تذكر كتب التراث
قصة عن ابن سينا الطبيب العربي الكبير مع مريض
مرضا عقليا
؛ حيث يصر المريض و يتوهم أنه بقرة ، ويطلب من أهله بإلحاح أن يذبحوه ؛ ومع رفضهم لطلبه ساءت حالته
و وضعف بدنه ،
فتم استدعاء ابن سينا المعروف بخبرته و حنكته ليهتم بأمره ويعالج سقمه
. تعرف الطبيب على حالته ، فاضطر إلى حمل سكين معه ، ثم أمر بربطه و طرحه على الأرض لتتم عملية الذبح ؛ غير أن ابن
سينا قبل أن يهم بذلك ، حاول أن يتلمس
أعضاء جسم المصاب و يجس عضلاته جسا دقيقا ،
ليلتفت إلى أهل المريض بعد ذلك فيخبرهم بصوت
مرتفع : "إن هذه البقرة ضعيفة جدا،
ويجب تسمينها قبل ذبحها ! قدموا لها الطعام
المناسب !" ؛ تأثر المريض بكلامه فبدأ يأكل بنهم ليسمن ، و ابن سينا يتعهده
بالدواء حتى تقوى
ثم شفي من وهمه و عاد إلى صوابه . كيف لا ! و أمير الأطباء من الأوائل الذين اهتموا بالأمراض النفسية و بعلاجها ؛إنه يعتبر
بحق من الرجال العظام الذين اهتدوا إلى وجود أمراض جسدية ترجع أسبابها إلى
عوامل و أزمات نفسية ،وليس فقط كما كان معروفا من قبل عن تأثير الأمراض الجسدية و الجسمية على
الأمزجة النفسية.
على كل حال ، لا يهم إن كان التحليل النفسي
المعاصر يتفق مع محاولة ابن سينا في هذه الكيفية
من علاج المريض ، مادمنا نتحدث عن تجارب
القرن العاشر ميلادي ،فلا يمكن بأي حال من
الأحوال أن نبخس من عظمة هذا الطبيب إذا ما تذكرنا مكانته العلمية و
غزارة مؤلفاته؛ فيكفي أن نشير فقط إلى
كتابه العظيم " القانون في الطب
" و أثره القوي على امتداد قرون في أوروبا المسيحية . إنه من الممكن جدا أن نعثر على طرق أخرى أكثر
علمية و جدوى، كأن يواجه الطبيب مريضه و يحاول إقناعه مثلا بأن ما اعتراه
ليس إلا اضطرابا أو خللا نفسيا و
بالتالي تبقى مهمة المعالِج مساعدته على
الإفصاح على مشكلاته النفسية ليتم
استعادة الثقة التامة في نفسه .
هكذا
من خلال ما سبق، يمكن القول أنه على الأقل توجد طريقتين في العلاج النفسي : الأولى
تقوم على إمكانية مسايرة المريض في وهمه ومصيبته
حتى يتم أخذ الوقت الكافي تدريجيا لمعالجته ، و الثانية تكون بمصارحته مباشرة بما لحق به و مواجهته بالحقيقة التي يرفضها . بمعنى آخر
هناك أسلوبين في العلاج :أسلوب المداهنة و أسلوب المواجهة .
تلكم إذن طريقتين مختلفتين في التعامل مع الأزمات
النفسية ؛ غير أننا بالإمكان أن نحاول تعميمهما
خارج هذا النطاق ، لنجد أنفسنا
أمام أسلوبين ليسا فقط صالحين
لمعالجة الأمراض النفسية كما هو الأمر
سابقا ، بل يمكن ملاحظة هذه الثنائية على مستويات أخرى من
حياتنا الاجتماعية و السياسية.
