كثرة الهم تضحك....
ذكرتني مذكرة
وزارة التعليم حول ترك الاختيار لأولياء التلاميذ للحسم بين تعليم أبنائهم حضوريا
أو عن بعد، بقصة طريفة يبدو أنها وقعت خلال سنوات الحماية الفرنسية بالمغرب، ويعكس
موقف بطلها نفس موقف وزير التعليم الذي نفض يديه من المشكل ورمى الكرة في ملعب
الآباء والأولياء.
كانت سلطات
الحماية الفرنسية تشدد كثيرا على النزوح القروي إلى المدن، وتم وضع حواجز في مداخل
المدن الكبيرة تتوقف عندها حافلات النقل العام بين المدن بحيث يتم بحث هوية بعض
الراكبين القادمين من البادية وسؤالهم عن سبب قدومهم للمدينة. وحسب مزاج المراقب
الفرنسي، فإنه كان يسمح للبعض بدخول المدينة، ويترك الآخرون على أطرافها دون
الدخول إليها. وكانت هذه المحطات التي تتوقف فيها الحافلات للتفتيش تسمى
"القامرة". وظل هذا الإسم متداولا بعد الاستقلال واقتصر معناه فقط على
محطة لسيارات النقل في مداخل ومخارج المدينة. ومازالت محطة النقل بالرباط تحمل اسم
"القامرة" الذي سمي به الحي الذي يجاورها، بينما كانت بالدارابيضاء
"قامرتان": الأولى على مخرج الدارالبيضاء في طريق مديونة وعلى مستوى حي
"عين الشق"، والثانية كانت بنواحي درب غلف وتسمى أحيانا
"لعوينة"، وبقيت هذان الموقعان يلعبان دور محطة ثانوية للنقل حتى
السنوات الأخيرة.
خلال أيام
الحماية، تعود أحد مربي الدجاج بضواحي النواصر أن يأتي إلى الدارالبيضاء على متن
تلك الحافلات وأحيانا في سيارات لنقل الدجاج، وذلك لبيع بضاعته من دجاج وبيض في
أسواق الدارالبيضاء. ومن سوء حظه أنه تم تغيير المفتش الفرنسي الذي كان يعرفه، وحل
محله مفتش جديد صارم وقاس لا يمكن التفاهم معه. أوقف المفتش السيارة التي تقل
البدوي ودجاجه، وطلب منه هويته. وبعد اطلاعه عليها سأله "ماذا تطعم دجاجك؟"
فرد عليه البدوي بدون تردد وهو يظن أنه أحسن فعلا: "القمح والشعير وكل ما
تيسر من الحبوب". فنهره المفتش ورد عليه غاضبا: "الناس لم تجد القمح
والشعير لكي تصنع منهما الخبز وأنت تطعمهما لدجاجك، هل جننت؟ ممنوع أن تدخل
المدينة". أنزل البدوي كل دجاجه من السيارة التي تابعت سيرها إلى داخل
المدينة، وانتظر وصول سيارة نقل في الاتجاه المعاكس للعودة إلى بيته.
في الغد، جمل
دجاجه على سيارة نقل ذاهبة للدارالبيضاء وسافر على أمل بيع بضاعته هذه المرة. في
محطة "القامرة" بعين الشق وجد نفس الحاجز ونفس المفتش الذي عرفه من أول
وهلة. سأله نفس السؤال عن طبيعة الطعام الذي يعطيه لدجاجه. أجابه البدوي وهو
يتلعثم قليلا: "أعطيه ما يتبقى من البذور وفضلات الطعام في البيت". مرة
أخرى نهره المفتش وصاح في وجهه: "ألا تخجل من إطعام دجاجك بفضلات الطعام وما
يتبقى من البذور، ثم تأتي به إلى المدينة لكي يأكله السكان ويصابوا بأمراض. ممنوع
أن تدخل المدينة". أسقط في يد مربي الدجاج، ولم يعرف كيف يتصرف مع المفتش أو
يجد له الجواب الذي سيقنعه. مرة أخرى أنزل دجاجه من فوق سيارة النقل، وانتقل إلى
الجهة المقابلة من الطريق ليستقل سيارة العودة.
في اليوم
الثالث، أعاد الكرة وكله حماس أنه هذه المرة سيدخل رغما عن المفتش. نفس السيناريو
في القامرة: المفتش يصعد للسيارة ويراه ويتعرف عليه، ثم يسأله نفس السؤال
التقليدي: "ماذا تطعم دجاجك؟"، نظر البدوي إلى المفتش مليا ثم استجمع
قواه وقال له: "شوف أمسيو، هاد الدجاج كانخليه ياكل اللي بغا، في الصباح كنحط
ليه الفلوس ديال الماكلة في الزريبة، وهو كايشري الماكلة اللي عاجباه".
لن أخبركم عن
رد المفتش، حتى استبين وأتعرف على رد الآباء والأولياء وجمعيات المجتمع المدني
العاملة في قطاع التربية والتعليم من جمعيات الآباء ونقابات المعلمين وغيرهم.
الوزير والوزارة ومعهم الحكومة رفعوا أيديهم على شكل Haut
les mains،
مستسلمين ولا حيلة لهم. الغريب أن كل هذه القوى الحية في المجتمع المغربي لم يبق
لديها أية قوة اقتراحية لطرح بدائل لما عجزت عنه الوزارة والحكومة، بل إن الجدل
الدائر الآن في المجتمع ينبئ بتخبط لدى
آباء وأولياء التلاميذ أكبر من تخبط الوزارة نفسها التي اختارت الهروب إلى الأمام.
المفارقة الغريبة أن لا أحد من الطرفين يجرؤ على الاعتراف بفشل تجربة التعليم عن
بعد وخصوصا في المراحل الابتدائية والإعدادية، وبالتالي فإن هذا الخيار لن يقبله
من يريد فعلا لأبنائه تعليما حقيقيا سواء في التعليم العمومي أو الخاص. التعليم
الحضوري فيه مخاطرة كبيرة بصحة التلاميذ وطاقم التعليم والإدارة، خصوصا إذا
استحضرنا النتائج الكارثية التي عرفها المغرب مؤخرا بعد الارتفاع المهول في عدد
الاصابات والوفيات. وسيكون من قبيل الإدعاء الكاذب بأنه ستؤخذ إجراءات وقائية لكي
يمر التعليم الحضوري في أحسن ظروف الوقاية.
ما العمل
إذن؟
المسئولية
يقتسمها الطرفان، وبالتالي فإن إلقاء الكرة في ملعب الآباء والأولياء يعد تهربا من
طرف الوزارة من مسئوليتها كوصية على القطاع. يمكن اطلاق حوار ونقاش جاد بين كل
الفاعلين في القطاع للوصول إلى صيغة معقولة ومرضية للجميع يراعى فيها بالأساس
سلامة التلاميذ وطاقم التدريس.
هل استنفذت
جمعيات المجتمع المدني العاملة بالقطاع كل قوتها الاقتراحية ولم يتبق لها سوى النقد والرفض؟ لماذا لا تساهم
الأحزاب الوطنية، وبعضها كان مكلفا بقطاع التعليم، بالبحث عن حل لهذا المشكل الذي
عبرت فيه وزارة التعليم بشكل غير متوار عن عجزها ومحدودية تخيلها؟
ماذا ببساطة لو تم تأجيل الدخول المدرسي شهرا أو شهرين إلى حين وضوح أكبر للحالة الصحية بالمغرب، وإفساح الفرصة لأفكار جديدة قد تساهم في حلحلة الوضع؟
عزيز رزنارة
دبي في 24
غشت 2020