-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

قصة قصيرة ( ذو العـُثنون ... يَحكي حكايته الأخيرة) .- ذ . رشيد سكري


                                           ـ 1 ـ
  تأخُذنا الرَّجفة من حيث لا ندري ، فترتعد فرائصُنا عندما نسمع اسم " مولانيي " ؛ القائد و الجنرال الفرنسي ، الذي تم تعيينه مباشرة بعد الحماية الفرنسيَّة على المغرب . كانت شرارة
الحرب العالميَّة الأولى السببَ المباشرَ في تعيين هذا الجنرال قائدا جهويّا على قبائل زمور. تعلـّم دروسَ الاستبسال من جبالها الوعرة و من قبائلها المتفرقة و المشتتة على طول الخط الناظم و الرفيع الذي يربط مدينة خنيفرة بمدينة الخميسات إلى حدود قبائل آيت يدين  ومصَّغرة و آيت عبو . منطقة تدور رحاها على يد القوات الفرنسيَّة .
                                            ـ 2 ـ  
  اِرتفعتِ الحناجرُ الصَّغيرةُ صدّاحة كصفير النوارس ، وهي تغادر المسيد نحو الحجرة الملساء ، بأصوات رفرفت لها أجنحة الطيور و الحمائم من وُكـُنَاتها ، وارتفع معها نقع تلك الوهاد الواجمة ، و الغارقة في سُهومها الأبدي . تقطع أصوات المْحاضرية مسارا بين الأشنة والدُّغل و عرائش الزيتون  والرُّمان المتدلي على الوادي ، الذي يفصل بين قبيلتي آيت يدين ومصغرة الجنوبية و آيت عبو في اتجاه وادي بهت شرقا . كان صاحبُ العُثنون من فوق الأكمة ، ينظر إلى النقع المتطاير بأقدام صغيرة حافية ، وهي تشق طريقها بثبات و عزيمة نحو الحجرة الملساء ، رافعين بأوداجهم اللطيف في وجه عُصبة من الأشرار ، التي حلت بالقبيلة ؛ لكسر شوكة المقاومة المستبسلة .
ـ اللهم يا لطيف ... نسألك اللطف فيما جرت به المقادير 
ـ اللهم يا لطيف ... نسألك اللطف فيما جرت به المقادير 
  ذو العُثنون تبسَّم للهباء عن ثنيتين ذهبيتين . وخلل أسداف لحيته الكثة بأصابعه ، وهو ينظر إلى الحشد ، وقد جمع أشلاءَه ، وارتفع له هديرُه ؛ حتى ملأ كل جنبات و ردهات القبيلة . تجمهرتِ النساءُ و الشيوخُ  والأطفالُ عند الحجرة الملساء ، كردة فعل على سياسة التفريق ، التي تنهجها السلطات الاستعماريّة ، وعن مؤتمر رجال الكنيسة و الكاثوليك للقديسة سانت تيريزا بالخميسات . 
تسلل ذو العُثنون بين الشعاب و الممرات الدائحة بعريشها الممتد ، ليجد نفسه منغرسا كشجرة الصَّنوبر البريَّة وسط الجمع ، وبصوتٍ مبحوحٍ ، خطب فيهم ، قائلا :
" ـ  يا قبيلة الأشاوس و المستبسلين .
  يا أحفادَ صنهاجة َالجنوبيّة ...
حمدا وشكرا لله على هذه اللَّمة و اللـُّحمة الربّانية . هذه فرصة مواتية كي نشرح مزاعم هذه الشرذمة ، التي تقطّع أوصال هذه الأرض المباركة ؛ أرض الأجداد و المكرمات  والبطولات على مرِّ التـَّاريخ . 
ـ إن مولانيي يطبق ما تمليه عليه السلطات المركزية الفرنسية .
ـ إن مولانيي يسعى حثيثا إلى أن يفرق بيننا و بين إخواننا العرب  ، قبائل بومسكة  وبني احسن و قبائل آيت سيبرن العربية . 
ـ إن القرآن يجمعنا ، ولا يجب أن تفرقنا السياسة .
رددوا معي ، وهو رافعٌ علامة النصر في هذه الوجوه السَّاهمة :
ـ لا للنصرانية التبشيرية ... لا للنصرانية التبشيرية ...
اللهم يا اللطيف ... نسألك اللطف فيما جرت به المقادير
اللهم يا اللطيف ... نسألك اللطف فيما جرت به المقادير   " .              
