سمعت من قال إن كل مطالب الحقوقيين والحداثيين هو معاكس لإرادة الله، الذي أراد للناس ما تقرر في الديانات بشكل نهائي، وأن ما تقرر في الديانات هو "عدل إلهي" كله
ولا مجال لنقده أو مراجعته أو مناقشته مهما ظهر فيه من مشاكل وصعوبات، أو أدى إليه من أوضاع سلبية، ولنا على هذا تعقيب نورده فيما يلي:
1) أن ما تقرر في الديانات ليس متناغما ولا منسجما بل فيه كثير من التعارضات والتناقضات سواء بين دين وآخر، أو داخل الدين الواحد نفسه، حيث تجد النص ونقيضه، وهو ما يرجع إلى تبدل الأحوال وانقلاب الظروف التاريخية، في فترة وجيزة ، فكيف بالقرون الطويلة الممتدة.
2) أن القول بأنّ ما تقرر في الديانات هو عدل إلهي ينبغي أن يقبل به البشر حتى ولو كان فيه ضرر لهم ليس أمرا مطابقا لواقع الحال، لأن الناس تخلوا عن كثير مما في الديانات بسبب عدم ملاءمتها لواقعهم، فقد تخلى المسلمون عن "ملك اليمين" أي عن العبيد والإماء لأن في ذلك اعتداءا وظلما شنيعا على حرية الإنسان، ومن تم لا يمكن اعتبار العبودية عدلا إلهيا لأنها وردت في نصوص الديانات، بل الأصح القول إن الله قد وهب الناس عقولا ليفكروا بها ويدركوا مصالحهم فيرعوها حسب ظروفهم، لأنهم "الأعرف بشؤون دينياهم". كما تخلى المسلمون عن "الجهاد" الذي يهدف إلى غزو بلاد الغير من أجل نشر الإسلام، بسبب تيقنهم من أن الزمان الذي نحن فيه لم يعد يقبل نشر الديانات بالغزو وسبي النساء والأطفال وتوزيع الغنائم، حيث أدرك الناس اليوم بأن الإكراه على عقيدة ما لا يمكن أن يكون من مظاهر العدل الإلهي، بل هو ظلم للغير واعتداء على حريته واختياره.
3) إن مشكلة رجال الدين لا تتمثل فقط في رفضهم تاريخية النصوص الدينية وارتباطها بسياقات لا يمكن إنكارها، بل هي في تقديم أنفسهم وسطاء بين البشر والسماء، وما جعلهم عبر تاريخ الدّم الطويل يعتبرون الديانات، كما فهموها في حدود معارفهم وشروط عيشهم ومصالحهم أيضا، يعتبرونها قرارا إلهيا على الناس الخضوع له والامتثال لأوامره بشكل ثابت، مطلق وأبدي، إنما هو حرصهم على جعل الناس تحت وصايتهم. هكذا صارت الكثير من المظالم التي يرتكبها البشر مظاهر لـ"العدل الإلهي"، وأصبحت أخطاء الناس مبرّرة باسم الدين، وصار كل من اعترض على تلك المظالم كأنه يرفض القرار الإلهي الأزلي، ويعاكس إرادة السماء. ولقد تنبه "المعتزلة" إلى هذه المشكلة أثناء معاناتهم المريرة مع حكام المسلمين المتغطرسين والظالمين، الذين كانوا يقولون إن ما يفعله البشر إنما هو مقدر من الله، فكان ردّ "المعتزلة" أن الله نفى الظلم عن نفسه، وأن فعل الشرّ إنما هو من اختيار البشر وبفعل إرادتهم، إذ لا يمكن لله أن يقدره على الناس ويعاقبهم عليه بعد ذلك. غير أن منظومة الفكر السني الأشعري سرعان ما طوت صفحة الحرية لصالح الجبر والقدر، وهو المنظور الذي استجاب بشكل واضح، وإلى يومنا هذا، لحاجات الدولة الإسلامية القاهرة والمستبدة، فالحكام الظالمون بحاجة إلى صورة للإله القادر على كل شيء، والذي لا يُسأل عن شيء، ويفعل ما يريد، وتعتبر كل أفعاله عدلا مهما كانت نتائجها على حياة البشر.
4) إن ترسانة المفاهيم التي اعتمدها الفقه القديم لم يعد يمكن اعتمادها اليوم، فـ"العدل الإلهي" في زماننا هذا هو أن يجد الإنسان على الأرض الكرامة المطلوبة، سواء كان ذلك باسم الدين أو باسم القانون الوضعي، أما التطبيق الحرفي والآلي للنصوص الدينية بزعم أنها أوامر إلهية حتى ولو لم تعُد مطابقة لواقع الناس، مع ما ينتج عن ذلك من قهر وظلم ومعاناة للبشر، فذلك لا يمكن أن يعتبر عدلا، بل هو مجرد إعادة لنفس المأساة الحزينة التي شهدتها البشرية منذ بزوغ الديانات واعتمادها أنظمة عامة لضبط المجتمعات، إذ العبرة بالواقع وبأوضاع البشر، لا بالنصوص الدينية أو بضوابط الفقه القديم.
وإذا كان المسلمون لم يستطيعوا حتى الآن أن يعكسوا في دولهم ومجتمعاتهم وسلوكهم "العدل الإلهي" كما يتصورونه، فذلك لأنهم لا ينتبهون إلى مواطئ أقدامهم بسبب التفاتهم باستمرار وبشكل دائم إلى الوراء.
إن "العدل الإلهي" هو أن يكون الإنسان عادلا مع أخيه الإنسان، هُنا والآن، لأن الله لا يمكن أن يتخذ صورة جميلة في أذهان الناس إذا ظلت مختلف الفظائع ترتكب باسمه بدون ضمير، وفي غياب قيم الحق والخير والجمال.