لازلت أذكر ذلك العشاء.
بعد مؤتمر دُعيت إليه عن اليمن في جامعة هارفارد الأمريكية.
كان المدعوون والمدعوات جمعاً خليطاً من اليمن، أوروبا والولايات المتحدة.
وأنا الجسرُ، بين اليمن وسويسرا.
محضُ الصدفة هي التي جعلتني أجلس مع مجموعةٍ، كلها رجال، وكلهم من اليمن.
على مائدة العشاء.
جلسنا على المائدة.
وبدأ النادل في تقديم الماء لنا.
نظرت إلى المائدة، ووجدت أن هناك أكواباً مخصصة للنبَيذ موجودة أيضاً.
سألت النادل، هل هناك نبيذ سُيقدم مع الطعام؟
كان أمريكياً.
نظر إلي بدهشة ثم تمالك نفسه وقال لي “نعم، طبعاً.”
ثم سألني، “ماذا تفضلين؟”
سألته إذا كان هناك نبيذاً أحمراً، رد بالإيجاب، بعد أن اتفقنا على نوعه.
ولأني كسرت القاعدة، تجرأ وبدأ في سؤال الحضور من حولي. أولهم كان على يساري، شابٌ ناشط سَبق زمانه. قال “نعم”، وطلب نبيذا ابيضاً.
ثم سأل البقية. كل منهم، واحد بعد الآخر قال “لا”. وكانت ال “لا ” قاطعة.
وهذا حقهم. هذا شأنهم. هذه حريتهم.
ثم حط صمت ثقيل.
ثقيل.
ثقيل.
قطعته بالقول،” اشربُ على مذهبِ أبي حنيفة”.
فأنكسر الصمت بضحك متوتر، جعل الجميع يسترخي.
ثم انتقلنا إلى الحديث، عن اليمن طبعاً، ونحن نأكل.
لماذا فعلت ذلك؟
لن تقوم القيامة إذا لم أشرب النبيذ على العشاء.
وفي الواقع انا لا أشربه إلا في المناسبات وعندما أفعل ذلك لايزيد الأمر عن كأسين.
فأكثر ما أكَرهه رؤية الإنسان وهو فاقدٌ لوعيه من فرط الشراب.
لدي تجربة عائلية قديمة جعلتني أدرك مخاطر الإفراط في الشراب.
الإفراط في كل شيء في الواقع.
إذن لماذا فعلت ذلك؟
لأني لا أنافق.
لا أكذب.
ما أقوله وأفعله، افعله على الملأ.
كان المؤتمر مرهقاً وشاقاً، وعلى العشاء في أي مؤتمر آخر كنت سأُشرب نبيذي الأحمر.
وهنا، في هذا المؤتمر، ومع أبناء جلدتي لن أكذب ايضاً.
هذا ما أفعله.
كففت منذ زمان بعيد عن النفاق.
نقول ما لا نفعل.
وما نفعله نفعله في الخفاء.
كل ما يحدث هنا يحدث لدينا، لكن دوماً في الخفاء. فمن المنافق إذن؟
كففت منذ زمان بعيد عن طلب قبول الآخرين لتصرفاتي.
التقولب تخفياً وخوفاً من أحكام من حولي أرفضه.
طالما أني أتصرف بُخلقٍ في تَعاملي مع من حولي، لا أوذي احداً، فما أفعله شأني.
ولن أقدم تبريراً دينيا.
والتبريرات موجوده، كثيرة، ومقُنعة.
عليُكم/ن بقراءة كتاب أديبنا ومفكرنا الرائع علي المقري، الخمر والنبيذ في الإسلام.
كتابُه موجود على الإنترنت. تجدونه لو بحَثتن عنه.
لن اقدم تبريراً دينياً كما فعلت في المؤتمر على مائدة العشاء.
لأن تلك العبارة كانت ضرورية حتى يبتلعوا جرأةَ اليمنية التي طَلبت النبيذ وهم جالسون.
اشرب النبيذ لأني أريد أن أشربه.
وهذا يكفي.