فعلى
المستوى السياسي ، هناك بعض الحركات
الإصلاحية في نضالها التغييري تحاول أن تتجنب كل صدام مباشر مع من يملك زمام
الأمور في الدولة ، تؤمن بنوع من المرونة السياسية في حل الازمات الاقتصادية و
الاجتماعية و الحقوقية ، دون الدخول في أي صراع مباشر مع تلك القوة الحاكمة ، و حتى لا
تحرج الدولة احراجا إحراجها فهي لا تواجهها بربط مسؤوليتها المباشرة على تفاقم الأزمة
الداخلية و الأوضاع المزرية ؛ وكأن مثل هذه الحركات و التوجهات تساير نفس الوهم الذي تؤمن به الدولة في معاينة مشاريعها و أفكارها التنموية ، لكن
دون أن تتطبع مع فسادها ، لأنها تحمل نظرة
إصلاحية تشاركية بعيدة المدى . أما من
ناحية ثانية ، فقد نجد توجهات و كتل سياسية
أخرى لا تؤمن بتاتا بالمداهنة و المشاركة
كسبيل للتغيير و الإصلاح ؛ هذه النزعة الثانية بدل أن تساير السلطة في سياستها و مشاريعها ، تعمل جاهدة على إيقاظ الرعية من الوهم الذي
دأبت الدولة أن تصنعه في محكوميها بغية الاستمرار في التحكم و الاستغلال ؛ إنها
تؤمن بالمواجهة المباشرة و الكشف عن حقيقة النظام من دون مداهنة أو مغازلة . طبعا ،لا
يهمنا أي الأسلوبين أنجع في ممارسة التغيير و الإصلاح ، دون استحضار الشروط
الموضوعية و الواقعية لكل تجربة من
التجارب السياسية، و كذا الشروط الداخلية
و الخارجية التي تؤثث سيناريو الواقع السياسي ، فقط ما يهمنا هو وجود أسلوبين مهمين على الأقل ، أحدهما يتميز
بالمداهنة و الآخر بالمواجهة في معالجة
الأزمات السياسية وليس فقط كما
رأينا سابقا في تشخيص الأزمات النفسية .
من خارج سرب السياسة يمكن تتبع ملامح هذه
الثنائية كأسلوب للتعاطي مع مختلف الأزمات ، فيمكن ملاحظة ذلك على مستوى الشأن الأسري ؛ ويظهر ذلك جليا
في تعامل الأبوين مع بعض أخطاء أبنائهم في محاولة منهما تصحيح بعض التصرفات المشينة ، فأحيانا يتم اللجوء إلى طريقة التدريج في تحسين سلوك الولد؛ و
أحيانا أخرى ، تتم الاستعانة بأسلوب المواجهة
المباشرة إن اقتضى الأمر ذلك ؛ كما يمكن أن يتجلى هذان الأسلوبان داخل أسوار العلاقات الزوجية؛ و مما يروى بهذه
المناسبة حكاية طريفة و قريبة لما نتحدث عنه ، أن رجلا كان يُديم الثناء على زوجته و لا ينتقص من شأنها أبدا ، على الرغم من أن
بعض المواقف قد لا تستحق ذلك ؛ و استمر على هذا المنوال حتى أن قام بأول زيارة له
إلى الحج ؛ وبعد عودته من مراسيم الزيارة
،لم تسمع الزوجة من حينها و لو مرة واحدة من
كل ذلك الثناء الطيب والكلام المعسول الذي
كانت تعتاده كل لحظة قبل زيارته إلى الحج ؛ و بعد ما زاد شكها في أمر
زوجها سألته ذات مرة بإلحاح عن سبب تحوله ،
ليخبرها بصراحة ، أنه لم يعد يكذب كما كان يفعل قبل حج البيت ، فيوهمها بحسنها و
جمالها و لباقتها ! لربما في هذه القصة تظهر
ملامح الطريقتين قبل الحج( المداهنة) و بعد الحج ( المواجهة).
من الممكن أن نتخيل إمكانية تحقق أسلوبي
المداهنة و المواجهة في كثير من مواقع حياتنا ؛ لكن الجدير جدا الرجوع إلى طبيبنا
ابن سينا لاستلهام قاعدة مهمة في فلسفة الطب عنده ، لتكتمل لدينا رؤيته الفريدة في علاج مرضاه ؛حيث تواتر عنه أنه قال : " الطبيب و المريض و المرض ثلاثة ، فمتى
كان المريض يقبل من الطبيب ما يصف له و
يتوقى ما ينهاه عنه ، كان الطبيب و المريض محاربين للمرض ، واثنان على واحد
يغلبانه و يهزمانه . و إن كان المريض لا يقبل من الطبيب ما يصفه له و يتبع شهواته
، كان المرض و المريض محاربين للطبيب ، و واحد لا يقوى على محاربة اثنين ". من هذه
القاعد الطبية الرياضية ، يمكن التأكيد على أهمية
توافر إرادة مشتركة وتفاهم بين الأطراف المعنية لحل مختلف الأزمات بفاعلية
و إيجابية أكثر. فكما أن التوافق بين الطبيب و المريض يهزم المرض ، كذلك التوافق
بين السلطة و الرعية يهزم المعضلات التي تعاني منها الدولة ، وكذلك التفاهم بين
الآباء و الأولاد يزيل كثيرا من الصعوبات التي تعتري حياتهم الاجتماعية ،و نفس ما
يقال عن العلاقات الزوجية ؛ هذا على الأقل بالنسبة للعقول التي تؤمن بالمرونة و
المداهنة في تسيير شؤونها ، أما التي لا تؤمن إلا بأسلوب المواجهة فهي عموما ليست
معنية بمنطق التوافق .