-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

الكسكسو "اليتيم": آه أيها الطبق اللذيذ، كم من الفظائع المطبخية ترتكب باسمك عزيز رزنارة


لما يربو عن شهرين متتابعين ومنذ الإعلان عن الحجر الصحي بالإمارات، لم تطأ رجلاي دبي تطبيقا للتعليمات الصارمة بالالتزام بالتوصيات الصحية التي تحدد الاجراءات الاحترازية ضد الوباء، ومنها على الخصوص
البقاء في البيت، وإذا تم الخروج لأمر مستعجل وطارئ فيجب ارتداء الكمامة واحترام التباعد الاجتماعي في الأماكن العامة. وهكذا بقيت كل هذه المدة كلها في عجمان لا أغادرها أبدا.
ومنذ أيام قليلة اكتشفت أني ملأت صفحات كل مجلات شبكات الكلمات المتقاطعة والمسهمة وجداول "السوكودو" وغيرها مما أسميه رياضة عضلات المخ، لأنه يبدو أن ممارسة عادة ملء خانات الكلمات المتقاطعة والمسهمة والسوكودو مفيدة جدا في تأخير أعراض الباركنسون وألزهايمر التي تصيب بسهولة الأدمغة الكسولة التي لا تقوم بأي نشاط أو مجهود فكري، حتى ولو كان "بليدا" مثل الكلمات المتقاطعة،  كما يعتقد البعض. ولأنه لا توجد مكتبة في عجمان ولا الشارقة تبيع المجلات الفرنسية، فقد قررت الذهاب إلى مكتبة "كينوكونيا" في مركز دبي مول والتي يمكن اعتبارها أكبر وأغنى مكتبة في الإمارات. كما أنني أردت استغلال فرصة آخر يوم قبل دخول الإجراء الجديد الذي يحدد الساعة الثامنة مساء كحد أقصى للتواجد خارج البيت بدل العاشرة التي منحتنا في الحقيقة فسحة كبيرة لتنفس الهواء الخارجي.
وصلت دبي قبل الإفطار بحوالي نصف ساعة وتوجهت رأسا إلى المكتبة وجناح المجلات الفرنسية بها وهو صغير بالمقارنة مع البحر المتلاطم من الكتب والمنشورات باللغة الانجليزية. اقتنيت مجلتين خاصتين بكل أنواع مسابقات الكلمات المتقاطعة والمسهمة وغيرها، وكانت نيتي أن أتوجه إلى مطعم مغربي بأبوهيل للإفطار. ولكني اكتشفت أن الوقت لن يسعفني وربما أصل متأخرا إلى المطعم الذي يعرض الإفطار على شكل بوفيه، وغير خاف كيف يتعامل المغاربة مع البوفيه خلال الأيام العادية، فما بالك في رمضان وبعد يوم كامل من الامتناع عن الأكل والشرب، أما الصيام بمفهومه الديني فتلك قصة أخرى.
واستقر رأيي في الأخير على الإفطار في أحد مقاهي دبي مول التي بقيت مفتوحة مثل المتاجر. وكان من حسن حظي أن مقهى "بول Paul" مفتوح للعموم ويمكن الإفطار فيه. كما أني لا أعتقد أن هناك مخبزا في كل الإمارات توجد به نفس جودة معجنات "Pain au chocolat" أو "Croissant" التي تعرضها مقاهي بول في مختلف مدن الدولة. وكان في نيتي أن أفطر فقط بهاتين القطعتين وكأس ساخن من الكابوتشينو إلى أن أعود للبيت وأكمل فطوري كما تقتضي الطقوس المغربية. وخلال تفحصي لقائمة الطعام، استرعى انتباهي طبق "كسكسي بالخضار" ففرحت للمصادفة السعيدة، خصوصا وأن الليلة هي ليلة السادس والعشرين من رمضان والتي نعتبرها مجازا ليلة القدر، وقد تعود المغاربة دائما على تحضير طبق الكسكسو في هذه الليلة وإرساله إلى مساجد الحي لإطعام الفقراء وبعض المصلين الذين يعتكفون في هذه الليلة المباركة بالمساجد. لذلك طلبت من النادلة الفلبينية أن تضيف طبق الكسكسي بالخضر إلى طلبيتي الأولى بالمعجنات والكابوتشينو.
بعد أذان المغرب، أفطرت مكتفيا فقط ب Pain au chocolat والكابوتشينو لأترك مكانا بالمعدة لطبق الكسكسو بالخضر. وبعد دقائق أحضرت النادلة الكسكسو في طبق من البلاستيك كما تقتضيه التعليمات الصحية للحجر، وكنت أتوقع ذلك. وكانت حبوب السميد تبدو جافة بدون مرق وكأنها وضعت مباشرة من إناء طهوها بالبخار في طبقي. ولما سألت النادلة عن المرق، أجابتني بسؤال عن أي نوع من المرق أٍريد. ففهمت أنها لم تع ما معنى المرق بالنسبة لطبق الكسكسي. شرحت لها بأنه نفس المرق الذي طبخت فيه الخضر، فأخبرتني بأنهم يقدمون الكسكسو هكذا دون أي مرق مصاحب. لم أجادلها وشكرتها وانصرفت. تأملت مليا طبق الكسكسو أمامي كانت قطع الخضار المختلفة أكثر من السميد، وبدون لحم بطبيعة الحال.
أن تأكل كسكسو بدون لحم، فتلك بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ذكرني الطبق أمامي بهذا الكوكتيل من الخضر وبدون لحم، بطبق مشهور في المغرب تخصص فيه طلبة الجامعة أو العزاب في المساكن المشتركة. كنا نسميه "الخردولة"، وكنا نجمع فيه كل ما هو موجود من خضر في البيت ونطبخ ذلك في مرق وفير وبدون لحم بطبيعة الحال. لم أجد تسمية أعطيها لهذا الطبق أفضل من "الكسكسو اليتيم"، لأني أعتبر أي طبق كسكسو بدون لحم هو بالفعل كسكسو يتيم. ضحكت مع نفسي وتمنيت لو كان هناك نادل أو مسئول عربي بالمقهى لأقترح عليه تغيير إسم الطبق في قائمة الطعام واستبداله ب"الكسكسو اليتيم". أكلت قليلا من الطبق وطلبت من النادلة أن تعد ما تبقى منه لآخذه معي، لأن السميد المطبوخ والناشف ليس أحسن منه لتحضير أكلة "صيكوك" لذيذة بالنظر إلى جودة اللبن في هذا البلد.
غادرت المقهى ودبي مول وتوجهت رأسا إلى حي "أبو هيل" الذي أسميه "الحي المحمدي" حيث العديد من المحلات والمطاعم المغربية. توقفت عند محل "الحمداني للحلويات" واشتريت كل مستلزمات إعداد "كسكسو بوالديه" من سميد رقيق مغربي، وبهارات وسمن وغيرها، وأنا أنوي رد الاعتبار إلى هذا الطبق الذي نال من أنواع الابتذال والتزوير على يد الكثير من المطاعم هنا ما لم ينله أي طبق آخر.
"كسكسو مغربي"، "طاجين مغربي"، "شاي مغربي" وحتى "حمام مغربي" أصبحت لا تثير في هنا أي إحساس بالانتماء، أقرأها مثل ما أقرأ "مندي يمني" أو "مساج تايلاندي" وغير ذلك من المسميات التي فقدت فحواها في ظل هذا الخليط العجيب الغريب من الثقافات والعادات والتقاليد التي تداخلت بينها وأنتجت أنماطا من المواد والمنتجات المسخ التي لا يبحث أصحابها سوى عن الربح السريع الوفير.

عزيز رزنارة
دبي في 19 مايو 2020


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا