تشتهر البوذية بعقيدة “اللا-ذات” anātman. ولكن هل يعتقد البوذيون حقاً أنّنا لا نَملك ذاتاً؟ الإجابة نعم، أفلا يُعد ذلك جنوناً اذاً؟ لا، فهل يعنى ذلك أن لا أحدٌ منا بموجود؟ لا، ولكننا لا نوجد كذوات. والإعتقاد أنك توجد كذات هو مرضٌ، رغم كونه شائع، إلا أنّه خطير للغاية. ودعوني أقوم بتوضيح ذلك.
إنّ عقيدة اللا-ذات البوذية ليست إنكاراً عدمياً لحقيقتك، ولا لحقيقة أصدقائك وأقربائك، ولكنها عوضاً عن ذلك، نقطة تقع فى المنتصف بين هذا الإنكار العدمي، وبين إضفاء الطابع المادي على الوجود(التجسيد) الذي تعتقد به. وهذا التجسيد للوجود هو أمرٌ غريزى، ومن ثم يُشكل الأساس للعديد من الأديان والميتافيزيقا الباطلة، وكذلك لبعض الأفكار والسلوكيات الأخلاقية التي تُمثل مشاكل مختلفة، وهو الأمر الذى يؤدى بدوره إلى قدرٍ هائلٍ من المعاناة. وحيث أن البوذية معنيةٌ فى المقام الأول بالتحرير من المعاناة (يطلق البوذيون على هذا الأمر النيرفانا nirvāṇa)، وحيث أن الإعتقاد بوجود الذات يُُنظر إليه على أنه سببٌ للمعاناة، فإن اقتلاع هذا الإعتقاد من جذوره يُعد مشروعاً مركزياً للفلسفة البوذية.
دعونا نبدأ أولاً بالتعرف على الذات التى يتم إنكار وجودها. إنّها الذات التي ننظر إليها بشكلٍ غريزي على أنها جوهر وجودنا. إنها الشىء الذى يبقى كما هو طيلة حياتنا (وفي حياتنا الأخرى كذلك، اذا كنت تؤمن بهذه الأمور). وهى موضوع وموطن خبرتنا وتجاربنا، وأداة أفعالنا. المالكة لأجسادنا وعقولنا. الحاملة لسماتنا، وصفاتنا الأخلاقية، وهي المدلول النهائي لكلمة “أنا”.
ويدّعى البوذيون أنه لا يوجد هكذا شيء. وهذا الإنكار له بُعدان، البُعد التاريخى diachronic والبُعد التزامنيsynchronic. حيثُ أنّ البوذيين ينكرون أن أى شىء يستطيع الحفاظ على هويته على مر الزمان (وهذه هى العقيدة الكونية لعدم الثبات)، وأنه حتى في لحظةٍ ما من الزمن، فليس هناك وحدة منسجمة لما نحن عليه، ولا يوجد شىء بداخلنا يشير للذات كما نفهمها في المعتاد.
ودعونا نبدأ باستحالة احتفاظ شيء ما بهويته عبر الزمن، وهو البعد التاريخى diachronic. ولإيضاح هذه النقطة، فمن الهام أن نفرق بين الهوية الثابتة، وبين مجرد التشابه، فعندما نقول أن “أ” تتطابق بدقة مع “ب”، فنحن نقول أن “أ” و”ب” يتشاركان جميع الصفات، بحيث يكونان شيئاً واحداً تحت وصفين مختلفين ربما. لذا ، فعلى سبيل المثال، جلالة الملكة البريطانية، تتطابق مع أفضل مُربى مشهور للكلاب الويلزية قصيرة القامة Welsh Corgis بالمعنى الدقيق. فلا يمكنك مقابلة أحدهما دون الآخر، فهما الشىء ذاته، فليس الأمر مجرد تشابه بينهما، وفى كونهم يرتديان نفس القبعة. إنه شىءٌ واحدٌ تحت وصفين اثنين.
لكن جلالة الملكة والفتاة الصغيرة التى تم تنصيبها ملكة عام 1952 ليستا متطابقتان بدقة لبعضهما البعض. فهما يتشابهان فى بعض الجوانب، ويختلفان فى الكثير منها. فواحدة أكبر كثيراً من الأخرى، وواحدة متزوجة من فيليب والأخرى لا. وصحيح أننا نطلق عليهما الإسم ذاته، ولكن هذا بسبب علاقات التشابه، والاستمرارية العلّية، وليس بسبب الهوية الثابتة. فليس هناك هوية ثابتة مع مرور الزمن؛ حيث أنّ أى مرحلتين على نفس المتصل هما في أزمنةٍ مختلفة، هذا اذا لم يكونا شيئاً آخراً بالكلية، وبالتالي لا يتشاركان جميع الصفات، وبالتالي فليسا متطابقان. وحقيقة أنّنا نقوم بمعاملة الأشخاص على أنهم هم أنفسهم مع مرور الزمن هو خلطٌ للهوية مع التشابه والاستمرارية العليّة، وليس ادراكاً للواقع الفعلي كما هو عليه.
