عندما سقط جدار برلين، يوم 9 نوفمبر 1989 بعد
ثلاثة عقود من الصراع والتوتر والتنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد
السوفياتي وحلفائهما، ووضعت الحرب الباردة أوزارها، حاولت بلاد العم سام أن
توحي
للعالم بكل اللغات ، أن النتيجة الحتمية لما حدث للشيوعية و للاتحاد السوفياتي، هو
فرض سيادة الإرادة الأمريكية على العالم الجديد، و لربما حاولت بعض الأطراف
الأوروبية في هذه اللحظة، خلق توازن دولي جديد، من خلال خلق الاتحاد الأوروبي،
لمواجهة الهيمنة الأمريكية.
القليل من الأصوات السياسية في العالم، أعلنت خلال هذه
اللحظة، أن الرهان المرتقب، هو بروز الصين كدولة عظمى منافسة لأوروبا و الولايات
المتحدة الأمريكية، ولكل الأقطاب، وان الأمر لا يحتاج سوى إلى بعض الوقت.
و القليل القليل من الأصوات السياسية في مرحلة ما بعد
جدار برلين، والحرب الباردة، من أشار إلى احتمال انفجار العزة القومية اليابانية،
لنقل الإمبراطورية اليابانية إلى الواجهة من جديد، في تاريخ العالم الجديد.
طبعا لم يتحدث أحد عن الموقع الذي قد يحتله العالم العربي، ما بعد الصراع بين
القطبين الكبيرين، أمريكا والاتحاد السوفياتي، حتى لو كان( العالم العربي) يملك
الثروة النفطية والحضارية والبشرية، لم يسأل احد هل سيقتبس هذا العالم الكبير من القارة الأوروبية
ما صنعته من أجل وحدتها وتكتلها وحضورها الدولي لتكون هي الأخرى قوة حاضرة، أم
ستظل متميزة بالجمود والخمول والتبعية، و القبول بتمزقاتها وآلامها وتشرذمها و
تخلفها الحضاري...؟
و السؤال المحير: هل كان التغيير في العالم العربي أمرا
مستبعدا إلى حد بعيد في المرحلة ما بعد الحرب الباردة و سقوط جدار برلين...؟
في حقيقة الأمر، رغم الاهتزازات التي أحدثتها انتكاسة
يوليوز 1967 وثورة الخميني بإيران و حرب الخليج، فان ما حدث في العالم العربي
بعدما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القطب الوحيد المسيطر على ارض الله، كان
هو المزيد من التمزقات/ المزيد من الآلام/ المزيد من الجمود السياسي والاقتصادي/
المزيد من الفقراء والأميين والتعساء/ المزيد من التشويه الثقافي وبيع الأحلام
الرخيصة للفقراء التعساء، من اجل تنشئة أجيال جديدة مشلولة وغير قادرة لا على
الفعل و لا على التفاعل، ومن اجل استمرار طبقة الحكام المتسلطين على كراسيها الوتيرة
بالكثير من الصفاقة، لا تبالي و لا تهتم، بما يجري حولها من أحداث وتغيرات، وهي
مصرة على البقاء في قمة السلطة على حساب الأمة و قيمها و أحيانا على حساب كرامتها
بدعم أمريكي/ امبريالي، لا شك فيه.
الشيء العاصي على الفهم في هذه الإشكالية، هو الصمت
المحير للعديد من المفكرين و المبدعين العرب بعد الحرب الباردة وسقوط جدار برلين
وما صاحبهما من تغييرات على الخريطة العالمية، هو
صمت و تخاذل
العديد من المفكرين والمثقفين العرب/ هو انبهار الكثير منهم بما حدث و يحدث في
العالم/ هو توقف الكثير منهم عن إنتاج النظريات التربوية أو السياسية أو الفكرية
التي من شأنها خلخلة أركان الخريطة العربية، وهو ما أذى في نهاية المطاف إلى صمت
مخيف لا معنى و لا تفسير له.
هناك من سيصرخ في وجه هذه الحقيقة بالقول : ماذا يستطيع
المفكر العربي أن يفعل في أنظمة ظالمة جبارة ومتسلطة سوى الانخراط في الخطابات
الجوفاء التي تملأ الصحف والساحات والكتب بالكلام البليغ عن الحرية والديمقراطية
وحقوق الإنسان والحداثة والعولمة والعقلانية وغيرها من المصطلحات السوريالية؟ التي
أدت بنا في النهاية إلى ربيع عربي سوريالي... وإلى ثورات سوريالية، والى تغييرات
خارج المقاييس و المفاهيم و القيم الإنسانية.
نعم إن الحقيقة
التي قد يرفضها العديد من السياسيين والمثقفين والمتعلمين، هي الحقيقة التي
أدت بالعالم العربي بعد عقود على سقوط جدار برلين وتغييرات الخريطة العالمية
العميقة، إلى ربيعه السوريالي، وإلى ثوراته السوريالية... وإلى تغييراته خارج
مقاييس العقلانية التي لم يستطع أحد في العالم اليوم قراءتها أو استيعابها، أو
وضعها محل تقدير وقبول و احترام.
السؤال الأول والأخير الذي تطرحه هذه الإشكالية بحدة :
متى يخرج الزمن العربي من هذا النفق المظلم، لينخرط في حركة التغيير العالمي...
متى يحتل موقعه الحقيقي، على خارطة العالم الجديد...؟ متى يخرج من وضعه السوريالي
إلى وضع...أكثر قربا من الواقعية.
أفلا تنظرون...؟