“أسرار صاحب الستر” لابراهيم الدرغوثي
رواية تفلت من قبضة التاريخ الكبير
بقلم :طارق الشيباني
لو أنّه ثمّة شيء ما، يميّز تاريخ الرواية وتاريخ الفنّ بصفة عامة عن التاريخ الكبير للبشريّة، فلن يعدو هذا الشيء إلاّ أن يكون “الحريّة”. تاريخ البشر ليس حرّا. إنّه أحداث ووقائع تأتي من فوق. تزحف إلى الأمام. تتقدّم في سيرها جارفة كلّ شيء. لا تهتمّ لأحد أو لفرد أو لهويّة. قد نستخلص منها العبر ونقرأ منها الدروس. دروس صارمة محدّدة مضبوطة ليس فيها خروج عن خطّ السير. ذلك الخط القادم من الأعلى، الذي يُسيطر ويسطر خطوات المسير ولكنّه أبعد ما يكون عن الإنسان.
وهنا بالضبط يتدخّل تاريخ الرواية. التاريخ المبني على الحريّة. خط سيره يمشي إلى الأمام كما يمشي إلى الخلف. يبتدأ عند اليونان ويقفز إلى الرومان ثمّ يحلّ عند العرب. يعود إلى الاروبيين والأمريكيين ليذهب بعد ذلك إلى كلّ كاتب وروائي في أي نقطة من نقاط الأرض. كاتب أغوته الحريّة، فكتبها في شخوصه وحكاياته وساهم بها في إضفاء بقعة جميلة على تاريخ الرواية، دون اعتبار لأي معطيات خارجة عن جوهر الفن وغايته القصوى هي “الجمال”.
الحريّة في تصوير الشخوص. الحريّة في حبك الحدث. الحريّة في التلاعب بالزمان والمكان. الحريّة في مزج النثر بالشعر في مزج الدين بالأسطورة…فنطازيا لانهائيّة وعميقة عُمق التاريخ، تميّز تاريخ العمل الروائي.
ولعلّنا بهذا نلج عوالم رواية “أسرار صاحب الستر” للكاتب التونسي ابراهيم درغوثي، التي تعبّر عن هذا المعطى تعبيرا واضحا. معطى الحريّة في كتابة التاريخ. تاريخ آخر مواز للتاريخ المعروف.
تتناول الرواية التي صدرت سنة 2002 شخصيّة الوليد بن يزيد. تصف مجونه ولهوه وحبّه للخمر والنساء وتأثير ذلك على الوضع السياسي والاجتماعي إبّان عصر خلافته. نص درغوثي كان في الحقيقة جمهرة من النصوص، يجتمع فيها الشعر بالنثر والحقيقة بالخيال وتجتمع فيها قصص العرب ورواياتهم وأخبارهم وسيرهم وأساطيرهم وأقوالهم. النص الدرغوثي كان نصا منفتحا. لا نمسك فيه بالحقائق التاريخيّة بقدر ما نشارك في صناعة هذه الحقائق من خلال فنّ القص. نشارك عبر جملة الكاتب في كشف رؤية أخرى للحقيقة التاريخيّة. تتعدّد زوايا النظر والروائي يقدّم لك نوعا من الحريّة لاختيار موقفك من الحكاية ولا يفرضه عليك. هو يروي عن طريق بطله صاحب الستر حياة الوليد من وراء ستار يخفي الأسرار ويكشفها في نفس الوقت. حقائق ترى من خلف ستار فتتشابه ويصيبها الغموض رغم قربها منّا. عنصر التشويق يستعمله الكاتب أيضا كسلاح ليجرّد القارئ من سلاحه. يصدمك السرد ويغريك بمتابعة الحدث. يُعلّق الحكم الأخلاقي ويُفسح المجال للذّة النص ومتعته ويُعلّق التاريخ العام ليُكتب تاريخ الرواية. هذا التاريخ في النهاية يخضع لمقياس وحيد هو ذلك الطموح الجمالي، الذي نحسّه في الكتابة. “روايات الاعترافات والتحقيقات وتصفية الحسابات والسير الذاتيّة والوشايات واحتضارات الزوج والأب والأم وفضّ البكارات والولادات…روايات لا تنتهي، حتى نهاية الزمان. لا تقول شيئا وليس لها أي طموح جمالي ولا تحدث أي تبديل في فهمنا للإنسان ولا في الشكل الروائي..”[1]
نقد مُرعب يوجّهه الكاتب التشيكي كونديرا للروائي والرواية ولكنّه يقع في كبد الحقيقة، فكلّ هذه الأصناف من الرواية، تقع ببساطة خارج تاريخ الرواية.
