منذ البدء كنا نعرف النهاية: « سيبتلع الدولار الثقافة» وهو ما حصل فعلاً. منذ أعوام بدأنا نشهد سيطرة «جوائز الرغوة» المطلقة على الإبداع العربي في أشكاله كافة: الروائي، والقصصي، والنقدي، والبحثي، وحتى المسمّى «أكاديميا» والعالم العربي، على حد علمي، ليس فيه أي أكاديمية، لا علمياً ولا أدبياً.
ورأينا مظاهر البذخ واستقطاب النخب العربيـــة في المهرجانات المشهـــــدية التي تقيــمها سلطات هذه الدول «الثقافية» أثناء احتفالات توزيع جوائزها، أو مِنَحها الأميرية بالأحرى، للكُتّاب والشعراء والباحثين الممتثلين لتصوّراتها المتخلّفة للحياة والوجود والأدب والفن.
في سنوات الثقافة العربية السود، هذه، سادت ظواهر الابتذال والامتثال. واختفت من الساحة الأدبية النظرة الثاقبة، والإرادة المستقلّة، والإبداع الحر. وصارت الثقافة العربية «إنجازاً جوائزياً» بامتياز، وكأنها كُتِبتْ تحت الطلب. ودخل مسرح الإبداع جيوش من الباحثين عن الذهب بلا تعب، ومن المهووسين بالشهرة من أول فرصة، ما جعلهم يلقون خلف ظهورهم بكل اعتبار آخر غير محاولات إشباع الذات المتلهّفة على الأضواء والمتحمّسة للتصفيق والمال، ناسين أن الإبداع شيء آخر تماماً.
هذه المقدمة ضرورية لنؤكّد على أن الامتثال لإرادة «سلطة الجوائز» ومؤسساتها إنما هو موقف سياسيّ قبل أن يكون ثقافياً. والآن بعد أن بان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والذي كان في الحقيقة، مرئياً منذ زمان، صار علينا لزاماً أن نحدد مواقفنا الأدبية بدقة ووضوح وصراحة ووعي. نحن مع من؟ ولماذا؟ وكيف؟ وهي الأسئلة نفسها التي يسألها كل مبدع حصيف: لماذا أكتب؟ ولمن؟ وكيف؟
لنكفّ عن التبرير، إذن.. ولنَنْتهِ من ألاعيبنا اللفظية، لم يعد التمييز بين السياسة والثقافة في العالم العربي الغاطس في الانهيارات مقبولاً. ولا معنى لثقافة لا تقف في صف العدالة والأخوّة والتحرر. الآن، صار واضحاً أن لعبة الجوائز الأدبية، وبالخصوص الممنوحة من دول «مُدُن الملح» تطمح الى استيعاب الأدباء العرب من جميع الأقطار، وكَبْح أهوائهم، نحن نعرف أن آخر همّ لحكّام هذه المدن – الدول هو الثقافة، أيا كان نوعها. وهنا علينا أن نوضّح إننا لا نقصد الشعوب العربية في أي قطر أو مدينة، وأنما نقصد الحكّام المسؤولين، تحديداً، وسلطاتهم الثقافية الملتبسة.
نحن نكتب للحرية والأخوة والعدالة الإنسانية والمساواة، وبالـــــتالي نـحـــن مع حق الشعب الفلسطيني في الوجود الحر بكل مقوماته، وضـــد الطـــغمة الاســـتعمارية الاستيطانية الصهيونية، التي لم يبـــقَ على الكوكب الأرضي أي بقعة، خارج فلسطين، تعاني من مثل هذا الاستعمار البائس الذي سيزول بكل تأكيد. وهو استعمار مقيت، لا يضر بمصالح الشعب الفلسطيني الأبي، وحسب، وإنما، أيضاً، كما أتصوّر، بمصالح الشعب اليهودي الذي يمكن اعتباره، هو الآخر، بشكل من الأشكال، ضحية لسلطته الغاشمة التي لا ترى من التاريخ إلاّ الأعوام المقبلة، أو العقود، على أبعد تحديد.
وإذا كنا، كمثقفين، لا نريد أن نجبر الناس على فعل ما لا يريدون فعله، لأننا لا نريدهم أن يفعلوا معنا مثل هذا، فإننا نؤكّد على أننا قادرون على ابتكار فعل ثقافي مساوٍ لعمل سياسي فعّال: الامتناع عن الرضوخ لمطالب السوق الثقافية، كما هي الآن، وبالخصوص لإغراء المؤسسات التي لم تعد أعمالها ومواقفها ترضينا أو تتفق مع ما نتمنى أن يكون، بعد أن بدأت تتواطأ، وتتصالح، علَناً، مع مَنْ لا نريد أن نتصالح نحن معهم: الصهاينة المستعمرين، وتتجاهل، في الوقت نفسه، حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والوجود المستقل والسلام. هذا الموقف المناقض لموقفنا هو الذي يدفعنا، اليوم، إلى أن ندعو كافة الأدباء والمبدعين والمثقفين إلى قطيعة ثقافية وسياسية مع تلك المؤسسات، ومع أنظمتها الثقافية والإعلامية، وننتـــــظر من الذين ما زالــــوا يترددون، حسم موقفهم، والانسحاب بشكل صريح من الترشح لكل الجوائز التي تموّلها هذه الهيئات، أو تساندها، أو تتبنّاها، بجميع أنواعها، والامتناع عن حضور الاحتفالات الفرفورية البائسة التي لا تُغْري إلا «نَقّاري الصحون» الذين لا يهمهم الموقف التاريخي، بقدر ما يهمهم ملْء بطونهم، وحَشْو جيوبهم التي تظل فارغة.
وفي النهاية، إذا كنا نؤمن بأن التحرير الذاتي من كل هيمنة أيا كانت، ولو أخلاقية أو معرفية، هو أساس كل تحرر، فَلْنفْعلْه، إذن، وندعو الآخرين إلى أن يفعلوه.
٭ روائي سوري