-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

حياتنا بين المداهنة و المواجهة ... بقلم : عبدالكريم بولعيون


 تذكر كتب التراث قصة عن ابن سينا الطبيب العربي الكبير مع مريض مرضا عقليا ؛  حيث يصر المريض  و يتوهم أنه بقرة ، ويطلب من أهله  بإلحاح أن يذبحوه ؛ ومع رفضهم لطلبه ساءت حالته و وضعف بدنه ، 
فتم استدعاء ابن سينا  المعروف بخبرته و حنكته ليهتم بأمره ويعالج سقمه . تعرف الطبيب على حالته ، فاضطر إلى حمل  سكين معه ،  ثم أمر بربطه  و طرحه على الأرض لتتم عملية الذبح ؛ غير أن ابن سينا قبل أن يهم بذلك ، حاول  أن يتلمس أعضاء جسم المصاب  و يجس عضلاته جسا دقيقا ،  ليلتفت إلى أهل المريض بعد ذلك فيخبرهم بصوت مرتفع  : "إن هذه البقرة ضعيفة جدا، ويجب تسمينها قبل ذبحها ! قدموا لها الطعام  المناسب !" ؛ تأثر المريض بكلامه فبدأ يأكل بنهم ليسمن ، و ابن سينا يتعهده بالدواء   حتى تقوى  ثم شفي من وهمه و عاد إلى صوابه . كيف لا ! و أمير الأطباء من الأوائل  الذين اهتموا بالأمراض النفسية و بعلاجها ؛إنه يعتبر بحق من الرجال  العظام الذين  اهتدوا إلى وجود أمراض جسدية ترجع أسبابها إلى عوامل و أزمات  نفسية ،وليس فقط  كما كان معروفا من قبل عن تأثير الأمراض الجسدية  و الجسمية على  الأمزجة النفسية.
      على كل حال ، لا يهم إن كان التحليل النفسي المعاصر يتفق مع محاولة ابن سينا في هذه  الكيفية  من علاج المريض ، مادمنا نتحدث عن تجارب القرن العاشر ميلادي ،فلا يمكن بأي حال  من الأحوال  أن نبخس من عظمة  هذا الطبيب إذا ما تذكرنا مكانته العلمية و غزارة مؤلفاته؛ فيكفي أن نشير فقط  إلى كتابه العظيم  " القانون في الطب " و أثره القوي على امتداد قرون في أوروبا المسيحية . إنه من الممكن جدا  أن نعثر على طرق  أخرى  أكثر علمية و جدوى،  كأن  يواجه الطبيب مريضه و يحاول إقناعه مثلا  بأن ما اعتراه  ليس  إلا اضطرابا أو خللا نفسيا و بالتالي تبقى مهمة المعالِج مساعدته على  الإفصاح على مشكلاته النفسية  ليتم استعادة الثقة التامة  في نفسه . 
       هكذا من خلال ما سبق، يمكن القول أنه على الأقل توجد طريقتين في العلاج النفسي : الأولى تقوم  على إمكانية مسايرة المريض في وهمه ومصيبته حتى يتم أخذ الوقت الكافي تدريجيا  لمعالجته ، و الثانية تكون بمصارحته  مباشرة بما لحق به  و مواجهته بالحقيقة التي يرفضها .  بمعنى آخر  هناك أسلوبين في العلاج  :أسلوب المداهنة و أسلوب المواجهة .
 تلكم إذن طريقتين مختلفتين في التعامل مع الأزمات النفسية ؛ غير أننا بالإمكان أن نحاول تعميمهما  خارج هذا النطاق ، لنجد  أنفسنا  أمام أسلوبين  ليسا فقط صالحين لمعالجة  الأمراض النفسية كما هو الأمر سابقا  ، بل  يمكن ملاحظة هذه الثنائية على مستويات أخرى من حياتنا الاجتماعية و السياسية.
       فعلى المستوى السياسي ، هناك  بعض الحركات الإصلاحية في نضالها التغييري   تحاول أن تتجنب كل صدام مباشر مع من يملك زمام الأمور في الدولة ، تؤمن بنوع من المرونة السياسية في حل الازمات الاقتصادية و الاجتماعية و الحقوقية ، دون الدخول في أي  صراع مباشر مع تلك القوة الحاكمة ، و حتى لا تحرج الدولة احراجا إحراجها فهي لا تواجهها بربط مسؤوليتها المباشرة على تفاقم الأزمة الداخلية و الأوضاع المزرية  ؛ وكأن  مثل هذه الحركات  و التوجهات  تساير نفس الوهم  الذي تؤمن به الدولة  في معاينة مشاريعها و أفكارها التنموية ، لكن دون أن تتطبع  مع فسادها ، لأنها تحمل نظرة إصلاحية تشاركية  بعيدة المدى . أما من ناحية ثانية ، فقد نجد توجهات  و كتل سياسية أخرى لا تؤمن  بتاتا بالمداهنة و المشاركة كسبيل للتغيير و الإصلاح ؛ هذه النزعة الثانية  بدل أن تساير السلطة في سياستها  و مشاريعها  ، تعمل جاهدة على إيقاظ الرعية من الوهم الذي دأبت الدولة أن تصنعه في محكوميها بغية الاستمرار في التحكم و الاستغلال ؛ إنها تؤمن بالمواجهة المباشرة و الكشف عن حقيقة النظام من دون مداهنة أو مغازلة . طبعا ،لا يهمنا أي الأسلوبين أنجع في ممارسة  التغيير و الإصلاح ، دون استحضار الشروط الموضوعية و الواقعية  لكل تجربة من التجارب السياسية، و كذا  الشروط الداخلية و الخارجية التي تؤثث سيناريو الواقع السياسي ، فقط  ما يهمنا هو  وجود أسلوبين مهمين على الأقل ، أحدهما يتميز بالمداهنة و الآخر بالمواجهة في معالجة  الأزمات السياسية   وليس فقط كما رأينا سابقا في  تشخيص الأزمات النفسية .
       من خارج سرب السياسة يمكن تتبع ملامح هذه الثنائية كأسلوب للتعاطي مع مختلف الأزمات ، فيمكن  ملاحظة ذلك على مستوى الشأن الأسري ؛ ويظهر ذلك جليا في تعامل الأبوين مع بعض أخطاء أبنائهم في  محاولة منهما تصحيح بعض التصرفات المشينة  ، فأحيانا يتم اللجوء  إلى طريقة التدريج في تحسين سلوك الولد؛ و أحيانا أخرى ،  تتم الاستعانة بأسلوب المواجهة المباشرة إن اقتضى الأمر ذلك ؛ كما يمكن أن يتجلى هذان الأسلوبان  داخل أسوار العلاقات الزوجية؛ و مما يروى بهذه المناسبة حكاية طريفة و قريبة لما نتحدث عنه ، أن رجلا كان يُديم الثناء على زوجته  و لا ينتقص من شأنها أبدا ، على الرغم من أن بعض المواقف قد لا تستحق ذلك ؛ و استمر على هذا المنوال حتى أن قام بأول زيارة له إلى الحج ؛ وبعد عودته  من مراسيم الزيارة ،لم تسمع الزوجة  من حينها و لو مرة واحدة من كل ذلك الثناء الطيب والكلام المعسول  الذي  كانت تعتاده كل لحظة  قبل زيارته إلى الحج ؛ و بعد ما زاد شكها في أمر زوجها سألته  ذات مرة بإلحاح عن سبب تحوله ، ليخبرها بصراحة ، أنه لم يعد يكذب كما كان يفعل قبل حج البيت ، فيوهمها بحسنها و جمالها و لباقتها ! لربما في هذه القصة  تظهر ملامح الطريقتين قبل الحج( المداهنة) و بعد الحج ( المواجهة).
       من الممكن أن نتخيل إمكانية تحقق أسلوبي المداهنة و المواجهة في كثير من مواقع حياتنا ؛ لكن الجدير جدا الرجوع إلى طبيبنا ابن سينا لاستلهام قاعدة  مهمة  في فلسفة الطب عنده ، لتكتمل  لدينا رؤيته الفريدة في علاج مرضاه ؛حيث  تواتر عنه أنه قال  : " الطبيب و المريض و المرض ثلاثة ، فمتى كان المريض  يقبل من الطبيب ما يصف له و يتوقى ما ينهاه عنه ، كان الطبيب و المريض محاربين للمرض ، واثنان على واحد يغلبانه و يهزمانه . و إن كان المريض لا يقبل من الطبيب ما يصفه له و يتبع شهواته ، كان المرض و المريض محاربين للطبيب ، و واحد لا يقوى على محاربة اثنين ".   من هذه القاعد الطبية الرياضية ، يمكن التأكيد على أهمية  توافر إرادة مشتركة وتفاهم بين الأطراف المعنية لحل مختلف الأزمات بفاعلية و إيجابية أكثر. فكما أن التوافق بين الطبيب و المريض يهزم المرض ، كذلك التوافق بين السلطة و الرعية يهزم المعضلات التي تعاني منها الدولة ، وكذلك التفاهم بين الآباء و الأولاد يزيل كثيرا من الصعوبات التي تعتري حياتهم الاجتماعية ،و نفس ما يقال عن العلاقات الزوجية ؛ هذا على الأقل بالنسبة للعقول التي تؤمن بالمرونة و المداهنة في تسيير شؤونها ، أما التي لا تؤمن إلا بأسلوب المواجهة فهي عموما ليست معنية بمنطق التوافق  .

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا