لم تلق الحروب الباردة التي تخوضها البعض من الحكومات منذ حوالي عقد من الزمن على رواد مواقع التواصل الاجتماعي وزرها إلى الآن، بل من المتوقع أن يزداد فتيلها
في الاشتعال، في ظل تواصل الإقبال الجماهيري على هذه الفضاءات الافتراضية، التي باتت تمثل وسيلة هامة لمعظم الناس للاتصال والتواصل والتعبير عن آرائهم والحصول على المعلومة.
وهناك حوالي ثلاثة مليارات شخص حول العالم يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، أي ما يعادل 40 في المئة من سكان العالم. ووفقا لبعض الدراسات الحديثة يقضي المستخدمون في المتوسط نحو ساعتين يوميا في تصفح هذه المواقع.
ويحتل فيسبوك الصدارة بين مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشارا في العالم، إذ يتجاوز عدد مستخدميه الملياري شخص، أي حوالي ربع سكان العالم البالغ عددهم 7.5 مليار نسمة، فيما يستخدم توتير نحو 330 مليون شخص.
ورغم تعدد الشبكات الاجتماعية إلا أن فيسبوك وتويتر ويوتيوب مازالت الأكثر إثارة للجدل، وتتراوح الآراء بشأنها بين الثناء والذم، فالشعوب ترى أن مزاياها تتفوق على عيوبها، وهي بالنسبة إليهم أشبه بالجمهورية الأفلاطونية التي تمنح الحرية للجميع، أما البعض من الحكومات فتعتبرها عدوها اللدود.
وتُنتقد مواقع التواصل الاجتماعي بسبب نشر الأخبار الكاذبة، وتهديدها للأمن العالمي، والتحريض على الكراهية والتمييز بسبب العرق أو الدين… ولكنها تلقى ترحيبا كبيرا لدى عامة الناس، لأنها استطاعت أن تكسر الاحتكار التقليدي للحكومات لوسائل الإعلام، وأن تفتح مجالا للمواطنين العاديين للتعبير عن أفكارهم ومواقفهم.
رقابة شديدة
رغم أن الإنترنت صممت لتكون مجانية ومتاحة للجميع، إلا أن معظم الدول فرضت على هذه الخدمة أسعارا باهظة وعلى فضاءاتها الإلكترونية رقابة شديدة، وسنّت قوانين وعقوبات صارمة على روادها، حتى يستجيبوا للضوابط والشروط التي وضعتها الحكومات لمنع التحريض ضد سياساتها، وأيضا للتصدي للجرائم الإلكترونية.
وبدأت الحرب على المواقع الاجتماعية، بعد أن تجاوزت دورها التواصلي المحدود، لتصبح آلية سببية للإطاحة بأنظمة عربية وتبقى مستقطبة للرأي العام ومؤثرة فيه بشكل كبير.
ولم يُخف فيسبوك تفاصيل الطلبات التي تلقّاها من حكومات من مختلف أنحاء العالم للحصول على بيانات مستخدميه، كما نشر وبشكل دوري تقارير تبين حجم الطلبات التي تلقّاها من الحكومات، والتي أكد أنها تتعلّق في معظمها بحالات جرائم كالسرقة والاختطاف، مشددا في الوقت نفسه على أنه يقوم بفحص صارم لهذه الطلبات، ويتأكد جيدا من قانونية التجاوب معها قبل اتخاذ أيّ قرار في شأنها.
وفي مارس 2017، حظر فيسبوك استخدام بيانات المستخدمين للمراقبة الحكومية، بعد ضغوط تعرض لها من جماعات الحريات المدنية التي أعربت عن قلقها من استهداف المعارضين والمتظاهرين.
لكن الحكومات ما زالت عازمة على تحديد مصير الفضاءات الإلكترونية عن طريق تعقب شركاتها ومستخدميها وإجبارهم على الخضوع لشروطها أو الوقوع تحت طائلة القانون الذي يتيح للسلطات فرض غرامات مالية وعقوبات بالسجن على المخالفين.
وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، قد صادق على “قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات” وهو الاسم الرسمي للقانون، الذي يتداول في بعض الأحيان باسم “قانون الإنترنت”.
ويمنح القانون الجديد جهات التحقيق المختصة، حق حجب المواقع الإلكترونية إذا ما نشرت مواد تعد تهديدا “لأمن البلاد أو اقتصادها”، كما يحظر “نشر معلومات عن تحركات الجيش أو الشرطة، أو الترويج لأفكار التنظيمات الإرهابية، كما يكلف رؤساء المحاكم الجنائية بالبحث والتفتيش وضبط البيانات لإثبات ارتكاب جريمة تستلزم العقوبة”.
