-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

"سيدنا قدر"... الهندي عزيز رزنارة


اعتاد المغاربة شخصنة بعض الرموز والمعالم الدينية لتسهيل تناولها في أحاديثهم وأدبياتهم الشعبية من زجل أو حكاية أو غير ذلك. وهكذا تصبح مكة المكرمة "لالة مكة" ويتم الحديث عنها كأنها امرأة كما هو الحال في بعض
قصائد الملحون للفنان الراحل محمد بوزبع الذي يتغنى ب "مكة يالالة، يا مكة يالالة، مكة يالالة وشغلتي لي بالي"، وكذلك الأمر بالنسية لشهر رمضان الذي ينعت أحيانا ب"سيدنا رمضان" وتنسب إليه قوة خارقة في الانتقام ممن لا يقومون بصيامه، وكثيرا ما يقال عن مفطر رمضان عمدا إذا أصابته نائبة: "خرج فيه سيدنا رمضان". إلا أن أكثر الرموز شخصنة عند العامة هي ليلة القدر، حيث كان البعض، وخصوصا لدى الأطفال، يرمز لهذه الليلة ب"سيدنا قدر"، وهو في الوعي الشعبي عبارة عن ملك يمر في السماء في هذه الليلة ووراءه نور ساطع، وكل من أسعده الحظ بلقاء أو رؤية هذا الوميض من النور الذي يرمز ل"سيدنا قدر"، ما عليه سوى أن يمطره بكل متطلباته وحاجياته لكي يلبيها له حالا. وكنا ونحن صغار في ليلة القدر المباركة نبقى سهرانين حوالي مساجد الحي في انتظار "قصريات الكسكسو" التي يأتي بها سكان الحي لإطعام الفقراء والمعتكفين في المسجد، ونراقب السماء عسى أن يسعدنا الحظ بظهور "سيدنا قدر" لنعطيه لائحة طلباتنا التي كانت في مجملها بسيطة ومعبرة عن طموحاتنا البريئة في تلك الفترة من الزمن الجميل. كان بالنسبة لبعضنا أشبه ب"بابا نويل" مسلم.
ورغم مرور الزمن وتوالي السنين، احتفظت ذاكرة أكثرنا بهذه الرموز ومسمياتها نظرا لورودها في بعض عناصر التراث الشعبي مثل الأمداح أو الحكايات أو الأدعية الدينية وغيرها، ورغم ولوج أغلبنا مراحل متقدمة من التعليم الجامعي مازال في لاوعي بعضنا ركن يقبع فيه "سيدنا قدر" ونأمل في قرارة أنفسنا لو ألتقيناه ذات ليلة قدر ليحقق بعضا من طموحاتنا التي لم تعد بسيطة ولا بريئة، بل وتعقدت بتقدمنا في السن وتعقد نمط حياتنا حتى صار أغلبنا لا يستطيع أن يعبر عن طموحاته لو صادف حقا "سيدنا قدر".
قبل سنتين، كنت قد أفطرت يوم 26 من رمضان عند بعض الأصدقاء في منطقة جميرا بدبي، وامتد بنا الحديث والسمر بعد الإفطار إلى حين دخل وقت صلاة العشاء. فاستأذنت من مضيفي لكي أغادر علني أدرك بعضا من صلاة التراويح وختم القرآن في المسجد الذي داومت على ذلك فيه بمدينة عجمان. كان الجو ممطرا ذلك المساء، وكانت حبات المطر الخفيفة تتناثر على الزجاج الأمامي للسيارة ثم لا تلبث ماسحة الزجاج المطاطية أن تطردها فاسحة المجال للرؤيا في طريق لا يعرف زحمة في ذلك الوقت من الليل، ومن شهر رمضان. تجاوزت "قرية المعرفة" بقليل على شارع جميرا، وأحسست بشيء غير عادي في سير السيارة التي لم تخذلني يوما منذ اقتنائها لما يفوق السنتين. انتحيت جانبا وأوقفت السيارة على قارعة الطريق، ونزلت لكي أعاين ماذا وقع. كان أحد إطاري السيارة في الخلف معطوبا ووصلت العجلة الحديدية إلى الأرض بعد تسرب الهواء. وكان إذا لابد لي من تغيير العجلة المعطوبة بعجلة الطوارئ إلى حين الوصول إلى عجمان ثم إصلاحها آنذاك غدا عند مصلح العجلات. نزعت معطفي رغم المطر، وفتحت الباب الخلفي لمعاينة المعدات اللازمة لرفع السيارة وإزالة العجلة المعطوبة. كانت هذه أول مرة أغير فيها عجلة السيارة منذ اشتريتها قبل عامين. كان المخزن الخلفي للسيارة مليئا بالكتب والأوراق ومظلة وكراسي البحر، وكانت المعدات المطلوبة تقبع تحت كل هذا الركام. كل هذا يعني أن علي إخراج كل محتويات المخزن الخلفي خارج السيارة مما سيعرضها للتلف نتيجة للمطر الذي بدأت حدته ترتفع مباشرة عندما توقفت. استطعت في البداية اخراج رافعة السيارة والمفتاح الذي سيمنكنني من فك أزرار العجلة المعطوبة ونزعها. كانت يداي متسختان ولا تستطيعان التحكم في مفتاح لوالب العجلة. ورغم توفقي في رفع السيارة، كان لابد من جهد مضاعف لكي أتمكن من فك لوالب العجلة المعطوبة والتي رفضت أن تدور حتى ولو قفت بكل ثقلي على المفتاح الحديد. أشعلت أنوار الطوارئ الأربعة في السيارة ووقفت أفكر في طريقة لحل المشكل. خطر ببالي أن أكلم الشرطة لطلب الدعم من إحدى وحدات الطوارئ التي تجوب شوارع المدينة في كل وقت. وجعلت هذا آخر حل إذا لم أوفق في نزع العجلة المعطوبة. لم أعد أبالي بالمطر، ولا باتساخ ملابسي بل تركز فكري فقط في البحث عن وسيلة للخروج من المأزق. ثم لا أدري كيف تذكرت أنني خرجت مسرعا من بيت مضيفي لأنني كنت أود حضور صلاة التراويح في ليلة القدر، وابتسمت عندما خطر ببالي فجأة لو أن "سيدنا قدر" مر من هنا لكنت لخصت له كل طموحاتي في تغيير عجلة السيارة فقط. واستغربت كيف أن الإنسان يغير أولوياته حسب أوضاعه.
وبينما أنا مستغرق في أفكاري تحت وابل المطر وفي عجز كامل عن فتح لوالب عجلة معطوبة في شارع شبه مقفر، جاءتني إشارات ضوئية من سيارة قادمة في اتجاهي، ثم ما لبثت أن توقفت أمام سيارتي على قارعة الطريق. نزل منها ثلاثة شبان بملامح آسيوية. سألني أحدهم إذا كنت أحتاج للمساعدة فأخبرته بأني لم أتمكن من فتح لوالب العجلة المعطوبة لأنها محكمة جدا ولم يسبق أن فتحتها منذ شراء السيارة. طلب مني فقط أن أدله على مكان عجلة الطوارئ وأن أنتحي جانبا تحت إحدى الأشجار اتقاء للمطر. في خلال دقائق معدودة كان الشباب الثلاثة قد أزالوا العجلة المعطوبة واستبدلوها بعجلة الطوارئ وأنزلوا السيارة ووضعوا كل المعدات في أماكنها أمام نظراتي الممتنة والشاكرة. سلمت عليهم بحرارة وشكرتهم جدا، وعلمت أنهم هنود.
ركبت سيارتي، وأخدت نفسا طويلا قبل تشغيل المحرك. وانتابتني نوبة ضحك هستيرية لوحدي في السيارة. تأكدت أن "سيدنا قدر" لم يخذلني عندما تذكرته في ليلة القدر، وربما نظرا لكثرة مشاغله في المغرب، وما أكثر مطالب المغاربة، أرسل لي ثلاثة من "سيادنا قدر" الهنود لكي يساعدوني في حل مشكل السيارة.
السؤال الكبير المحير الذي استبد منذ تلك الليلة والذي يلازمني إلى الآن: كيف للإنسان أن يلخص أحيانا كل طموحاته ومشاريعه في حلول تفرضها وتقتضيها منه ظروف آنية زائلة؟.
ربما الجواب في قوله تعالى: "وخلق الإنسان ضعيفا"

عزيز رزنارة
عجمان في 20 مايو 2020 (27 رمضان 1441)    

عن الكاتب

ABDOUHAKKI
  1. أرى انه قد اصبح من الواجب جمع هذه المقالات كما فعل الجواهري في نوافد وتم تحويلها إلى فيلم قصير او مسرحيات ولم لا سلسلة تلفزيونية كل يوم تتطرق إلى حدث معين.وشكرا

    ردحذف




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا