ـ 1
ـ
تأخُذنا الرَّجفة من حيث لا ندري ، فترتعد فرائصُنا
عندما نسمع اسم " مولانيي " ؛ القائد و الجنرال الفرنسي ، الذي
تم تعيينه مباشرة بعد الحماية الفرنسيَّة على المغرب . كانت شرارة
الحرب
العالميَّة الأولى السببَ المباشرَ في تعيين هذا الجنرال قائدا جهويّا على قبائل
زمور. تعلـّم دروسَ الاستبسال من جبالها الوعرة و من قبائلها المتفرقة و المشتتة
على طول الخط الناظم و الرفيع الذي يربط مدينة خنيفرة بمدينة الخميسات إلى حدود
قبائل آيت يدين ومصَّغرة و آيت عبو .
منطقة تدور رحاها على يد القوات الفرنسيَّة .
ـ 2
ـ
اِرتفعتِ الحناجرُ الصَّغيرةُ صدّاحة كصفير
النوارس ، وهي تغادر المسيد نحو الحجرة الملساء ، بأصوات رفرفت لها أجنحة الطيور و
الحمائم من وُكـُنَاتها ، وارتفع معها نقع تلك الوهاد الواجمة ، و الغارقة في سُهومها
الأبدي . تقطع أصوات المْحاضرية مسارا بين الأشنة والدُّغل و عرائش الزيتون والرُّمان المتدلي على الوادي ، الذي يفصل بين
قبيلتي آيت يدين ومصغرة الجنوبية و آيت عبو في اتجاه وادي بهت شرقا . كان صاحبُ العُثنون
من فوق الأكمة ، ينظر إلى النقع المتطاير بأقدام صغيرة حافية ، وهي تشق طريقها
بثبات و عزيمة نحو الحجرة الملساء ، رافعين بأوداجهم اللطيف في وجه عُصبة من
الأشرار ، التي حلت بالقبيلة ؛ لكسر شوكة المقاومة المستبسلة .
ـ اللهم يا لطيف
... نسألك اللطف فيما جرت به المقادير
ـ اللهم يا لطيف
... نسألك اللطف فيما جرت به المقادير
ذو العُثنون تبسَّم للهباء عن ثنيتين ذهبيتين .
وخلل أسداف لحيته الكثة بأصابعه ، وهو ينظر إلى الحشد ، وقد جمع أشلاءَه ، وارتفع
له هديرُه ؛ حتى ملأ كل جنبات و ردهات القبيلة . تجمهرتِ النساءُ و الشيوخُ والأطفالُ عند الحجرة الملساء ، كردة فعل على
سياسة التفريق ، التي تنهجها السلطات الاستعماريّة ، وعن مؤتمر رجال الكنيسة و
الكاثوليك للقديسة سانت تيريزا بالخميسات .
تسلل ذو
العُثنون بين الشعاب و الممرات الدائحة بعريشها الممتد ، ليجد نفسه منغرسا كشجرة
الصَّنوبر البريَّة وسط الجمع ، وبصوتٍ مبحوحٍ ، خطب فيهم ، قائلا :
" ـ يا
قبيلة الأشاوس و المستبسلين .
يا أحفادَ صنهاجة َالجنوبيّة ...
حمدا وشكرا لله
على هذه اللَّمة و اللـُّحمة الربّانية . هذه فرصة مواتية كي نشرح مزاعم هذه
الشرذمة ، التي تقطّع أوصال هذه الأرض المباركة ؛ أرض الأجداد و المكرمات والبطولات على مرِّ التـَّاريخ .
ـ إن مولانيي
يطبق ما تمليه عليه السلطات المركزية الفرنسية .
ـ إن مولانيي
يسعى حثيثا إلى أن يفرق بيننا و بين إخواننا العرب ، قبائل بومسكة وبني احسن و قبائل آيت سيبرن العربية .
ـ إن القرآن
يجمعنا ، ولا يجب أن تفرقنا السياسة .
رددوا معي ، وهو رافعٌ
علامة النصر في هذه الوجوه السَّاهمة :
ـ لا للنصرانية
التبشيرية ... لا للنصرانية التبشيرية ...
اللهم يا اللطيف
... نسألك اللطف فيما جرت به المقادير
اللهم يا اللطيف
... نسألك اللطف فيما جرت به المقادير " .
