصار يعترضه ويقول: “كفر هذا الشيخ في كذا.” فخرج في عمالة سلطانية وخرج معه عدوي يبلغه إلى المكان الذي خرج إليه ويعلمهم به على عاداتهم في تنفيذ أوامرهم. فلما كان في مفازة من الأرض المراكشية أصابه شيء مات منه. فنظر [المراكشي] العدوي في أمره، وبعد العمارة منه فأتى به إلى مزبلة دار خربة وشق حفرة بركيز مزراقه ودفنه هنالك من غير غسل ولا صلاة. فلما بلغ خبره لهذا الشيخ قال: “لا اله الا الله، رجل استهزأ بالناس، فاستهزأ الموت به.”
وحدثني قاضي الجماعة بفاس الفقيه المرحوم أبو محمد عبد الله الأوربي وهو ممن رأى الهزميري قال لي: “خرج أبو عبد الله الكومي المراكشي في قافلة يوما قاصدا الى زيارة الفقيه أبي عبد الله البقوري مكمل اكمال. المعلم قال: “فدخلت عليه فوجدته بين كتبه على التراب وهليه مرقعة غليظة وعرقه يقطر. فجلست عنده ساعة ثم خرجت الى زيارة ابن البناء. فخرجت الي وصيفة خماسية قالت: من هذا؟ قلت: قل له: الكومي. فأعلمته وأذن في دخولي. فوجدته في قبة رياضه الذي أحدث بناءه بمراكش وعليه ثياب كتان من عمل تونس وفي القبة أقطعة ومخايد وعليها حجاب حسن. فسلمت عليه وجلست. فنادى الخادم وأشار اليها [فقدمت آنية بالسكر وأخرى بالبطيخ] فقال لي:”ادن.” فدنوت وقلت في نفسي: سبحان الله كيف تركت البقوري ووجدت هذا الرجل. فقال لي: “اسكت ودع الفضول لو كان البقوري في هذا المقام وأنا في مقامه لاختل حال كل واحد منا.”
وكان الكومي من الفضلاء المشهورين بمراكش بالخير والصلاح. وحدثني أيضا هذه الحكاية شيخنا الفقيه الثعالبي أبو العباس المراكشي الشماع بفاس المحروسة بالمدرسة التي يؤم فيها بالطالعة من البلد المذكور. وقال لي “انتفع بالهزميري كثيرا.” كان شيخنا في العلوم السماوية الشيخ الفقيه أبو زيد عبد الرحمن اللجائي، وهو ممن قرأ عليه يحدث عنه بالغرائب. قال: “وسبب قراءتي عليه أن والدي كان يشدد على درس الفقه والأخذ بطريقته لأن والده من فقهاء فاس وهو أبو الربيع اللجائي، من تلامذة القرافي وهو أول من أدخل مختصر ابن الحاجب في الأصول الى المغرب وعنه أخذ. قال لي: “رأيت في النوم أي صعدت الى السماء وأنا اقلب النجوم واحدا بعد واحد. فانتبهت وأعلمت والدي من ساعتي فسكت. فلما أصبح ناولني نفقة وقال: اخرج الى مراكش واقصد ابن البناء واطلبه في علومه. ففعلت »94
يُثبت التاريخ دائماً؛ أنّ المغرب العربي كان ميّالاً إلى علوم الشريعة و الدين إذْ «علوم الفلسفة و ما يتبعها أو يتصل بها من نظريات و أفكار و بحوث، كانت في نظر القوم محرمة، بل هي عين الكفر والضلال… و تكفي الإشارة إلى موقف علماء فاس فى وجه أبي عبد الله محمد ابن خميس التلمساني المتهم عندهم بتعاطي الفلسفة و ما أبْدوْهُ في ذلك منْ مُعـارضة مع الصّـرامة و الشدّة في مُناظرَته، ثـمَّ مُحَاكمتِه بِإهْدارِ دمِه… »88 يظلّ الشعر من الأشكال التعبيرية الهاّمة، خلال هذه الفترة، إلى جانب النثر الذي ترَاوَح بيْن فنّ الخطابة على يد “ابن مرْزوق الخطيب” و الرّحْلة و الترَاجم على يدِ “ابن قنفذ القسنطيني”.