لكنّك ربما تقول حتى وإن لم يكن لدي هوية ثابتة ومحددة عبر الزمن، فلدىّ هوية الآن فى هذه اللحظة، هوية تزامنية synchronic، فهناك شىءٌ ما هو أنا، وهو شىءٌ مفردٌ واحد. غيرَ أنَ البوذيين ينكرون ذلك. فهم يدّعون أنّه رغم كونك تعتقد بوجود هوية واحدة لك، وإن كان حتى للحظاتٍ معدودة، فإنّ الأمر فى واقعه ليس سوى عمليات جسدية-نفسية مترابطة عليّاً وأحداث مرتبطة علياً بدورها بمجموعات مثلها لاحقة وسابقة. فهناك إدراكاتٌ حسّية، ومشاعر، وسماتٌ شخصية، وأجزاء جسدية، مثل اليدان، والقلب، لكن لا يوجد ذات. فهذه الأجزاء ليس لديها وحدة. فيمكنك إزالة بعضها وتظل أنت، ويمكنك استبدال بعضها وتظل أنت، ويمكنك إضافة بعضها وتظل أنت، واذا أزالتها واحدةً تلو الأخرى حتى لم يبقى شىء، فلن يكون هناك “أنت”.
أى أن هذا فى الأخير يعنى أنك لست متطابقاً مع هذه الأجزاء، ولا متمايزاً عنها كذلك. كما أنك لست المالك أو المستحوذ عليهم، ولا شيئاً معتمداً عليهم. أنت فى الواقع خيالٌ خُلق بواسطتك أنت ومن حولك. فأنت تتخيل نفسك بأنك لست جسداً، ولكنك تمتلك جسداً، وأنك لست عقلاً، بل تمتلك عقلاً، وأنك لست تجارب وخبرات، بل تمتلك تجارب وخبرات، أى أنك تتخيل أن نفسك وذاتك هى شيءٌ بسيطٌ يقبع خلف ذلك كله.
لكنك تحتج قائلاً بأنّه لم يكن لديك أبداً مثل هذه الفكرة السخيفة. فمن ذا الذى يعتقد أنه شىءٌ آخر غير مجموعة من العمليات النفسية والجسدية؟ والإجابة، كما يقول البوذي، هي أنت. وها هي طريقة سهلة لتقنع نفسك أنك تخضع لغريزة تجسيد/تشيؤ الذات، حتى رغم إدراكك أنّه خطأٌٌ ميتافيزيقي. لتفكر الآن فى جسد أحد الأشخاص الذى تود أن تمتلك مثله لأي سببٍ كان. فأنا على سبيل المثال دائماً ما أردت أن أحظى بجسدٍ مثل جسد العدّاء الجامايكى يوسين بولت فى ذروة أداءه لمدة تقارب التسع ثوانى ونصف، فقط لأعرف كيف سيكون شعوري وأنا أركض بهذه السرعة المذهلة. أما أنت على الأرجح فلديك رغبات أخرى.
وعلى أية حال، فأنا لا أريد أن أصبح يوسين بولت، فهذا ليس من شأنه أن ينجح، فهناك بالفعل يوسين بولت. لكننى أريد أن أكون أنا بجسد يوسين بولت. وهذا يوضح أنّني لا أعتبر نفسى جسداً، وإنما مالك ومستحوذ على هذا الجسد، لأنّه يمكننى أن أتخيل كوني بجسدٍ آخر (سواءاً بشكلٍ مترابطٍ أم لا).
لكن ماذا بشأن عقلى؟ الأمر ذاته ينطبق كذلك على العقل. فلتتخيل مثلاً شخصاً ما، تود أن تحظى بعقله لبعض الوقت. أنا مثلاً سأود امتلاك عقل ستيفن هوكينغ، فقط للقليل من الوقت، بحيث يمكننى فهم النظرية النسبية العامة وميكانيكا الكم، سيكون الأمر رائعاً. ومجدداً، أنا لا أوّد أن أكون ستيفن هوكينغ، فهو بالفعل ستيفن هوكينغ، كما أن هذا الأمر ليس من شأنه أن ينجح، ولكننى أريد أن أكون أنا بعقله هو. وهذا يوضح (سواءاً كان بشكلٍ مترابطٍ أم لا) أننى لا أعتبر ذاتي هى عقلى؛ ولكن مالكة لهذا العقل ومستحوذة عليه، الأمر الذي يعني أنه يمكن أن تكون نفس الذات مع عقلٍ آخر. (وبالمناسبة، يمكننى أن أرغب فى امتلاك جسد يوسين بولت، وعقل ستيفن هوكينغ، لأرى كيف سيكون شعورى بأن أفهم ميكانيكا الكم بينما أركض مائة متر فى أقل من عشر ثوانٍ.)
وهذه الذات، التى تمتلك الجسد والعقل ولكن لا تتطابق معهم، والتى هي موطن الخبرات والتجارب، وأداة الأفعال، هي الذات التى ننظر إليها بشكل غريزي على أنها نحن، وهى أيضاً التي يجادل الفلاسفة البوذيون بأنّها غير موجودة. فإذا نزعت الجسد والعقل، لن يبقى شيء. لذا، فحتى عند لحظةٍ ما من الزمن، فأنا لست ذاتاً.
