دخلتْ إلى المقهى، اتخذتْ مقعداً خلفياً فيه، ثم ما لبثت أن خرجت منه، من دون أن تعلم ما إذا انتبهوا إلى وجودها بين زبائن المقهى، ومن دون أن تتبين تعابير وجوههم، لا هم ولا النادل نفسه.
توقفتْ أمام محل لبيع الملبوسات، وجدتْ نفسها تسترق النظر إلى واجهة أخرى تعرض لباسات داخلية للنساء.حتى وجودها في مقهى "تاليا" القريب بدا نافراً، هو الآخر، فكيف إن جلستْ في مقهى آخر، أو تفرجتْ على فيلم في مجمع السينمات القريب (...).
لم تكن تقوى تماماً على رفع نظرها عن بلاطات الشارع، كما لو أنها تتجه إلى كرسي الاعتراف، صاغرة وكتومة. وإذا ما رفعتْ نظرها إلى أعلى، إلى مستوى العابرين والعابرات، فقد كانت تظن أنها ستفحصهم وتسبر أغوارهم: ما يقع تحت ثيابهم، وخلف عيونهم، وفي ثنايا أدمغتهم.
عادت على عجل، من دون أن تسمع الكلمات التي استقبلتْها على المدخل، في غرفة الاستعلامات. اتجهتْ إلى غرفتها، وقد شعرت بدفق مقبل يتمدد في شرايينها، في عينيها.
تأخرتْ في الاستيقاظ، لم تسمع حتى قرع جرس الدير. قفزت من فراشها إثر القرع العنيف على باب غرفتها: ما لكِ؟! أأنتِ مريضة؟
أمضتْ ساعات وساعات في الفراش، وقد جلبوا لها فطور الصباح. تنعمتْ بالتمدد، بالبقاء من دون عمل، من دون مهمة أو واجب. لمرةٍ لم تكن مثل مجندة، أو موظفة... كانت امرأة وحسب، تتباطأ وحسب في فراشها، بل تلتذُّ في ارتخائها الناعم، بعد أنها تنبهت إلى أنها لم تلبس سروالها الداخلي، ولا صدّاريتها قبل النوم.
هكذا اعتادت منذ بعض الوقت: كانت تنام بعباءة بيضاء سميكة، ما يجعل أطراف جسدها تتحسس ملامسة القماش القطني السميك. تنبهتْ إلى أن حلمتي ثدييها تتوتران، تنتصبان؛ بل شعرت أن ثدييها باتا أكثر اشتداداً واستدارة مثل ثمرة نضجت فوق غصنها.
راحت تتحسسه... تتحسس ذلك المجهول الذي تسكنه، فيما باتت هذا الصباح تتملكه، بل تروده وتلامسه مثل شريك.
باتت، هي معه، مجتمعة، مثل شفة تقترب من شفتها الأخرى. ماذا عن هذا اللعاب المندلق؟ أهو عصير الثمرة المتفجرة من فرط اكتنازها ونضجها؟
باتت لها حديقة خلفية، تتجول فيها ما حلا لها، حين يُتاح لها الانفراد بجسدها، خاصة حين راحت ترفع الغطاء الأبيض فوق رأسها مثل خيمة، في خلوة عابقة برائحتها وحدها (...).
تهرب من المستشفى إلى الممر الخاص بالفندق. ترى إلى الزبائن، إلى المطعم، إلى واجهات محلات الأزياء النسائية... ترى إلى المنفذ الآخر حيث تمر السيارات والبشر والترام.
دعاها نادل المطعم إلى الدخول، بعد أن رآها غير مرة تتوقف أمام النافذة، ما استدعى عجبَها. كانت تتحجج بمصاحبة المسنات، بمرافقتهن إلى سيارات الأجرة في الخارج لكي "تبصبص" قليلاً.
كانت تحلم بالصعود إلى إحدى غرف الفندق، والبقاء فيها وحيدة، فقد زارت إحداها إذ قادت إليها – بناء لأذن خاص من رئيسة الدير – إحدى السيدات (...).
جسمي اثنان، منقسمان، ملتقيان، متضامّان: من أخمص القدمين حتى مستوى العينين والأذنين.
لو وضعتُ خطاً خفياً بين القدمَين ليعبر جسمي من أدناه إلى أعلاه، وصولاً إلى الأنف، لتأكدتُ من أنني اثنان في واحد: جسمي قسمان متساويان، حيث الواحد يمارس الجنس مع الآخر (...).
لو وضعتُ خطاً خفياً بين القدمَين ليعبر جسمي من أدناه إلى أعلاه، وصولاً إلى الأنف، لتأكدتُ من أنني اثنان في واحد: جسمي قسمان متساويان، حيث الواحد يمارس الجنس مع الآخر (...).
تجلس في مقهى بعد الخروج من القطار، فيما تروح وتجيء أمام عينيها، من وراء الزجاج، حقائب صغيرة، كرّاجة، فيما عليها أن تعود، ألا تخرج أساساً إلا في النادر. هل سيعاكسُها أحدهم، وقد عمدتْ قبل النزول من القطار، إلى نزع قبعتها المخصوصة عن رأسها، ووضعتْها في كيسها؟ ماذا لو أبقتْ على قبعتها؟ ماذا كان زبائن المقهى سيقولون؟ (...).
اليوم، بعد النزول من القطار، دخلتْ إلى ماكينة تصوير الوجه السريعة: نزعتْ قبعتها، وأطلقت ابتسامتها. ثم وضعت القبعة من جديد، وراحت تنتظر خروج صورتها. راحت تتنقل فوق بلاطات رصيف المحطة فيما كانت تنظر إلى وجهها في صورتها من دون القبعة. هذا ما فعلتْه عندما دخلت إلى المرحاض في القطار، من دون قبعتها. عادت من جديد إلى المقهى فما عرفها النادل، وقد أبرزتْ شعرها القصير... كانت ترى إلى حقائب بمختلف الألوان والأحجام وهي تعبر من أمام عينيها، فيما كانت تحمل كيساً وحسب أخفتْ فيه قبعتها وأغراضاَ خاصة (...).
(مقطع من رواية "شهوة الترجمان"، المركز الثقافي العربي، 2016).
(مقطع من رواية "شهوة الترجمان"، المركز الثقافي العربي، 2016).