                                           ـ 3 ـ
   كانت عيوني الصَّغيرة تترقـَّب هَامَّا ، وهي تلقي قطعا من الخبز النيّئ في الفرن الصَّغير المطيَّن كي يَنضجَ ، و تدفنَ في رماده ، وبين أثافيه ، بيْضا بريّاً لحجل مقيم  أو مهاجر. فكلما تغير لونه ؛ صار أرجوانيا ، وهو ينضج في رماد النار ، صاحت هَامّا قائلة : قد مرت جحافل الحجل البري ذي عُرف أحمرَ قانٍ كالدم ، فوضعت بيضها ، هاهنا . وإذا لم تتغير سُحنته ، وحافظ على بياضه الصَّافي كالحليب ، تكتفي بالقول : إنه لحجلنا المقيم في الوادي ، و في ضفاف عين بوثمسيردين ، يقتات اليرقات و التوت البري . كان صوت اللطيف يأتيني قويّا ، وهو يخترق العنان ويخنقه ،  وتردده في وجوم ، صحتُ في هَامَّا قائلا :
ما هذا الصوت ، الذي يأتينا كالعرين ؟
أجابتني ، ودون أن تلتفت إلي ، فقالت :
أصحابُ البنادق ، يريدون أن يقتسموا معنا أرزاقنا غصْبا و قهْرا ...
ـ وما دخل هذه الحناجر الصَّغيرة الصّدّاحة ؟
قالت : إنهم حفظة القرآن ، ملائكة الرحمان ، فكلما أحسَّ الفقيهُ سُليمانُ بالضيق ، دفعهم إلى الخروج ، وترديد اللَّطيف ؛ وهو مؤشر على انفجار وشيك للأوضاع غامضة ، لا يفهمها إلا الفقيهُ.
في إحدى جلسات الحجرة الملساء ، يروي صاحب العُثنون ، الكيفية التي تسللت بها يدُ الغدَّار الغاصب إلى الفقيه سُليمانَ ؛ فانتشلته كما تُنتشل  فريسَةُ من مستنقع ضَحل . قبيل الفجر، كان طرقٌّ على درْفة الباب المتهالك خفيفا ، وشاهد الفقيه عيونا مائية ، ترف لها أهدابُها كعيون قطط وجلة ونزقة ؛ تتلصَّصُ عليه من خصاصات الباب . صاح الفقيهُ ، وهو لازال مهوَّما بسِنة تنيف به بين اليقظة والكرَى ، قائلا :
مَن الطَّارقُ ؟
أحسَّ سُليمانُ بالجزمات تدكُّ الأرض دكا ، وتأخذ مكانها بالقرب من دفتي الباب . لم يستطع أن يوقظ لالة رحمة ، الممدة بجانبه الأيمن على السرير الخشبي ، الذي جمعهما نيّفا  وعشرين سنة . ودون أن يضيء المكان ، اقترب الفقيه سُليمانُ في جمرة الظلام من الباب . صرير قوي تداعت له الدفتان في الوقت نفسه ، ولم يشعر الفقيه ، إلا وهو معصَّبٌ عيناه ، مكبّلٌ يداه ورجلاه .
                                            ـ 4 ـ   
   في جوف العتـْمة المُدلهّمة انتفضت لالة رحمة كدجاجة مذبوحة ، وهي ترمق زوجها يغادر صَحن الدار دون رجعة ، وسط أجساد لا تعرف الرحمة ُطريقا إليهم . يقول صاحب العُثنون ، وقد تحلق حوله نفر من رجالات القبيلة عند الحجرة الملساء : إن ما فعله مولانيي الغدَّار في هذه الدَّار، استنادا إلى اخباريات جهاز الاستعلامات الفرنسيس ، التي تتعقب كل فرد فرد ، وكل بيت بيْت وكل زنقة زنقة . فهو يُحاربُ الدّين الاسلامي علانيَّة و جهرا ؛ في الأشخاص و في الأمكنة وفي كل المناسبات .  متورّط ، ٌحتى النخاع ، في منع حفظة القرآن الكريم بقبيلة آيت أوريبل من إقامة موسِمِهم الاحتفالي للمتمكنين الجدد من الكلام الربَّاني .
                                            ـ 5 ـ
   سكت ذو العثنون عن الكلام المباح ، خلل أسجاف لحيته الطويلة بأصابعه العَجراء ، ونظر في سُهوم إلى حفظة القرآن ، وهم  يذوبون أفرادا و زرافات بين تلك الشعاب  والممرات الضيقة ؛ ليبتلعهم نقعٌ متطايرٌ لتراب مسحوق .


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا