شكّلت كرة القدم منذ أول تجمّع كروي عالمي
سنة 1930م بالأوروغواي، ميدانا خصباللتباري بين الفرق المشاركة؛ حيث تحاول كلّمجموعة
أن تبدي إمكاناتها الأدائية
ومدى استعدادها لتنفيذ الخطط الموضوعة من طرف الطاقم الفنّي
الذي يسهر على تدريب كلّ منتخب. ومع توالي السّنوات أصبحت كرة القدم اللّعبة الأولى
التي تتقاسمها ساكنة الكرة الأرضية فهي تملك مفعولا سحريا يفوق مفعول السياسة والاقتصاد؛
بل أصبحت محرّكا للكثير من الاقتصادات العالمية وميدانا خصبا للاستثمار والربح.سواء
تعلّق الأمر بانتقالات اللاعبين الموهوبين أو من خلال ما تدرّه عائدات الإشهاروحضور
الجمهور إلى مدرّجات الملاعب الرياضية، وكذا مداخيل النقل التلفزي للمباريات.
وبعيدا عن تقييم التنافس بين الفرق 32 التي شاركت فيمونديال روسيا
2018، وما خلّفته من مفاجآت كروية عجّلت بخروج مجموعة من الفرق الكلاسيكية التي عوّدتنا
على لعب أدوار طلائعية في مختلف اللقاءات الكروية العالمية السابقة؛ ودون أن نخوض في
مستوى كلّ منتخب وما رافقه من نقاش كروي مثقل بالتشجيع والانتقاد والطموح والرغبة في
بلوغمراحل متقدّمة. سأترك كل ذلك لأناقش جانبا آخر من المنافسة يتخطّى ما هو رياضي
إلى التنافس في عرض سلع ومنتوجات بعينها بغية تسويقها إلى أكبر شريحة من الأفراد والجماعات؛
خصوصا وأنّ عدد المتتبّعين لكرة القدميرتفع في المونديال بشكل مضاعف، كما أنّ طرق تتّبع
ومشاهدة تلك اللقاءات تجاوزت الطريقة الكلاسيكية المعتمدة على الإرسال التلفزي، إلى
وسائل جديدة شكّل فيها الهاتف المحمول والحاسوبواللوحة الإلكترونية (الطابليت)وسيطا
آخر يتميّز بسهولته الاتصالية التي تمكّن من الإبحار في مواقع متعدّدة في حيز زمني
قصير.
وهنا يرتسِم دور الإشهار باعتباره عملية
تواصلية تتغيّى التعريف تجاريا بسلعة أو خدمة معيّنة لدى الأفراد والجماعات؛وذلكبإثارة
حاستي السمع والبصر لديهم وتحفيزهم ذهنيا لاقتناء منتوج ما، أو الاقبال على استهلاك سلعة
بعينها، أو الترويج لخدمات مدفوعة تقدّمها شركات ومؤسّسات عمومية أو شبه عمومية
وفي مونديال روسيا وكغيره من التظاهرات
الكروية وظّف المنظمون اللوحات الإلكترونية التي تحيط برقعة المستطيل الأخضر لتمرير الإعلانات
(الإشهارات) التي يرغب أصحابها التفاعل مع المتلقّي في أضخم عرس رياضي عالمي ؛حيث تتوالى
مجموعة من العلامات المكتوبة بلغات متعدّدة، والتي تعزّز في بعض الأحيان بأيقونات تخصّ
تلك المادّة المٌشْهرَة.ولا تقتصر هذه الإشهارات على بلدان مخصوصة، بل نجد تعدّدا في
القوميات والانتماءات بين مختلف بلدان المعمور، ومنها بعض الدول العربية التي حاولت
الانفتاح على أكبر قدر من الأسواق العالمية.
فإشهار الميادين الكروية (Advertising fields)يخاطب حاسّة البصر ويسعى في الآن نفسه إلى خلق موقف جذب لدى المتلقي.وهذا
ما يذكي حالة التنافس بين شركات ومقاولات ومؤسسات تحاول تقديم نفسها كوجه اقتصادي جديد.
فالمنافسة تأخذ طابعا تجاريا يسعى إلى الانفتاح على أذواق متنوعة وأسواق محدثة تتجاوز
المحلي إلى العالمي. وهذه العملية التنافسية لا تستغل فقط زمن المواجهات الكروية،بل
يتخطّى ذلك إلى الإشهار الذي يذاع على شاشة التلفاز والذي يقدّم قبيل إجراء المباريات
أو بعدها أو بين الشوطين؛ وقد يتم تزامنا مع البرامج الرياضية التي تواكب مستجدات المونديال.
وهي عبارة عن وصلات إشهارية تأخذ طابعا مغايرا لما تقدّمه تلك اللوحات الإلكترونية
أثناء التباري الكروي؛ حيث نجد تداخل الكلام بالصورة للترويج لمضمون مادة ما وغالبا
ما تأخذ طابع المحلية.كما نجد الإشهار الذي يتم توصيلهعبر وسائط التواصل الاجتماعي
(يوتوب، فايسبوك، تويتر، انستغرام...)، وكذا المواقع الإخبارية؛ وهو إعلان يركن إلى
ما هو مكتوب وقد توّظِف الوصلة الاشهارية الصورة مدعومة بالكلام.
وقد يأخذ التنافس الإشهاري شكلا آخر؛ ذلكم
المتمثل في القميص الذي ارتضاه كلّ فريق مشارك في هذه التظاهرة العالمية، والذي تتكفّل
شركات بعينها حياكته بطريقة تجمع بين الجمالية والجودة والدقّة في النسج.
وإلى جانب التنافس الإشهاري؛ نجد معطى آخر
يتمثل في الاستعراض؛ وقد حصرته أوّلا في الاستعراض الجسدي(Physical review)؛ حيث يحاول بعض اللاعبين إظهار ما يختزنونه من
تناسق عضلي وجاذبية جسدية؛ كما هو الشأن بالنسبة للاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو (Cristiano Ronaldo) الذي عمد إلى رفع طقمه (شورت) في المباراة التي جمعت فريقه بمنتخب
الأوروغواي كاشفا عن فخديه لمرتين، وذلك قبل تنفيذه لضربة حرة؛ وهذا ما أثار ردود أفعال
متباينة بين المشاهدين في مختلف وسائط التواصل الاجتماعي.
اللاعب السويسري شيردان شاكيري)(Xherdan Shaqiriحاول بعث رسائل مشفّرة بعد تسجيله هدف الفوز في المقابلة التي جمعت فريقه
السويسري بنظيره الصربي عن الجولة الثانية من المجموعة الخامسة؛ وذلك بعد خلع قميصه
مبرزا عضلاته المفتولة وما يكتنزه من قوّة جسمانية. وهي استعراضات بوضعية خاصّةتحمل
أكثر من دلالة؛ فهي توحي بلسان أصحابها قائلة؛ أنا موجود، أنا حاضر، أنا قوّي؛فاحذروني.
التنافس الاستعراضي لا يقتصر فقط على اللاعبين،
بل يتجاوز ذلك إلى جمهور المنتخبات المشاركة،إذ قدّموا لوحات استعراضية و فنيّة داخل
المدرّجات و خارجها؛ وذلك بارتداء زي مشترك غالبا ما يرمز لقميص منتخبهم، وفي ذلك شعور
بالانتماء للجماعة والوحدة الوطنية؛ التي يكبر مداها عند ترديد كلمات النشيد الوطني
لكل بلد؛وكذا فيتكرار أهازيج ومقتطفات من الأغانيالوطنية والشعبية لتلك الدول؛ محاولين
التعريف بثقافتهم الغنائية وكذا بتراثهم اللاّمادي؛ من ذلك ما قدّمه جمهور البرازيل
والأرجنتين والمغرب والأوروغواي ....الخ في شوارع روسيا. ولم يقتصر الأمر على ذلك بلأطلق
مجموعة من المشجعين المغاربة سمّيت بـ(people
khawa)ـ مبادرة تسعى إلى توثيق أكبر عناق لدى
مشجعين ينتمون لجنسيات متباينة بالساحة الحمراء بموسكو؛ وكان هدفهم تدعيم قيم التسامح
والإخاء بين الشعوب ، وبهذه المبادرة تمكّنت المجموعة من دخول موسوعة غينيتس للأرقام
القياسية.
تنافس آخر بلغة الموسيقى؛ حيث أبدع مجموعة
من المغنّين في أداء العديد من الأغاني الداعمة لمنتخباتهم، وبالإضافة إلى هدفها التشجيعي النبيل
؛ فهي لا تخلو من الرغبة في حصد أكبر عدد من المشاهدات في وسائل التواصل الاجتماعي،
وكذا الرغبة في مقارعة فنّانين نحو نفس المنحى الرغبة في إظهار القدرات والمهارات تجاوزت
ذلك إلى مرام تنافسي آخر، حيث التجأ العديد من الأشخاص إلى الاستعانة ببعض الحيوانات
بدءا من (القط أخيل) وهي طريقة استباقية تهدف إلى توقّع نتيجة المباريات قبل خوضها؛
وهذاما أسال لعاب العديد من الأشخاص الآخرين في مختلف ربوع المعمور لخوض نفس التجربة
بالاستعانة بحيوانات أخرى( النسر، العصفور...)، وهي عملية تقوم علىحثّهذه الحيوانات
على اختيار أحد الأيقونات أو الأعلام الموضوعة لكل فريق؛ ورغم أنّبعض الأشخاص الذين
يوظّفون تلك الحيوانات أقرّوا على أنّ الهدف منها هو خلق جو من البسط والمرح لدى المشاهدين؛
إلاّ أنّ ذلك لم يُفرغ تلك العملية من تنافسية كبيرةبين القائمين وراءها؛يظهر ذلك جليّا
في نسب المشاهدات التي حصدتها الفيديوهات المبثوثة وكذا التشويق والتفاعل الذي خلّفته
بين مرتادي شبكة النت، إضافة إلى الاهتمام الذي لقيته من طرف بعض وسائل الإعلام المكتوبة
والمسموعة والمرئية.
هكذا يتضح، أن المونديال الكروي الذي احتضنته
روسيا، غدا سوقا رائجة للتنافس بين الماركات العالمية وكذا الخدمات المدفوعة التي تنافست
على بعد أمتار قليلة من العشب الأخضر؛ حيث احتدّت منافستين الأولى رياضية محدودة الزمن
والمكان، والثانية تجارية تتجاوز ذلك الآفاق إلى محاولة إثارة فضول المشاهدين لاكتشاف
عالمها المليء بالخبايا والأسرار والتنافس الذي يطول عمره أو يقصر بعد نهاية كل مونديال.