كنت منهمكا
في ركن سيارتي بمحاداة رصيف بناية القنصلية المغربية بدبي، عندما أثارت انتباهي
مجموعة من الشباب على الرصيف المقابل للقنصلية، بعضهم كان واقفا بينما جلس الآخرون
على الأرض محتمين بظل الجدران من حر الشمس خصوصا في منتصف النهار وفي عز الصيف.
تبينت من سحنتهم أنهم شباب مغاربة، وتلك فراسة تولدت لدينا نحن المغاربة في المهجر
بحيث نتعرف على أبناء البلد فقط من تقاسيم الوجه أو تصفيفة الشعر وحتى طريقة
المشي. لم أكن لأهتم بأمر المجموعة لولا أني لمحت أحدهم ينظر باتجاهي، ثم انتظر
إلى أن انتهيت من ركن سيارتي لكي يعبر الشارع متجها نحوي. عندما خرجت من السيارة
كان قد وقف أمامي، وبادرني بحديث بصوت جد منخفض لم استوعب منه سوى التحية في
بدايته. كان يتحدث ورأسه منخفض كطفل أمام أستاذه وبصوت لا يكاد يسمع. ولأني كنت
مستعجلا لقضاء غرض إداري بالقنصلية، والدوام شارف على نهايته، فقد بادرته بالسؤال:
- نعم؟ آش
بغيتي؟
وربما كان
لسؤالي، وخصوصا لهجتي وقعا سيئا في نفس الشاب، مما أشعرني بالحرج من طريقتي الفظة
في سؤاله. أردت تدارك الأمر، إلا أنه كان أسرع مني ورد علي بجواب أخرسني لثواني
معدودة. ويبدو أنه استعاد صوته، فأجابني بوضوح وهو يبتسم ولأول مرة يرفع رأسه
وينظر إلي مباشرة في عيني:
- بغيت بلادي
باغتني رده
لأول وهلة، ولكن ضحكته الخفيفة والتي أجبرتني أنا أيضا على الضحك أزالت الإحراج
بيننا، مما ساعده على إيضاح مبتغاه بشكل مباشر وجلي. أخبرني بأنه هو والمجموعة
الواقفين على الرصيف المقابل عالقون في الدولة، ومنهم من كان فقط ترانزيت لأيام
قليلة في دبي قادما من دول آسيوية يتعامل معها تجاريا في انتظار رحلتهم مع طيران
الإمارات للعودة للمغرب، ولكن ظروف الحجر اضطرتهم إلى البقاء هنا ما يزيد عن أربعة
أشهر، ونفذت منهم مدخراتهم وأغلبهم لا يجد ما يسد به رمقه. وكان أملهم أن تشملهم
رحلات إجلاء المغاربة العالقين بالدولة، والتي اقتصرت فقط على من حجزت لهم إقامات
في بعض فنادق الدولة. ونظمت الخطوط الجوية المغربية رحلة واحدة يتيمة لإجلائهم
للتخلص من الأعباء المالية إزاء الفنادق. وكان الأمل أن تفتح الأجواء المغربية
ليتمكنوا من استعمال تذاكر العودة التي دفعوا ثمنها لشركات أخرى غير الناقلة
المغربية، لكن قرار هذه الأخيرة بتنظيم رحلات تجارية حصرية على طائراتها وبأسعار
جد غالية قضى على كل أمل للعودة في الظروف الحالية، ولذلك فهم متواجدون أمام باب
القنصلية لطلب المساعدة من كل مقيم مغربي يتردد عليها لغرض إداري.
بقيت لوهلة
ساكتا وأنا لا أصدق ما سمعته، خصوصا عندما أخبرني أن جهات محلية في دبي وأبوظبي
تكفلت بإيواء العالقين الذين لا مأوى لهم، في انتظار أن تسمح السلطات المغربية
للشركات الجوية بتسيير رحلاتها التجارية إلى المغرب، لأنه في كل الأحوال من
المستحيل دفع ثمن تذكرة العودة عبر الخطوط المغربية لأنه مرتفع جدا.
هل يعقل أن
تتخلى حكومة عن مواطنيها بهذا الشكل المخزي، وفي مثل هذه الظروف؟
بل الأدهى
والأمر أن تفرض عليهم شراء تذاكر بأسعار خيالية فقط لضخ الأموال في صندوق لا قعر
له، لشركة يعرف الجميع أنها تعرف تسييرا سيئا، وأن الفساد فيها يزكم الأنوف.
هل ستنتظر
الحكومة إلى أن ينفد بعض العالقين تهديداتهم بالانتحار في شوارع مدينة بعيدة عن
وطنهم؟
عزيز رزنارة
دبي في
21/7/2020