من النّصوص الشعْرية لِجزائرِ تِلكَ الفتْرة؛ قول أبي الحسن عليّ الخزاعي التلمساني، في موسى بن أبي عنان المريني لمّا كبا به فرسُه بالشمّاعين بفاس إثر صلاته الجمعة بالقروِيّين:
مولاي لا ذنب لـلشقراء إن عثرت * ومـن يـلمهـا لعمري فهو ظالمها
و هـــالـها ما اعتراها من مهابتكم * مـن أجــلِ ذلك لـم تـثبت قوائمها
و لم تزل عـادة الفرسان مُذْ ركبوا * تـكـبو الجـياد و لم تثب عزائمها
و فـي النبي رســول الله أســـــوتنا * أعـــلى النبيين مـقـداراً و خاتمها
كــبـا بـه فــرس أبــقى بــسـقـطته * فـي جـنـبـه خـدشة تبدو معـالمها
صــلّى عـلـيـه الإلــه دائـمـــاً أبـداً * أزكـى صـلاة تُحـييها نـواسـمهـا89
و من نصوص النثر، ترَاجمُ “ابن قنفذ القسنطيني” صاحب كتاب “الوفيات” و هو عينة فريدة في الكتابة الجزائرية القديمة (سبق و اشتغلتُ عليْه في موضوع السيرة في الأدب الجزائري القديم / دراسة في الانماط و البناء) و قلتُ في ذلك: « لقد حرص الرّجلُ على تدوين تواريخ رحيل النماذج العليا في التاريخ الإسلامي، مستهلاّ بضبط زمن رحيل النبي محمّد صلى الله عليْه وسلّم، و ابْنته فاطمة رضي الله عنها، ثمّ الصّحابة، و أزواج النبي (بعضهن)، فالمحدثون و المفسرون و المؤلفون… و هكذا حوى مؤلف الوفيات لابن قنفذ ثلاث فئات كبرى تحت مظلة مرجعية أساسية. و يجري منهج ضبط التواريخ في كتاب الوفيات على ترتيب القرون؛ انطلاقاً من سنة 11هـ إلى غاية السنوات العشر الأولى من المائة التاسعة أي إلى حدود سنة 807هـ. و قد يتزامن تاريخ وفاة شخصين أو أكثر في نفس السـنـة، فـيجـمـع الـمؤلـف الـمتـوفين فـي فـقـرة مـوجزة، موظفاً واو العطف، أو واو العطف
مصحوبة بلفظة: “كذلك”… »90
من النصوص التمثيلية لِترَاجِم “الوَفيات” لابْنِ قُنفذ القسَنْطيني: « تُوُفي حَميد الطويل سنة ثلاث و أربعين و مائة. و كذلك يحيى بن سعيد الأنصاري. »91.
و قوله: « و في سنة ثلاث و أربعمائة توفي الخطيب المحدث الحافظ الشهير أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي صاحب “تاريخ بغداد” ببغداد و دُفن بجنْب قبْر بِشْر الحَافي بوَصيته. »92 . و يقول في موْضعٍ آخرَ: « و توفي عطاء بن أبي رباح سنة خمس عشرة و مائة ، و كان من الراسخين في العلم، و لازَمَ الإفادة و الفتيا مدة ثمانين سنة، و كان أسود أعور أفطس أشلَّ أعرج، فالعلم ليس بالجمال و لا بالمال، و إنّما هو نور يضعه الله في صدر من يشاء من عباده. »93
وعلى هذه الشاكلة؛ جرى كتاب “الوفيات”… ترَاجمُ مُختزَلة، تهْتمّ بتاريخ الوفاة فقط… وكأن “الوفاة” هي الحقيقة التي تُثبِتُ الحياة !
