لم أكنّ يوما عداوة لريشة أو كرها للقماشة البتّة وما بِتُّ أبحث عنه في السّنوات الأخيرة في زيارتي للمعارض ذلك النّفس المعاصر للأعمال الفنيّة التي تقلّ نسبة عرضها
مقارنة بنسبة المعروضات أو النتاجات الفنيّة التقليديّة من نحت ورسم وخزف دون أن ننكر مباركة نجاحها في إتقان وإخراج لخلطات رفيعة من الألوان والأشكال وما تأخذه المنحوتات من مكانة هامّة في قاعة العرض وبراعة فنّانينها في مجابهة قساوة المادّة.
لكنّ صرت أتوق دائما للبحث عن ما أقرّه “جون لويس برادال” “Jean Louis Pradel” في ما يخصّ الفنّ المعاصر في قوله: “الفنّ في النّصف الثاني من القرن العشرين لم يتقمّص تعريفا محدّدا بل اكتفى بكونه معاصرا”[1]، في صفوف هذه الأعمال واعتمادا على ما قاله وجب على الفنّان اتّباع هذا المبدأ بأن يتخلّى عن فاعليته الرّمزيّة كأن يغطّي قماشة بيضاء بل لابدّ له أن يتمسّك بزخم الحادث ويخرج عن المنطقي والرّوتيني والمألوف في الفنّ نحو اللاّمألوف في العرض والوسائط المعتمدة فيكون ارتجاليّا بامتياز ومنه تعلّقه بالحياة والتي تفرز بالأساس مقاربات فنيّة حياتيّة وهو ما سنجده في المعرض الافتراضي ثلاثي الأبعاد للفنّان التّونسي سامي بن عامر والذي يضمّ جملة من الرّسومات الرّقميّة أظهر من خلالها قدرته على التفاعل مع متغيّرات الحياة وما يفرضه الوضع الرّاهن وسنرصد قراءة لبعض الرّسومات التي تحمل في طيّات عدد من “البيكسلات” “les pixels” هواجس فنّان حوّل “عزلته” أو دعنا نقول “العزل ” الضّروري العامّ جملة من العلامات والرّموز المكتظّة على شاشة الحاسوب، لكن هل كنّا بحاجة إلى هذا الحضر والحجر للظفر بأعمال فنيّة معاصرة قلبا وقالبا ، مبنى ومعنى؟ هل فرضت هذه “الجائحة” ضرورة ملحّة لتغيير نظرتنا للواقع الفنّي والثقافي بصفة عامّة وباقي المجالات الأخرى؟ وهل ستفرض هذه التّجربة ومثيلاتها تغييرا في المعطيات والبروتوكولات الفنيّة خاصّة مع إصرار الرّقمي والافتراضي اليوم في توسيع رقعته والتمادي في فرض سطوته العالميّة؟
“لمسةٌ مميتة” عنوان المعرض الافتراضي ثلاثي الأبعاد” لبن عامر” ويضمّ عشرين عملا رقميّا مقدّما في شكل فيديو لمدّة ثلاث دقائق و خمسة وخمسين ثانية، إنّ هذا العنوان يجعلك تقف وقفة قصيرة قبل خوض مغامرة الفرجة لما يحمله من شحونات تعبيريّة وتقابل وتناقض في الآن ذاته بين الكلمتين ذلك أنّ اللّمسة تنحدر من عائلة “العاطفيّة” فهي حنونة، رقيقة، شفّافة أحيانا تحسّ بالقلب قبل العضو تردّ الرّوح بل تحيي أحيانا وفي مقابلها “مميتة” من الموت فسواد فقتامة وفناء إلاّ أنّ هذا التركيب والتزاوج لا يستقيم إلاّ في زمن الجائحة أين تصبح اللّمسة تأشيرة عبور للعالم الآخر حيث اللّاعودة. تتبدّل اللّمسات وتتغيّر في هذا السياق وما اللّمسة الرّقميّة إلاّ وسيطا اعتمده الفنّان لإنتاج جملة من الأعمال الرّقميّة تقاسمها على “قناة يوتيوب” خاصّة به سبقها النشر التدريجيّ على جداره الفايسبوكي، هذا الأخير الذي أصبح ملجأنا اليوم حيث نتقابل ونتسامر ونحزن ونخفّف الوطء على أنفسنا، تبادل فيه زائرو بن عامر الافتراضيين التعاليق فتعدّدت واختلفت فكانت دافعا ومحفّزا للمواصلة ربّما، خاصّة وأنّ الفنّان تعوّد على القماشة والمادّة ليجد نفسه اليوم في وضعيّة مختلفة تمام الاختلاف عن وضعيّة المرسم.
عالم “الكورونا” هو عالم جديد، لقيط ربّما لا ينحدر من أصل ولا تاريخ لكن جغرافيّته ممتدّة، دعنا نقول أنّه غريب بل مخيف وملغز شكّله “بن عامر” في جملة من التركيبات الخطيّة الرّقميّة الثابتة أحيانا والمرتعشة طورا آخر فأخرجها إخراجا تراجيديّا دراميّا وإذا نبشنا ذاكرتنا بحثا عمّا يتماهى معها فنجد في “الجرنيكا” “Guernica” ما يذكّرك في الأجساد المتشظّية والمقطّعة من خلال التجزؤ بل الجزء المجزّأ من الكلّ وهو ما يظهر جليّا في اللّوحة التالية المعنونة بـ”الهلع”.



