ـ 1 ـ
نأمات و تأوهات وهمهمات ...
عيون مائية
دامعة ، و حسيرة ...
من طاقة البيت الصغير المدهون بطلاء أزرقَ ،
كانت حدوم تنتظر القادم البعيد ، وهي تعاني الفلج و داء النقرس ، الذي بدأ يفتت
أجزاء من عظمة قدمها اليمنى . فحينما تشتد عليها جمرة الغضا ، من مرض ينخرها
كالسوس ، تزحف على ما تبقى من أشباه أقدام ، باتجاه عين بوثمسيردين ؛ الماء الزلال
الصافي ، الذي يكفكف لها جراحا و يداوي سقما .
يتدلى جسدها المهيض عبر سلم حجري ، لتجد نفسها في ممر ضيق على شكل
حزام ، يشق الربوة إلى نصفين . ما أن تخرج من عتـْمة النفق ، حتى تزكم أنفاسها
رائحة خصوبة تراب مبلل بدبال تحلل في
أحواض صهريجية صغيرة . عندما تسرح عينيها
الحسيرتين نحو المقبرة ، في الجهة المقابلة ، تظهر لها ثمار الصبار معلقة في
السماء كقنابل متهاوية من السماء ، فتصعد إليها جلبة الصبية ، وهم يتصايحون
ويلعبون مخلفين وراءهم عبابا من غبار مسحوق كالطحين .
الأرض محروقة قضى عليها اليُبس و اليباب ، فالأمطار لم تعد تزور آيت
عبو ، وحبالها القديمة الشتوية ، التي تشق طرقات و تفجر أنهارا و ينابيعَ ، هي
هكذا قديمة ووادي الهدير لا يُسمع له عرين ، يحمل صخورا و دوابا ، وكل ما يصادفه
في سمته المنحوت من خيام وبرية ومواش، وأحيانا يغور على مطاميرَ مدفونة تحت الأرض
، فيخرج منها زرعا ، ويجلب معه ضرعا ؛ فتأكل كلاب و ذئاب حتى الشبع ، أما النمل
فهي في حركة دؤوب ، تكسر الحبات وتخزنها في باطن الأرض السخية . عندما ينتهي
كرنفال وادي الهدير ، وتعود الشمس إلى الظهور، ناشرة أطيافها الذهبية ، تخرج من
الأرض نباتات رُمحية على شكل نبال حادة ، كما لو أنها تحرس البلدة ، لتهيم في سكون
مقيم و أبدي .
كان المكان كله يسبح في نور وأطياف برتقالية بهيجة ، عندما اقتعدت
حدوم مكانها بالقرب من النسوة في بوثمسيردين ، ومن حولها التصقت قمم أشجار
السنديان بالسماء . قالت حدوم ، بعد تلكؤ و نأمات متتاليات :
ـ هل نزل الشبان إلى القرية بالأمس ؟
أجابت النسوة في صوت واحد .
ـ لا يا أمي حدوم .
لم يسعفها الكلام ، حتى أحست بألم ضاجر ، يخترق
جسدها الواهن . سرحت قدمها اليمنى تحت التينة الصغيرة .
ـ ذهب عقة ليبحث عن أخيه ، فلم يعد لا هو ، ولا
عبو . منذ أن جرفه وادي الهدير ، وعقة
أصبح مخبولا عن أخيه .
صاحت إحدى حسنوات بوثمسيردين :
ـ قيل ـ يا أمي حدوم ـ إنهم صادفوه في أسواق
العمورية البعيدة ، يتاجر في الأثواب
والعطور و الزيوت . تراه يا أمي حدوم لا يريد أن يعود إلى البيت وإلى آيت
عبو ، إلا ومعه ثروة كبيرة .
ابتسمت حدوم على ثنيتين ذهبيتين . وقاطعتها
بزفرات متقطعات :
ـ الثروة تجلب السعد ، وتدفع النحس . أكيد
سيكون من نصيبكن ، فالسمكة ، يا بنتي ، لا تعوم ، ولا تحيا خارج وادي الهدير .
عادت حدوم أدراجها كما تعود الطيور إلى أعشاشها
، فاختفت بين شعاب و ممرات دائحة
وضيقة .
ـ 2 ـ
كان البرتقال ، في ذاك العام ، وفيرا ؛ العام الذي جرف وادي الهدير
عبو المسكين . فتحلق ناس كثر في المكان ، الذي أمسى نقطة انطلاق رحلة عبو نحو
المجهول . كان البرتقال وفيرا و الليمون و الرمان أيضا و المشمش و حبات الكرز ،
والبصل ، والتين فنبت في ذاك العام نبات يشبه الرمح والنبال ، ونبات آخر يضارع كف البشر . فكلما
هبَّ نسيم في وادي الهدير ، ترتفع هذه الأيادي بالتحايا و ربما بالوداع ، إن تحول
النسيم إلى ريح تعوي في قلب وادي الهدير .
داء النقرس تحكم في حدوم . فلم تعد مياه عين بوثمسيردين ، التي فجر
ينابيعها وادي الهدير ، تشفي سقمها و علتها
. فكلما انحدر قطيع الغنم مصحوبا بالكلاب و الكراز إلى المباءة ، تزحف حدوم
على جهتها اليمنى من جسدها المهيض ، وتستعد لإشعال الذبالة المنغمسة في سائل كحولي
، كي تضيء ليلتها البهيمة في انتظار القادم من الأيام . بينما تستحضر صور فلذات
كبدها ؛ عقة و عبو ، وما لاكت عنهما طواحين الهواء عند الحجرة الملساء في قلب آيت
عبو ، تذرف دمعا ساخنا على خدين أكل منهما الزمن ، وعلى فراق كان يتوارى بين الجوى
والجوانح ، فأصبح حقيقة تعيشه حدوم وجها لوجه مع وادي الهدير.