وجدت نفسي هذا الأسبوع، وأنا أتابع ملف تداعيات
ملف الهجرة السرية إلى أوربا، وردود المغرب الجريئة في المسؤوليات المشتركة بين الضفتين
الشمالية والجنوبية حول هذا الملف، الذي
نختار فيه اليوم الأبعاد الإنسانية ضد كل استغلال
سياسي أو اقتصادي أواجتماعي، أفتش في أوراقي للبحث عما كتبته قبل ثماني سنوات خلت،
عندما ذهبت إلى شمال بلدي، وتحديدا مجالنا المطل على الثغرين المحتلين المقتطعين قهرا
من وطننا، لأقف عند مشاهد معاناة أهلنا، وخاصة من إفريقيا جنوب الصحراء، يومها وجدت
نفسي أمام قهر مزدوج، قهر ذاتي لكاتبة يحتويها مخاض كتابة رواية «غرباء المحيط»، أبني
فيها عالما مغايرا لشباب يافع ركب أمواج البحر للهجرة سرا إلى الفردوس المفقود، الذي
تحول إلى دفن جماعي في مقبرة بطريفة، تحت عنوان مجهولي الهوية، وقهر يشد صحفية من قفاها،
تجد ردود فعل الجنوب محتشمة، وغير منصفة لأبناء قارتنا الذين عوملوا بمختلف أشكال القسوة
حتى أصبحوا في عيون الشمال وباء ومرضا خطيرا، يقتضي قتل الأجساد ذات البشرة السوداء،
ومعهم من اسودت بشرتهم من كثرة الاستلقاء فوق الرمال، أو الأرض، وتحت الشمس، و تراب
الغابات، أو بفعل الزيوت السوداء للشاحنات المارة فوق فضاءات قهرهم.
كان هؤلاء خائفين مشردين تائهين يدفعهم الجوع والعطش
إلى التلويح بأياديهم بعد الوقوف خلسة في ممرات الطرق المحاذية لأماكن اختبائهم، بحثا
عما يسد رمقهم ويحد من عطشهم، كانوا عشرات ثم مئات ثم آلاف.
لا أخفيكم أني أحسست بأني موجودة هناك وحدي، أبحث
عن خيط لجواب إنساني، وسط كل ذلك الصمت المواجه بالحل الأمني، فاخترت بعدها التوجه
إلى فضائي الروائي، قلت «يا لله أيها الزمن السيء لن نكون النحن الواقفون على باب لله
إلا أناس قاطنون في عوالم النسيان والتهميش»، و»يا لله ياهؤلاء التائهين على الحدود،
الباحثين عن جنة تنقذكم من أقدام الحكرة الجاثمة على رؤوسكم الصغيرة، «يا لله أيها
المداسون، ازحفوا على السياج لتنتزعوا ما سرق منكم بالأمس، ليصبح الشمال شمالا والجنوب،
جنوب….»
وضعت نقطي، ورجعت إلى سطر الواقع، لأفتش في مواقف
بلدي بعدما لفت انتباهي الجرأة التي نواجه بها أهل الشمال، في تضخيم الذات حول ملف
الهجرة بصفة عامة والهجرة السرية منها، وكأننا نعيد الرؤية المكونة حول أهل الجنوب،
في زمن اعتقدنا أننا ودعنا معالمه الكبرى، في الوقت الذي اختفت هذه المعالم وسط تفاصيل
ظلت تشتغل بنفس المنطق، مدسوسة في المواقف الفردية المطبقة بالفعل في الفضاء المجتمعي
الغربي منه على الخصوص، ملزمة بذلك منطق التحرك لدى سلط هذه المجتمعات في كافة واجهاتها
التشريعية والتنفيذية، وحتى المدنية التي من المفروض أن تدافع عن مفهوم الأنسنة.
ووسط هذه الرؤية من «علو» الشمال على رؤوس أهل الجنوب،
حد دوسها بقرارات تستمد تصوراتها من زمن الاستعمار، من منطلق الرواسب التي لم يستطع
الآخر التحرر منها، كما لم يساعدونا في ضرورة إحداث آليات فاعلة ومنطقية، من أجل نسيان
الزمن الأسود الذي كان بيننا، رغم أننا مددنا يدنا أكثر من مرة، وتحدثنا بمنطق المحيطات
الإقليمية والجهوية والدولية، وتحدثنا لغة التحديات، واقترحنا مبدأ التشاركات، وفعلنا
دورنا في فضاءات، متناسين كافة جراحاتنا، وآلامنا، مميزين بين الدفاع عن التراب الوطني
والدفاع عن موارد بشرية في التراب الجهوي والإقليمي والقاري، ونبهنا إلى أن الأنسنة
هي ممارسة تقتضي أن ننظر بعين مغايرة لتلك التي لا ترى إلا عناوين شعاراتية لمفهوم
حقوق الإنسان، ولكل تلك الأجساد التي طفت فوق مياه المتوسط عندما حاولت الهجرة سرا
إلى أوروبا، بل وتساءلت أعلى سلطة في بلادنا، في خطاب أديس أبابا: « هل ستكون أعماق
مياه البحر المتوسطي مصير شبابنا؟ وهل ستتحول حركيتهم إلى نزيف مستمر؟»، وقدمنا بدائل
في ذلك أن نجعل من هؤلاء ورقة مربحة، وأننا «بصدد أشخاص قيمتهم عالية، ويشكلون موارد
بشرية لقارتنا»، وأن يكون للهجرة تصور مغاير متجاوز للحسابات الضيقة، التي يبدو أن
الكثير في رهانات الآخر جعلت منها بندا أساسيا في إحراز نجاح انتخابي يوصل إلى مقاعد
السلطة جهويا ومركزيا.
وهي الرهانات التي جعلت اختياراتنا كمغرب يشكل موقعا
استراتيجيا هاما بين الضفتين، أمام أبواب مسدودة أغلقت بإحكام، لأنها غير مناسبة لاختيارات
متموقعة داخل حدودها، تنظر إلى ما شرعنا فيه بالفعل، في اعتبار الهجرة مصدر قوة وليس
مصدر ضعف، وعاملا قويا في تقارب الشعوب وتفاعل حضاراتها، من منطلق ربط الهجرة بالتنمية،
ضد نظرة ممتهن «العلو» الذي فقد القدرة على الإطلاع على المياه التي تسربت بالفعل إلى
أسس ما تحت قدميه، مهددة بانهيار وشيك.
وهي النظرة التي نبهنا إليها وننبه لها اليوم علانية،
أنه ليس بمقدورنا أن نغالطكم، وأن نقول إننا قادرون على حراستكم من مد تعتقدون فيه
أننا وحدنا مسؤولون عن تفتيت حجر زواياكم بما فيها المحاذية للتراب المقتطع قهرا من
أرضنا، لهذا نقول لكم إننا لن نكون حراسكم إلا في استراتيجية مغايرة لكل تلك المعتقدات
المترسبة في أذهانكم، على أن يكون البديل هو أن نكون حراس بعضنا في التشارك الاستراتيجي
الذي ينبغي أن يكون… .
الكاتب : بديعة الراضي