كتَبَ ابن قنفذ في الرِّحلة كتابَهُ الموْسُوم بـِ: “أنْسُ الفقير و عِزُّ الحَقير” يشير فيها إلى زيارته للشيخ الصالح، أبي العباس أحمد بن العاشر الأندلسي، بمدينة “سلا” بالمغرب الأقصى وذلك سنة 763هـ، و يُحَدّثُ عنْ وُقوفهِ على قبْر “السّبْتي”… ثم يُخْبر عن سبب كتابة هذا الكتاب؛ فيُرْجعُ ذلك إلى إهتمامه بالشيخ العارف الإمام القطب “أبي مدين” و بعض الصوفية و يُخْبر عنْ وُقوفه على قبْر “ابْن العربي” بين مدينتيْ فاس القديمة و فاس الجديدة، و قد تمَّ له اللقاء بمشاييخ؛ “سلا” و “فاس” و منْهم: أبو الحسن بن يوسف الصنهاجي و غيْرُهُ كثير… و كانت هذه اللقاءات تُعمِّقُ معْرِفته بالتّصوّف… كما وقف على عدة أضرحة و ختم كتابة رحلته بِنُكتٍ تنفع الفقير و تُعِزُّ الحَقير… ومن مقتطفات هذه الرحلة، قوله: « حدثني قاضي الجماعة بمــراكش الشيخ الفاضل المتخلق الحافظ لسيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو زيد عبد الرحمن القيسي ويعرف بطالب عافية أنه أراد أن يقرأ عليه علم العروض. قال لي: “ولا دريت هل له معلافة به أم لا. وفكرت في نفسي كيف يكون سؤالي عن ذلك. فدخلت عليه، وهو في حلقة العلم وأنا قلق من ذلك. فجلست ثم سمعته قد رفع صوته وهو يقول مثل ما يقول العروضيون كذا وتكلم في فن العروض. فعلمت أنه معي.” ومازال رحمه الله، يحدثني بهذه الحكاية وتدمع عيناه في أثنائها. وهذا الشيخ أول من قرأت عليه فن المنعلق بمراكش. وكان من الفضلاء. حضر في مجلس علمه طالب أعرفه. فصار يعترضه ويقول: “كفر هذا الشيخ في كذا.” فخرج في عمالة سلطانية وخرج معه عدوي يبلغه إلى المكان الذي خرج إليه ويعلمهم به على عاداتهم في تنفيذ أوامرهم. فلما كان في مفازة من الأرض المراكشية أصابه شيء مات منه. فنظر [المراكشي] العدوي في أمره، وبعد العمارة منه فأتى به إلى مزبلة دار خربة وشق حفرة بركيز مزراقه ودفنه هنالك من غير غسل ولا صلاة. فلما بلغ خبره لهذا الشيخ قال: “لا اله الا الله، رجل استهزأ بالناس، فاستهزأ الموت به.”
وحدثني قاضي الجماعة بفاس الفقيه المرحوم أبو محمد عبد الله الأوربي وهو ممن رأى الهزميري قال لي: “خرج أبو عبد الله الكومي المراكشي في قافلة يوما قاصدا الى زيارة الفقيه أبي عبد الله البقوري مكمل اكمال. المعلم قال: “فدخلت عليه فوجدته بين كتبه على التراب وهليه مرقعة غليظة وعرقه يقطر. فجلست عنده ساعة ثم خرجت الى زيارة ابن البناء. فخرجت الي وصيفة خماسية قالت: من هذا؟ قلت: قل له: الكومي. فأعلمته وأذن في دخولي. فوجدته في قبة رياضه الذي أحدث بناءه بمراكش وعليه ثياب كتان من عمل تونس وفي القبة أقطعة ومخايد وعليها حجاب حسن. فسلمت عليه وجلست. فنادى الخادم وأشار اليها [فقدمت آنية بالسكر وأخرى بالبطيخ] فقال لي:”ادن.” فدنوت وقلت في نفسي: سبحان الله كيف تركت البقوري ووجدت هذا الرجل. فقال لي: “اسكت ودع الفضول لو كان البقوري في هذا المقام وأنا في مقامه لاختل حال كل واحد منا.”
وكان الكومي من الفضلاء المشهورين بمراكش بالخير والصلاح. وحدثني أيضا هذه الحكاية شيخنا الفقيه الثعالبي أبو العباس المراكشي الشماع بفاس المحروسة بالمدرسة التي يؤم فيها بالطالعة من البلد المذكور. وقال لي “انتفع بالهزميري كثيرا.” كان شيخنا في العلوم السماوية الشيخ الفقيه أبو زيد عبد الرحمن اللجائي، وهو ممن قرأ عليه يحدث عنه بالغرائب. قال: “وسبب قراءتي عليه أن والدي كان يشدد على درس الفقه والأخذ بطريقته لأن والده من فقهاء فاس وهو أبو الربيع اللجائي، من تلامذة القرافي وهو أول من أدخل مختصر ابن الحاجب في الأصول الى المغرب وعنه أخذ. قال لي: “رأيت في النوم أي صعدت الى السماء وأنا اقلب النجوم واحدا بعد واحد. فانتبهت وأعلمت والدي من ساعتي فسكت. فلما أصبح ناولني نفقة وقال: اخرج الى مراكش واقصد ابن البناء واطلبه في علومه. ففعلت »94
الدولة الزيانية/ نظام حكمها:
يبْدأ تارِيخ الحُكْم بِـ: أبي يحيى يغمراسن بن زيان سنة 633هـ / 1236م، و ينْتهي بـ: الحسن بن عبد الله الثاني سنة 957هـ / 1550م.
