يظهر ، منذ بداية القرن
العشرين ، أن النظريات التي اهتمت بالأدب ، كانت تمد جسور التواصل بين المؤلف و
النص . على اعتبار ، أن هذا الأخير عبارة عن أشكال ورموز وإشارات . إن
النص ، بهذا المعنى و البناء
، يستطيع أن يجسد الإسقاطات الذاتية للمؤلف . فمهما حاول الكاتب أن يتملص ، من هذه
الخاصية ، يجد نفسه يتمرغ في تأويل النص
الأدبي ، بل يصبح ناقدا من الدرجة الأولى من خلال فك رموز النص وشفراته وشيماته ،
استنادا إلى الرؤية التي تبوصل عمل الكاتب أو المؤلف . بعيدا عن التأويل ، قريبا من النص ، يصبح
الكاتب ، في هذا المستوى ، مجرد ناقل لتجاربَ تستكملُ دورتها هجرة ٌيخضع لها النص
. وبذلك ، تغدو هجرة النصوص في الأدب ثقافة حديثة ، تقاطعت مع عديد من العلوم ،
لتأخذ حيزا في النقد والتأويل والبحث الأدبي .
فمن
بين أهم العلوم ، التي استندت إليها هذه الهجرة ـ أي هجرة النصوص ـ نجد علم النفس
بالدرجة الأولى ، حيث جعلت للمؤلِف مكانة رفيعة في هذا التفاعل البناء . إن من بين
أهم التعابير ، التي تؤشر لهذا العبور الآمن ، إلى ضفاف الإبداع ، نخص بالذكر
" لاشعور النص" و " لا وعي
النص ". إن هذه القيم الجديدة لم تنبثق في ساحة الأدب بعامة و النقد بالخاصة
، إلا عبر دراسات نفسانية لكتب أدبية ، كان لها وزن في الثقافة ، بل غيرت مسار
الدراسات العلمية التي تعنى بالإنسان كظاهرة كونية . وعندما نذكر علم النفس لابد
أن نستحضر المؤسسين لهذا العلم ، الذين أقدموا ، بكل جرأة وشجاعة ، على تشريح النفس الإنسانية ، وأرغموها
أن ترضخ للعلم الإكلينيكي السريري .
فمع سيغموند فرويد وجاك لاكان و جان بيلمان نويل وغيرهم ، سافر الأدب و التحليل
النفسي ليرتاد عوالم أثيلة ، تبحث في نقط الائتلاف والاختلاف بين الناقد النفساني
و الناقد الأدبي ، ومن ثم أصبح لاوعي النص صورة يعتمد عليها الأدب في التحليل . فضلا
على أن التحليل النفساني ، حسب فرويد ، يحافظ على جوهر الأدب ؛ يضمن له الاستقرار
، وينشد له الاستمرار . وفي السياق ذاته ، فسح التحليل الفرويدي ، بداية العشرية
الأولى من القرن العشرين ، الباب على مصراعيه للمنهج البنيوي من خلال تناوله بالدرس
والتحليل رواية غراديفا للروائي الألماني ويلهالم جونسون ، حيث لم يعد يثير فضول
الناقد والباحث لا حياة الأديب وتاريخه ،
ولا الظروف الاجتماعية ، التي بلورت حس الإبداع لديه . إننا ، كما يقول الباحثون ،
أمام موجة جديدة من دراسات تبحث من خلال النص عمَّا لم يقله النص ذاته . وعلى
النقيض من ذلك لم يكن الطريق سالكا و آمنا أمام استكناه أغوار الشخصيات ، عبر ما تثيره
من أحلام و هذيان ، وإنما ظل النص الأدبي مستغلقا بحاجة ملحة إلى مزيد من اكتشافات
منهجية ؛ بهدف استجلاء الغامض فيه .
جرت
، تحت الثالوث : " النص، المؤلف ،
والقارئ " مياه كثيرة . فلم يكن مقال " موت المؤلف " لرولان بارث
القشة ، التي قصمت ظهر البعير . وإنما هو مدعاة إلى حوار بناء بين النص الأدبي و
قرائه . فمما سبق يظهر أن فرويد ، رغم الانتقادات الحادة التي تعرض لها ، بفعل تشريحه
لأحلام المؤلف و هذيانه و ميولاته النفسية
، استنادا إلى المعجم الموظف في العمل الروائي ، إلا أنه اعتبر إرهاصا حقيقيا،
يدفع في اتجاه التفاعل الداخلي للناقد مع الأثر الأدبي ، علاوة على ذلك استطاع أن
يخلع عباءة الذاتية المتسلطة للكاتب في كل المراحل التي يمر منها الإبداع .
ف" موت المؤلف " جعل الدراسات الأدبية تنظر إلى اللفظ والمعنى وإلى
البناء الداخلي للأثر الأدبي . مما دفع بالمفكر الألماني روبيرت ياوس إلى توظيف
عبارات تليق بالمرحلة الجديدة من الدراسات الأدبية ألا وهي : " جمالية التلقي
" التي استندت إلى الأدب المقارن ، وإلى السبل الجديدة لتلقي الخطاب الأدبي .
فمن هذه الزاوية ، وبخروج غير آمن للمؤلف من دائرة الاهتمام ، و تعويضه بالمصطلح
الواصف الباعث على الخيال والتأمل التلقائيين للأثر الأدبي ، تم توسيع رقعة التلقي
النص الأدبي ، فضلا عن إذكاء روح
الديناميكية بين النص و القارئ .
ليس
بعيدا عن البناء الجوهري للنص الأدبي ، وما يثيره من نواقصَ على مستوى التلقي ،
فإن الانزياح اللغوي ، الذي يلجأ إليه النص ، يجعلنا في ورطة حقيقية ، خصوصا عندما
نقتفي أثر المعنى . بدليل على ذلك ، نقط الحذف التي أصبحت ميـْسم الإبداع المعاصر .
إن احتفاء هذا الأخير بالمحو والنقصان
دليل على أن العالم ناقصٌ وغير كامل ، بل مبتور ومحذوف . لذا ، فاللجوء إلى الخيال والإسقاطات و
الرؤيا والهذيان ، وأحلام اليقظة ... كلها سبل نحو معانقة ما لم يستطع البوحَ به النصُ
الأدبي . وهكذا ، فإن الظاهرة الأدبية تعكس حقيقة تعقد الظاهرة الإنسانية في
عموميتها، من زاوية التفاعل و الديناميكية ، التي ينسجها القارئ مع النص . فمن شأن
الانزياح ، في هذا المستوى ، أن يعيد بناء و تشكيل النص من جديد وفق إسقاطات ذاتية
، مستقدمة من مختلف المشارب المعرفية ، التي هاجرت إليها الذاتُ العارفة .
ففي رواية " رحلة الغرناطي " ، للكاتب اللبناني ربيع جابر ، والتي
عرفت نجاحا كبيرا ، أكبر دليل على هذا التفاعل الغامض بين القارئ والنص ، من زاوية
أنها تجسد علاقة غامضة وملتبسة للإنسان مع الزمان والمكان . فالإحساس بالغربة
والفقد والحرمان ، في الذات والآخر ، من أهم الإسقاطات ، التي دفعت بالرواية إلى
بقعة الضوء في الساحة الأدبية العربية ، حيث إن القارئ العربي يحس بأنه يعيش ، مع
جابر ، تجربة التيه و الفقد والحرمان
الأبدي . فالتيه تيهان ؛ تيه الأخ الأكبر " الربيع " في غابات غرناطة ،
وتيه الأخ الأصغر " محمد " في البحث عن الربيع . بيد أن في هذين التيهين
تيـْها أعظمَ و أكبرَ ، هو عندما يرفع جابر الستار المعتم عن تاريخ تشكل في لحظات
متباعدة لمنطقة هامة من الوجود العربي بالأندلس .
تقودنا هذه الإسقاطات ، أخيرا ، إلى متعة و دينامية
تتحكم في العلاقة ، التي تربط بين النص والقارئ ، وبالتالي نكون بحاجة ماسة إلى
مزيد من الإبحار المعرفي ، حتى تتوطد هذه العلاقة ؛ لأن استجلاء الغامض في النص لا
يتأتى إلا بالبحث و المعرفة المتجددة .