هل هذا يعنى اذاً أنّنى لاشىء؟ لا على الإطلاق. وهنا تمييزٌ آخر هام يساعد على فهم الأمر؛ أى التمييز بين الذات والشخص. فلقد رأينا ما يفترض أن تكون عليه الذات، وهى الشىء البسيط المستمر، الذي يتم تعريفه بكلمة أنا. لكن الشخص هو شىءٌ من نوعٍ آخر، فهو متصلٌ من العمليات الجسدية-النفسية المترابطة عليّاً، يلعب دوراً ما فى العالم. وفى الواقع، إن كلمة شخص person، فى الانجليزية، توضح هذا بشكلٍ تام، فالكلمة مأخوذة من كلمة persona، أى القناع، أو الدور الروائي أو المسرحي.
فالذوات، اذا كانت توجد، فستكون كيانات ذات حقيقة ميتافيزيقية. أمّا الأشخاص فيتم تشكيلهم، أو تحديدهم بواسطة عملياتنا النفسية والاجتماعية، ويعكسون الدور الذي نقوم به لبعضنا لبعض كأفراد فى عالمٍ نكوّنه معاً، عالمٌ يُنشأ فى تجاربنا وأفعالنا المشتركة كاستجابة لطبيعتنا النفسية، والإدراكية، والإجتماعية. فالأشخاص بطبيعتهم معقدون، ومعتمدون على بعضهم البعض، وفانون، ويتيغيرون دائماً، ومتشابكون عليّاً مع بيئاتهم. فنحن أشخاص نعتبر أنفسنا ذوات، وهذا هو التشخيص البوذي لجذور مشاكلنا النفسية. وحل هذه المشاكل يكمن، وفقاً لهذه النظرة، في التوقف عن هذا التجسيد/ التشيؤ للذات.
ما الخطأ اذاً فى مفهوم الذات؟ حسناً، إنّه يخلق نسخة مشوهة من الواقع، يتمركز كلٌ منّا فيها بذاته بمركز الكون، وكل شيء آخر يحتشد حولنا كمجموعة من الأشياء التي تخصنا. وهذا يؤدى بدوره إلى الأنانية، وهى رؤية معقولة للتصرف وفقاً لمصالحنا الخاصة، وللقلق حول حماية سلامة وصحة ذواتنا. وكل ذلك يؤدى إلى الطمع، والغضب، والخوف، والصراع، وعدم السعادة بشكل عام.
أما عن كيفية عمل كل ذلك، فهذه قصةٌ طويلة -طويلة بشكل لا يمكن تلخيصه هنا- وهو أمر تتحمل النظرية الأخلاقية البوذية وعلم النفس الأخلاقى عبء إيضاحه. غيرَ أنّ الفكرة العامة هى كالآتى: بمجرد أن اعتبر نفسى ذلك الكيان الخاص، فتكون لدي علاقة بهذا الكيان ليست مع أي شيء آخر، لذا فسيبدو أمراً معقولاً أن أعطيه أولوية خاصة، وينطبق الأمر نفسه مع كل شخص وذاته. ومن ثم نحصل على هذا التنافس الجنوني بين مصالح الكائنات المختلفة التى فى واقع الأمر تتشابك وتتداخل وتعتمد على بعضها البعض.
بينما وعلى العكس من ذلك، عندما نشعر بأنفسنا كأشخاص بلا مركزية ذاتية، فنشعر عندها بأنفسنا على أننا جزء من شبكة أكبر تجمعنا بالآخرين، نشاركهم مصالحهم، وسعادتهم وآلامهم كذلك. ويتيح لنا هذا غرس مجموعة من الفضائل تُعرف في الفكر البوذي بالحالات السامية brahmavihāras، وهي حب الخير، والرعاية، والفرح المتعاطف، والاتزان الوجدانى.
وكل منها يُفهم على أنه اهتمام منفصل بالآخرين وليس برغباتنا ومصالحنا، ولكن بمصالحهم ورغباتهم هم كموضوع لحالتنا. لذا فالحب الغرامي مختلفٌ عن حب الخير؛ حيثُ أننى أتمنى الخير لمحبوبتى بسبب حبي لها، بينما فى حب الخير، أفعل ذلك لأنها تستحق السعادة، والفرح التعاطفى مختلفٌ عن الفرح المشترك، لأننى أبتهج فى سعادتها، وليس فى السعادة التى تحدث لي. وهذه هى الرؤية البوذية للالتزام الأخلاقي العقلاني المتأصلة فى نُكران الذات.
لذا، فدعوني أختم قائلاً أن عقيدة اللا-ذات البوذية ليست تصوفاً غريباً ولا عدمية نكراء، إنها أمرٌ عقلانيٌ. إنها لا تقوض القدرة ولا الأخلاق؛ بل توضح لمَ أن القدرة والأخلاق هى أمور ممكنة. فلا يجب أن تثير اليأس اذاً؛ بل أن تعزز الثقة.