أما في إيران فقد تعمدت السلطات في عام 2016 حجب خدمات وسائل التواصل الاجتماعي الأجنبية، بما في ذلك تويتر وإنستغرام وفيسبوك، إلا أن الكثير من المستخدمين مازالوا يستعينون بمواقع وسيطة وشبكات افتراضية خاصة للدخول إلى هذه المواقع.
وخلال الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها عدة مدن إيرانية ضد ارتفاع الأسعار ومعدلات البطالة، اتهم قائد الحرس الثوري الإيراني، محمد علي جعفري، وسائل التواصل الاجتماعي بتأجيج التظاهرات قائلا “إن أعداء الثورة تدخلوا بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي” وإن “حدة الفتنة” انخفضت فور السيطرة على الأجواء الافتراضية، في إشارة منه إلى قيام سلطات بلاده بحجب موقع تلغرام الذي يستعمله 25 مليون إيراني.
ومن جانبها تحاول السلطات في تركيا كبح انهيار قيمة عملتها المحلية بشن حملات ضد التعليقات السلبية حول الوضع الاقتصادي على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأفادت تقارير إخبارية بأن السلطات التركية تجري تحقيقات بشأن مئات الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، قائلة إنها تروج “لأخبار زائفة” بشأن الليرة التركية، العملة المحلية، التي تشهد انخفاضا كبيرا في قيمتها.
وسبق أن حجب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عام 2014، موقعي تويتر وفيسبوك بعد نشرهما تسريبات عن شبهات فساد طالت أعضاء في حكومته.
وتتزايد المخاوف في عدة دول أوروبية من تأثير شركات التكنولوجيا العملاقة على عالم السياسة، ومن تأثر الناس بانتشار الأخبار الزائفة على وسائل التواصل الاجتماعي.
ومؤخرا صوت البرلمان الفرنسي على مقترَحَين من مشروع قانون “مكافحة الأخبار الكاذبة”، بعد نحو شهر من النقاشات الصاخبة، حول المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “ضد التلاعب بالأخبار”، بعدما استُهدفت حملته الانتخابية الرئاسية عام 2017 بإشاعات عن حياته الخاصة ومزاعم بامتلاكه حسابا مصرفيا في جزر البهاماس.
ويتيح المقترحان لكل مرشح أو حزب سياسي رفع دعوى أمام قاضي الأمور المستعجلة من أجل وقف بثّ “معلومات خاطئة” أثناء الأشهر الثلاثة التي تسبق أيّ انتخابات وطنية. وهو ما يفرض شروطا شفافة على المنصات الرقمية، حين تقوم بنشر محتويات لقاء أجر. وتندرج المبادرة الفرنسية ضمن سياق دولي أوسع، على خلفية اتهام الكرملين بالتدخل في حملات انتخابية بأوروبا والولايات المتحدة، وفي حملة الاستفتاء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
غرامة باهظة
يشبه القانون الفرنسي إلى حد كبير قانونا سنته ألمانيا مطلع العام الجاري، يقضي بإنزال غرامة مالية تصل إلى 50 مليون يورو على مواقع التواصل ما لم تتمّ إزالة الأخبار المزيفة، والمواد المحرضة على الكراهية، وتلك المخالفة للقوانين بشكل عام.
ويعد القانون الألماني هو أكثر ما اتخذته الحكومات والهيئات تشددا، لكبح جماح مواقع التواصل الاجتماعي.
وكانت دراسة أجرتها مؤسسة “فريدم هاوس” الأميركية المستقلة المعنية بالحريات قد كشفت أن الانتخابات في 18 دولة تأثرت نتيجة معلومات مضللة روجتها الحملات الانتخابية على الإنترنت.
وقالت الدراسة إن إجمالي 30 حكومة شاركت بنشاط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لخنق المعارضة. واحتلت الصين رأس لائحة الدول التي تتلاعب بالإنترنت بسبب تعزيزها إجراءات الرقابة.
وتتعدد القوانين التي سنتها الحكومات لبسط رقابتها على المنصات الرقمية، لكن لا يبدو أنها قادرة على جعل سكان العالم الافتراضي يهجرون حساباتهم الاجتماعية، التي أصبحت تشكل امتدادا لهويتهم.