عاشت هذه الدولة تحت حكم السلطان الملقب بأمير المسلمين، و « ولايته تكون بالعهد من الملك السابق و قد تكون بالغلبة و القهر و السطوة و العصبية، و لم يثبت عن ملوك هذه الدولة دعوى الخلافة إلاّ في أيام قلائل، دعت إليها الظروف و حملتهم عليها تقلبات سياسية.»95.
نشأت خلافات واسعة بين الزيانيين و الحفصيين و المرينيين، ترْجع كلها إلى حُبّ الرئاسة والإستئثار بالنّفوذ في هذا المغرِب الكبير… « فكانتِ الرّزايا و الفجائِع و الآلام… و في هذا العهد أخذ الضّعف يسْري في عُروق القبيلة الجزائرية العتيدة “زناتة “… فابْتدرَها الهَرَمُ وحلّتْ محلّها الجاليات العربية المُهاجِرَة. »96
الحياة الثقافية:
أصبحت تلمسان على عهد بني زيان حاضرة الأدب و العلم و الفن… و ممن اشتهر بالفقه و العلوم الدينية: أبو زيد عبد الرحمن و أبو موسى عيسى اللذان تفقها على أصحاب “أبي عبد الله بن شعيب الدكالي”… و ممن اشتهر في المعقول والمنقول، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الشريف التلمساني و يُعرَفُ بـِ: “العلوِي”. كذلك برز في الأصول و الفقه والتفسير، أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن مرزوق الحفيد.
وفي الأدب… نستطيع التمثيل بِعَلميْن هُما: “ابن خميس التلمساني” و “أبو حمّو موسى الثاني”
يقول ابن خميس، مادحاً “أبا الفضل ابن يحيى” بقصيدة تحمل نفحات صوفية:
عجباً ! أيــذوقُ طـعْــم وِصالهَا * مَنْ ليس يأملُ أنْ يمُرّ ببَالها ؟
و أنــا الـفـقـيـرُ إلـى تعِلّة ساعةٍ * مــنْهـا و تمْنعُنِي زَكاة جمالها
كـمْ ذادَ عن عيْني الكرَى مُتألقٌ * يبْدو و يَـخْفى في خَفيّ ِمطالها
يـسْمـو لـه بدْرُ الدُّجَى مُتضائلاً * كـتضاؤلِ الحسْناءِ في أسْمالِهَا
يعْتــادُني في النوْم طيفُ خيالها * فــتُـصـيُبنـي ألْحَــاظـها بِنِبَالِهَا
إلى أن يقول:
أنــا مِــنْ بـقـيةِ معشرٍ عرَكتْهُمْ * هـذي النّوى عَرْكَ الرّحى بِثفالِها
أكْـــرِمْ بـهــا فـئةً أُرِيقَ نَجيعُهَا * بَــغْـيا؛ فَـــرَاقَ العيْنَ حُسْنُ مآلها
حلّتْ ُمدامةُ وَصْلِها و حَلَتْ لهم * فــإنِ انْـتـشوْا فبــِحُلْوِهَا و حَلالهَا.
و القصيدة طويلة جدّاً و رَائقة…
قُتِل “ابنُ خميس” يوم عيد الفطر، إثر انقلاب حكومي، أوْدى بصديقه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم و رمي بباب الفخارين و كان ذلك سنة 708هـ / 1309م .
التصوّف: عرفت الجزائر التصوّف، زَمن الشيعة، العُبيْديين، لكنّ العلماء أنْكروا عليْهم تعاليمهم، و بقي التّصوّف ضعيفاً حتى جاءتِ الدّولةُ المُوَحّدية، و تغيّرَ الوَضْع…
من متصوفة الجزائر “أبو مدين بن شُعيْب بن الحسن الإشبيلي” الذي قرأ بالأندلس و فاس وأخذ التصوف عن “ابن يَعْزَى”، وتعرّف في عرَفة بالشيخ “عبد القادر الجلاني” الفارسي وأخذ عنه، واستوطن “بجاية” يُقرِئ رِسالة “القشيْري”. سُئل عمّا خصّهُ الله به فقال: «مقامي العبودية و علومي الألوهية و صفاتي مستمدة من الصفات الربانية. ملأتْ علومُه سِرّي وجَهْرٍي، و أضاء بنوره بَرّي و بَحْري…»
و منهم “عبد الحق بن سبعين”. قال “قطب الدين القسطلاني”: « ظهر في المائة السابعة من المفاسد العِظام ثلاث، مذهب ابنُ سبعين، و تمَلّكُ التّتر للْعِراق، و اسْتِعْمال الحشيشة »97
و منهم “عفيف الدين سلمان بن علي الكومي التلمساني” له ديوان شعْر فلْسَفي صُوفِي رَمْزي في حبّ الحقيقة و الجمَال و في وحْدة الوُجود.
و قريب من التصوف شعر المولديات… ومن النصوص التي تمثل هذا النوع، أشعار أبي حمو موسى الثاني، و مما إخترْتهُ قوله:
حـيــاتي و موتي في هواكــم و إنـني * أعــلـل نـفـســي فـيــكــم بــالأمــاني
لــقــد أقـعـدتـنـي عـن حـمـالـكم قلائد * و لـيـس عـنـاني عـن هـواكم بمثني
فـيــا أهــل نجد أنجدوني على الهوى * فــإنــي فـي بـحـر مـن الشـوق لجيّ
مـقيم بأقصى الغرب أشكو به الجوى * و حالي على حكم النوى غير مخفي
إلى قوله:
و مـــا أرتـجي إلاّ شفاعة خير منْ * أتــى بـالـهدى يـهـدي بـدين حنيفي
به يرتجي العاصون غفران ذنبهم * و ما عملوا في الدهر من عمل سيّ
فـمـولـده قــد أشــرق الـــكون كله * وكـلّ سـنـا شـمس و بــدر ودُري98
يبْدأ تارِيخ الحُكْم بِـ: أبي يحيى يغمراسن بن زيان سنة 633هـ / 1236م، و ينْتهي بـ: الحسن بن عبد الله الثاني سنة 957هـ / 1550م.
عاشت هذه الدولة تحت حكم السلطان الملقب بأمير المسلمين، و « ولايته تكون بالعهد من الملك السابق و قد تكون بالغلبة و القهر و السطوة و العصبية، و لم يثبت عن ملوك هذه الدولة دعوى الخلافة إلاّ في أيام قلائل، دعت إليها الظروف و حملتهم عليها تقلبات سياسية.»95.
نشأت خلافات واسعة بين الزيانيين و الحفصيين و المرينيين، ترْجع كلها إلى حُبّ الرئاسة والإستئثار بالنّفوذ في هذا المغرِب الكبير… « فكانتِ الرّزايا و الفجائِع و الآلام… و في هذا العهد أخذ الضّعف يسْري في عُروق القبيلة الجزائرية العتيدة “زناتة “… فابْتدرَها الهَرَمُ وحلّتْ محلّها الجاليات العربية المُهاجِرَة. »96
الحياة الثقافية:
أصبحت تلمسان على عهد بني زيان حاضرة الأدب و العلم و الفن… و ممن اشتهر بالفقه و العلوم الدينية: أبو زيد عبد الرحمن و أبو موسى عيسى اللذان تفقها على أصحاب “أبي عبد الله بن شعيب الدكالي”… و ممن اشتهر في المعقول والمنقول، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الشريف التلمساني و يُعرَفُ بـِ: “العلوِي”. كذلك برز في الأصول و الفقه والتفسير، أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن مرزوق الحفيد.
وفي الأدب… نستطيع التمثيل بِعَلميْن هُما: “ابن خميس التلمساني” و “أبو حمّو موسى الثاني”
يقول ابن خميس، مادحاً “أبا الفضل ابن يحيى” بقصيدة تحمل نفحات صوفية:
عجباً ! أيــذوقُ طـعْــم وِصالهَا * مَنْ ليس يأملُ أنْ يمُرّ ببَالها ؟
و أنــا الـفـقـيـرُ إلـى تعِلّة ساعةٍ * مــنْهـا و تمْنعُنِي زَكاة جمالها
كـمْ ذادَ عن عيْني الكرَى مُتألقٌ * يبْدو و يَـخْفى في خَفيّ ِمطالها
يـسْمـو لـه بدْرُ الدُّجَى مُتضائلاً * كـتضاؤلِ الحسْناءِ في أسْمالِهَا
يعْتــادُني في النوْم طيفُ خيالها * فــتُـصـيُبنـي ألْحَــاظـها بِنِبَالِهَا
إلى أن يقول:
أنــا مِــنْ بـقـيةِ معشرٍ عرَكتْهُمْ * هـذي النّوى عَرْكَ الرّحى بِثفالِها
أكْـــرِمْ بـهــا فـئةً أُرِيقَ نَجيعُهَا * بَــغْـيا؛ فَـــرَاقَ العيْنَ حُسْنُ مآلها
حلّتْ ُمدامةُ وَصْلِها و حَلَتْ لهم * فــإنِ انْـتـشوْا فبــِحُلْوِهَا و حَلالهَا.
و القصيدة طويلة جدّاً و رَائقة…
قُتِل “ابنُ خميس” يوم عيد الفطر، إثر انقلاب حكومي، أوْدى بصديقه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم و رمي بباب الفخارين و كان ذلك سنة 708هـ / 1309م .
التصوّف: عرفت الجزائر التصوّف، زَمن الشيعة، العُبيْديين، لكنّ العلماء أنْكروا عليْهم تعاليمهم، و بقي التّصوّف ضعيفاً حتى جاءتِ الدّولةُ المُوَحّدية، و تغيّرَ الوَضْع…
من متصوفة الجزائر “أبو مدين بن شُعيْب بن الحسن الإشبيلي” الذي قرأ بالأندلس و فاس وأخذ التصوف عن “ابن يَعْزَى”، وتعرّف في عرَفة بالشيخ “عبد القادر الجلاني” الفارسي وأخذ عنه، واستوطن “بجاية” يُقرِئ رِسالة “القشيْري”. سُئل عمّا خصّهُ الله به فقال: «مقامي العبودية و علومي الألوهية و صفاتي مستمدة من الصفات الربانية. ملأتْ علومُه سِرّي وجَهْرٍي، و أضاء بنوره بَرّي و بَحْري…»
و منهم “عبد الحق بن سبعين”. قال “قطب الدين القسطلاني”: « ظهر في المائة السابعة من المفاسد العِظام ثلاث، مذهب ابنُ سبعين، و تمَلّكُ التّتر للْعِراق، و اسْتِعْمال الحشيشة »97
و منهم “عفيف الدين سلمان بن علي الكومي التلمساني” له ديوان شعْر فلْسَفي صُوفِي رَمْزي في حبّ الحقيقة و الجمَال و في وحْدة الوُجود.
و قريب من التصوف شعر المولديات… ومن النصوص التي تمثل هذا النوع، أشعار أبي حمو موسى الثاني، و مما إخترْتهُ قوله:
حـيــاتي و موتي في هواكــم و إنـني * أعــلـل نـفـســي فـيــكــم بــالأمــاني
لــقــد أقـعـدتـنـي عـن حـمـالـكم قلائد * و لـيـس عـنـاني عـن هـواكم بمثني
فـيــا أهــل نجد أنجدوني على الهوى * فــإنــي فـي بـحـر مـن الشـوق لجيّ
مـقيم بأقصى الغرب أشكو به الجوى * و حالي على حكم النوى غير مخفي
إلى قوله:
و مـــا أرتـجي إلاّ شفاعة خير منْ * أتــى بـالـهدى يـهـدي بـدين حنيفي
به يرتجي العاصون غفران ذنبهم * و ما عملوا في الدهر من عمل سيّ
فـمـولـده قــد أشــرق الـــكون كله * وكـلّ سـنـا شـمس و بــدر ودُري98
*ناقدة أكاديمية وأستاذة جامعية جزائرية
*هذه دراسة بعنوان: محاضرات في الأدب الجزائري من التأسيس إلى التّحْدِيث ننشرها على حلقات، يمكنكم الاطلاع على الأجزاء السابقة بالبحث في الموقع باستعمال فقط عنوان الدراسة.