تبتدأ الحكاية بعالم آثار يبحث في منطقة الجريد في الجنوب التونسي عن كنز تاريخيّ ما. بحث يساعده فيه الراوي الأول مفتتحا السرد، ثمّ ينبعث الكنز من صندوق مغلق مدفون في باطن الأرض. مدفون في بطن مسجد بُني على أنقاض كنيسة. هذا الانبعاث أشبه بجنيّ يخرج من القمقم ويخرج معه في نفس اللحظة عفريت آخر هو عفريت السرد. يتراجع الفاعل السردي الأول {راوي} رقم واحد ويحلّ مكانه راو ثان قادم من أعماق التاريخ. تاريخ الدولة الأموية أو من عصر الخلافة الأولى، تلك التي تلت الخلافة الراشدة وابتدأت معها الكتابة الفعليّة بالدّماء، كما عبّر عن ذلك الشاعر العراقي مظفّر نوّاب:
وطني علمني أن حروف التاريخ مزورة |
حين تكون بدون دماء |
صاحب الستر يروي أسرار الوليد من خلف ستارة ساترة في العادة…يروي مقتل غيلان الدمشقي وبتر ذراعيه ورجليه وقطع لسانه بذبابة السيف أمام الملأ. يروي ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى تحت محراب الجامع بعد خطبة العيد. يروي حكاية الغلام “سبرة” القاتل المحترف، الذي ذبح أحدهم في حانة وحمل الرأس في كيس من الخيش إلى سيّده الخليفة، تاركا جثة الذبيح جالسة بلا رأس وتنزف دما فوق طاولة الندامى. يروي هذا وأكثر…يروي مجون الوليد وسكره ورميه بالنبل للمصحف، بعد أن علّقه في شجرة وهو ينشد قائلا:”
أتتوعّد كل جبّار عنيــد، فها أنا ذاك جبـّار عنيـد
إذا لاقيت ربّك يوم حشرٍ، فقل لله مزقني الوليد!
إذا لاقيت ربّك يوم حشرٍ، فقل لله مزقني الوليد!
ما سرده درغوثي في النهاية هو تاريخ الرواية الآبق عن تاريخ المؤرّخين. المنفلت من تاريخ الفقهاء. ذلك الذي يروي الحكاية فقط من أجل جمال الحكاية. طبعا هناك مرجعيّة حقيقيّة لكلّ هذا، يستشهد بها الكاتب نفسه في متن حكيه، مثل “مآثر الانافة في معالم الخلافة للقلقشندي” أو “الكامل في التاريخ لابن الأثير” وغيرهم …ولكن لعبة السرد في “صاحب السرد وصاحب الستر” هي لعبة أخرى، لها ملامحها الخاصة وقوانينها الخاصة. هي لعبة الفن حين يشاكس ما حدث وما يحدث وما سوف يحدث. هي حريّة الخيال وبراعة الأسلوب.
في النهاية هي لعبة اللغة الطروب حين تتمنّع بغيّها وتأتي لطالبها، فيقذف بنا في أعماق الحكاية. نتلذّذ ونتمتّع ولا نبالي بحقائق الأشياء…كل ما يبقى هو أشبه بحلاوة تعلق في طرف اللسان وفي هلامة الروح.
مجون الوليد وكرمه. سكره وشعره. صبابته وحقده. تاريخه الذي كتبه خصومه ومريديه. كلّها ألوان وأصباغ زيّن بها الراوي رسمة شخصيّته…فيشدّنا الكتاب من أوّله حتى آخر سطر فيه. وكما لم نقبض من كتاب “اسم الوردة لامبيرتو إيكو” الّا على رماد المكتبة التي احترقت بكل كتبها في النهاية ، فمع أسرار صاحب الستر أيضا، لا نقبض على تاريخ الوليد بن يزيد المفعم بالحدث والشعر والنثر بقدر ما نقبض على الراوي الاوّل وهو يعود مجدّدا ليغلق دائرة الكتابة ويروي لنا على لسان زوجة باحث الآثار، أن الكنز المكتوب والذي وجد في باطن أرض الجامع لا وجود له.
تلك هي لعبة الفن…خيالات جميلة على جدران كهف عميق وخيالات أجمل فوق برديّة فرعونية قديمة. وبيت شعر عتيق انمحى نصفه على جلد الزمن.