ـ 3 ـ
كانت عيوني الصَّغيرة تترقـَّب هَامَّا ، وهي
تلقي قطعا من الخبز النيّئ في الفرن الصَّغير المطيَّن كي يَنضجَ ، و تدفنَ في
رماده ، وبين أثافيه ، بيْضا بريّاً لحجل مقيم
أو مهاجر. فكلما تغير لونه ؛ صار أرجوانيا ، وهو ينضج في رماد النار ، صاحت
هَامّا قائلة : قد مرت جحافل الحجل البري ذي عُرف أحمرَ قانٍ كالدم ،
فوضعت بيضها ، هاهنا . وإذا لم تتغير سُحنته ، وحافظ على بياضه الصَّافي كالحليب ،
تكتفي بالقول : إنه لحجلنا المقيم في الوادي ، و في ضفاف عين بوثمسيردين ،
يقتات اليرقات و التوت البري . كان صوت اللطيف يأتيني قويّا ، وهو يخترق العنان
ويخنقه ، وتردده في وجوم ، صحتُ في
هَامَّا قائلا :
ما هذا الصوت ،
الذي يأتينا كالعرين ؟
أجابتني ، ودون أن
تلتفت إلي ، فقالت :
أصحابُ البنادق ،
يريدون أن يقتسموا معنا أرزاقنا غصْبا و قهْرا ...
ـ وما دخل هذه
الحناجر الصَّغيرة الصّدّاحة ؟
قالت : إنهم حفظة
القرآن ، ملائكة الرحمان ، فكلما أحسَّ الفقيهُ سُليمانُ بالضيق ، دفعهم
إلى الخروج ، وترديد اللَّطيف ؛ وهو مؤشر على انفجار وشيك للأوضاع غامضة ، لا
يفهمها إلا الفقيهُ.
في إحدى جلسات
الحجرة الملساء ، يروي صاحب العُثنون ، الكيفية التي تسللت بها يدُ
الغدَّار الغاصب إلى الفقيه سُليمانَ ؛ فانتشلته كما تُنتشل فريسَةُ من مستنقع ضَحل . قبيل الفجر، كان طرقٌّ
على درْفة الباب المتهالك خفيفا ، وشاهد الفقيه عيونا مائية ، ترف لها أهدابُها كعيون
قطط وجلة ونزقة ؛ تتلصَّصُ عليه من خصاصات الباب . صاح الفقيهُ ، وهو لازال
مهوَّما بسِنة تنيف به بين اليقظة والكرَى ، قائلا :
مَن الطَّارقُ ؟
أحسَّ سُليمانُ
بالجزمات تدكُّ الأرض دكا ، وتأخذ مكانها بالقرب من دفتي الباب . لم يستطع أن يوقظ
لالة رحمة ، الممدة بجانبه الأيمن على السرير الخشبي ، الذي جمعهما
نيّفا وعشرين سنة . ودون أن يضيء المكان ،
اقترب الفقيه سُليمانُ في جمرة الظلام من الباب . صرير قوي تداعت له
الدفتان في الوقت نفسه ، ولم يشعر الفقيه ، إلا وهو معصَّبٌ عيناه ، مكبّلٌ يداه
ورجلاه .
ـ 4 ـ
في جوف العتـْمة المُدلهّمة انتفضت لالة رحمة كدجاجة مذبوحة ، وهي
ترمق زوجها يغادر صَحن الدار دون رجعة ، وسط أجساد لا تعرف الرحمة ُطريقا إليهم .
يقول صاحب العُثنون ، وقد تحلق حوله نفر من رجالات القبيلة عند الحجرة
الملساء : إن ما فعله مولانيي الغدَّار في هذه الدَّار، استنادا إلى
اخباريات جهاز الاستعلامات الفرنسيس ، التي تتعقب كل فرد فرد ، وكل بيت بيْت وكل
زنقة زنقة . فهو يُحاربُ الدّين الاسلامي علانيَّة و جهرا ؛ في الأشخاص و في الأمكنة
وفي كل المناسبات . متورّط ، ٌحتى النخاع ،
في منع حفظة القرآن الكريم بقبيلة آيت أوريبل من إقامة موسِمِهم الاحتفالي
للمتمكنين الجدد من الكلام الربَّاني .
ـ
5 ـ
سكت ذو العثنون عن الكلام
المباح ، خلل أسجاف لحيته الطويلة بأصابعه العَجراء ، ونظر في سُهوم إلى حفظة
القرآن ، وهم يذوبون أفرادا و زرافات بين
تلك الشعاب والممرات الضيقة ؛ ليبتلعهم
نقعٌ متطايرٌ لتراب مسحوق .