البيت داخل البيت!”؛ كل ما سبق من عبارات ركيكة، تصفُ الشيءَ مرتين، وهذا غير مقبول في اللغة. فما معنى أن أكرر أن الغرفةَ "داخل البيت"، بعدما ذكرتُ أنها: “غرفةُ البيت"؟! لهذا أعتذرُ عن عنوان المقال؛ فهو غير موجّه للعارفين بشؤون اللغة وأمور التاريخ، بل موجّهٌ للشباب الذي لا يعرفُ أن هناك مواطنين مصريين أصلاء، يعتنقون اليهودية، وليس لهم أية علاقة بدولة إسرائيل، اللهم إلا علاقة الإنكار، كما علاقتنا جميعًا كمصريين مع الكيان الصهيوني المحتلّ. بل إن يهودَ مصر دفعوا الفاتورة الأخسر بسبب نشوء دولة إسرائيل، حيث لوحقوا وطُردوا من وطنهم، وهُجِّروا قسرًا من ديارهم، وأُحرقت مؤسساتُهم ومصانعُهم وذاقوا صنوفَ الويل، حتى أوشكوا على الفناء التام من أرض مصر. العنوان الركيك صياغيًّا موجّه للذين لا يعرفون أن العقيدة لا تتقاطع مع الهوية والجنسية، وأن عقيدة المواطن لا تنتقص من حقوق المواطَنة.
وهنا، يجبُ أن أطرح معلومة سياسية بسيطة لمن لا يعرفها. يكتسب الإنسانُ حقَّ المواطنة في دولة ما، وفقًا لأحد القوانين التالية: 1- قانون الأرض: الذي يمنح الفردَ الجنسيةَ، بموجب أرض ولادته، دون النظر إلى جنسية والديه. 2- قانون الدم: الذي يمنحُ الفردَ جنسية والده لحظة الميلاد. 3- قانون الهجرة: بموجبه يحصل الفردُ على جنسية الدولة التي هاجر إليها؛ إذا توافرت لديه شروط الهجرة ووافقت الدولة المانحة. 4- قانون حقّ العودة: وهو ينطبق على كل يهودي فوق ظهر هذا الكوكب، مهما كانت جنسيته أو البلد التي ولد بها. بموجبه يحقّ لليهودي الحصول على الباسبور الإسرائلي بمجرد دخول أرض فلسطين المحتلّة. وهنا علينا التفكير قليلا. أولئك اليهود المصريون المقيمون اليوم بيننا على أرض مصر، ولا يمتلكون إلا الجنسية المصرية، لماذا ضحّوا بالحصول على الجنسية الإسرائيلية التي تمنحهم مزايا لا حصر لها، وفضّلوا البقاء في مصر؟ لا تحتاج الإجابةُ ذكاءً ولا تأويلًا. لأنهم مصريون خُلصاء يعتنقون مصريتهم مثلما يعتنقون عقيدتهم. تلك هي الفكرة التي يدور حولها مقالي: شرفُ الانتماء إلى مصر، وهو المفهومُ الأوحد للوطنية عندي.
في منتصف أربعينيات القرن الماضي، ترأّس د. طه حسين مجلة أدبية رفيعة المستوى اسمها "الكاتب المصري"، انشغلت بترقية القارئ العربي أدبيًّا وفلسفيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا. مَن الذي أسّس تلك المجلة وموّلها؟ سبعةٌ من يهود مصر. ومثلما نهضوا بمصر في الحقل الثقافي، نهضوا بها صناعيًّا واقتصاديًّا، حيث أسسوا مؤسسات لاستصلاح الأراضي مثل "شركة مساهمة البحيرة"، ونشطوا في تصنيع القطن المصري فكان رقم واحد على مستوى العالم، وكذلك شركات الألماس والمنسوجات مثل شيكوريل وعدس وريفولي وبنزيون وبيع المصنوعات وعمر أفندي وغيرها، وكانت من الرقي بحيث أن أميرات العالم كنّ يجئن إلى مصر لشراء الملابس والألماس، من محال اليهود المصريين. مازلتُ أكرّر عبارة: "يهودٌ مصريون"، خوفًا من أولئك الذين لا يفهمون إلا بالتكرار المخلّ بأدبيات اللغة!
بأسًى أخبرتني السيدةُ المصرية "ماجدة هارون"، رئيس الطائفة اليهودية بمصر: "حين كنتُ طفلةً، يصطحبني أبي للمعبد اليهودي للصلاة، لم أكن أجد موطئ قدم شاغرًا، الآن غدونا فقط أربعةَ أشخاص!” كان تعدادُ يهود مصر 11 ألف شخص حتى عام 1948. أمرٌ مؤسف أن نصف خريجي الجامعة المصرية يظنون أن كل يهودي هو بالضرورة صهيوني أو حتى إسرائيلي!!! أمرٌ مخزٍ أن كثيرًا منّا لا يميزون بين "اليهودية" كعقيدة، و"الصهيونية" كفاشية سياسية.
يهودُ مصر الشرفاءُ الذين أحبوا مصر بكل جوارحهم، ثم لوحقوا بالبغضاء والعنف والأذى من بلطجية الجهل والعماء؛ حتى اضطروا للرحيل عن مصر التي ولدوا وكبروا فيها وأحبوها ونهضوا بها، لا يعرفون لهم وطنًا غيرها. في عيدكم بالأمس أقدم لكم محبتي واعتذاري. وإن غدوتم أربعة أشخاص فقط، إلا أن مواقفكم الوطنية لا ينساها التاريخُ، ولا تنساها مصر. وفي يوم قريب، حين ينصلح حالُ التعليم في بلادي، سوف يعرف الأطفالُ المصريون في المدارس كيف أحبَّ يهودُ مِصْرَ وطنَهم مصرَ أكثرَ من ملايين ممن لا يعرفون قيمتها. ملعونٌ عند الرحمن من أدخل العقيدةَ في حقوق المواطنة.
ن كبري شركات المقاولات العامة واستصلاح الاراضي