-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

شعرية الحزن في مجموعة «الوجه الآخر للحلم» للأردنية نهلة الشقران

 


يقول محمد المحفلي: «لا يمكن قراءة السردية في مجموعة الوجه الآخر للحلم للقاصة نهلة الشقران بعيدًا عن الشعرية المسيطرة على كل مفاصلها، حتى لتغدو في الكثير من الأحيان قصائد ذات إيقاع سردي، أكثر من كونها قصصًا ذات إيقاع شعري». ويضيف: «استطاعت أن تقدم لغة سردية مختلفة، تبني السرد بلغة الشعر، وتسمد الشعر في الحركة السردية، فيبدو لنا فنًا جديدًا لا يعكس الواقع أيضًا، كما أنه لا ينسلخ كليًا عنه».

وكل قارئ لهذه المجموعة سيخرج بمثل هذا الانطباع؛ فالمجموعة مميزة بلغتها الشعرية الفاتنة، وسردها المنساب كالماء الرقراق بهدوء وجمال وصفاء آسر، تأخذ بلب القارئ، وتستحوذ على إعجابه، وتطربه وإن لم يدرك بعض مراميها وأبعادها.
ستتناول هذه المقالة شعرية التعبير عن الحزن والألم في بعض قصص المجموعة، علمًا أن معظم قصص المجموعة لا تخلو من مسحة ألم أو حزن، وهذا ليس انحيازًا للألم والحزن، ولكن لأن لحظات الفرح والسعادة قليلة، بينما تغلب على حياتنا الأحزان والآلام والمكدرات والخيبات.
قصة «سنونو الغياب» هي الأبرز، فقد جاءت لوحة شعرية من الحزن والألم، وهي أقرب للشعر منها للسرد؛ بما حفلت به من صور ولغة فاتنة، وتعابير مدهشة، وتشبيهات بليغة، وانزياحات لغوية، وإبداع لافت، حيث تناولت القصة حزن أم ثكلى على ابنتها في لحظاتها الأخيرة على فراش الموت بسبب المرض، وعاصفة المشاعر الجياشة من ألم وفقد وحزن وفجيعة، بالإضافة إلى أثر المرض وبصماته، ومن الجمل الشعرية المعبرة عن هذه المشاعر: «تعتصر ما بداخلها من ألم، تتوقد الذكرى في قارورة حزن معتق، تتأرجح الآهات بين قافلة اليوم وتاريخ الأمس، تحتبس الصرخات في فمها المكتوم، تقبع في زاوية مظلمة في بيتها، الذي لا يُشتمّ به إلا صقيع الوداع». «وجه أبيض شاحب، مسروق اللون، متلوٌّ بين جدران جرداء لا حياة فيها». «هززتها.. أعدتها لواقع ترفضه، وضعت يدي لتلامس قاع بئر في صدى الرفض والجفاف». «طبول المطر بدأت بالهدوء… ووقع أقدام الغروب يتسلل إلى نافذتها.. شمسها هاجرت منذ سبع سنوات.. وجاءتها الآن ملوحة للوداع الأخير.. ضحكاتها المسلوبة عنوة ترن في أذني». «رأيت ثلوجًا في عين أمي.. صوت ذئب يعوي.. صوت أنثى تركض.. اعتذار السماء للأرض القاحلة.. رأيت أمي وما عرفت وجهها». «خرج صوتها لاهثًا.. جاريًا.. يبحث عنها فيها.. غلظة حروف لم أعهدها فيها.. دموع انهمرت لتعانق آخر الهطول في مساء رمادي اللون.. وجه خريفي يعلن قدوم اليباس والجفاف وتساقط الأوراق». «تهدل العتمة من جديد». «سأخترق خلاياها، وأصب روحي فيها». «سألفها بصدري من برد الشتاء.. وأحميها بعيني من وهج الشمس».
في قصة «قميص يوسف»، تخلف «هديل» وعدها، وتتزوج غيره، وبعد ألم وحزن، ينتبه إلى «سلمى»، وعندما استرجع حركاتها وسكناتها، تأكد له أنها تحبه، ففاتحها، ولكنها رفضت أن تكون رائحة لهديل. يقرأ الشعر من أجلها، ويتقرب منها، ويصارحها بحبه وهيامه، لكنها تعتذر بصيغة الثأر: «كن لي حبيبًا… حبيبا بعيدًا كما كنتُ منذ أربع سنين في العذاب والشوق والحرمان.. حبي العزة والكبرياء والصمت… لو أنك نظرت صوبي يومًا لرأيتني». ومن التعبيرات الجميلة في هذه القصة: «أواه من وخز الكلمات، فإن لها حُمّى لا تجدي معها أي خافضة». «التحفت بأوجاعي ونفضت كل شيء في جسدي». «حملت ألمي، وسرت أشمّ خطاها في المكان وأهتدي بها». «بابتسامتها البريئة ضمدت الجرح بدون أن تدري». «سارت وسار القلب كغيمة مسرعة ثكلى أضاعت أمطارها». «أنا العطش يا سلمى والآن أيقن أنك ماؤه! أنا الشريد المنفي يا سلمى والآن احتضنت أصابعه حفنة تراب الوطن». «استقللت أول حافلة موصلة إلى قريتي، وصورة سلمى هي نظري الذي أبصر به».
طال انتظار العريس المنتظر في قصة «انتظار»، ومعها تترقب أمها بقلق، إلى أن جاء العريس بعد أن تجاوزت الثلاثين، ومن أجواء القصة والترقب والانتظار وما يرافقها من ألم وحزن وخوف: «دوّى صوتها في تلك الزاوية الكئيبة، تصبب عرقها بدون أن تعي، وتموز يدمي لهيب قلبها». «كانت تصب ما بداخلها من غضب في خيوط ملونة، وبإبرتها تلدغ قماشها الناعم، فتفرح لوجعه». «كانت ردودها جافة كجفاف أوراق العنب في وداع الأغصان». «أيسرق العمر؟ أم أننا من نقدمه سلعة رخيصة للمتسولين!». «هل يصبح الحرير أشواكًا بمرور السنين؟ هل يولد الغروب من رحم الشروق؟ هل يلف البياض اسودادًا مزروعًا بين خلاياه؟». «بخطوات بطيئة حملت ما بداخلي وسرت، ثقيلة سنيني، ثقل خطيئة لا تغتفر… صقيع داخلي لن يذيب ثلاثين عامًا هباء».

في قصة «ولحقت نفسي…»، يقع محمد ضحية للمقارنات والتشبه بالغير، بعيدًا عن استقلاليته، وشخصيته المتفردة، وذاته وما يناسبها، إلى أن ثار على ضعفه واستسلامه ونمذجته المجتمعية، فحقق ذاته، وانتقم من ضعفه، وأسعد والديه ومحبيه، ورفع رأسه عاليًا شامخًا. ومن أجواء القصة، يعبر عنه تأثير المقارنات والتنميط: «كلامكم سم كان يتسرب إلى جسدي طيلة سنين طفولتي، يدي ترتعش كلما همت بضرب أحدهم وقد أخطأ بحقي، ترعوي وتصب نيران الغضب في جسدي، يثقل كحمل مئة عام… يفتر ويذبل كزهر دحنون بري ما هوى فيئًا في قصر».
تثور الطالبة بصمت من أعماقها على أستاذتها في قصة «لست باكية»، هذه التي لا تدري أحزانها وما يعتمل فيها من جروح وآلام، فالأستاذة من أجل مرض تطلب منها أن تمسح السبورة، ولكنها لا تدري حجم الألم في دواخل من تطلب منها ذلك. ومن أجواء هذه القصة: «دموع تلف وجهها الحبيب كقطعة سكر، وبريق حزن دفين يسكن حدقتيها العسليتين». «مشوهة الزمن ترسمينني ولا مذكرة تحوي يوميات أنثى قحط بلا حبة قمح تزرعها، وحوضي من تراب الصحراء، والغول يحب الخبز، والبائع يتسول ثمن الدقيق الفاسد». «أفك رقعة وجهي كل ليلة لأزيح بها الذباب عن حوض أحلامه».
وثمة قصص أخرى، تحمل ألمًا وحزنًا لا يخفى في طياتها، ففي قصة «حصيرة» تفتخر خديجة بعريشتها وحصيرتها وفرشاتها الصوفية وطقم كاساتها المتوارث، وتنوي التباهي بها أمام صديقتها السابقة «رغدة» ولكنها تُصطدم، عندما تحضر بسيارة فاخرة، وثياب ملونة، وأساور ذهبية، وخاصة أسوارة «الحصيرة»، التي أحزنت خديجة، وأخذت تقارن بين حصيرتها وحصيرة صديقتها.
يعتمل حزن شفيف في أعماق المعلمة في قصة «واتهموني بأني معلمة»، فهي على الرغم من افتخارها بمهنتها وطالباتها ونشاطاتها، إلا أنه يحزنها عدم تقدير الآخرين لمهنة التعليم، وما تعانيه من ظروف حياتية واحتياجات لا يلبيها راتب معلمة. وفي قصة «سماء تنكرني»، حزن دفين يعانيه كل مغترب عن وطنه، وإن كان بين أشقاء عروبة وجغرافيا، فهو أيًا كان؛ سيكون مختلفًا، وافدًا، مقيمًا، سيكون الآخر!
وبعد، فإن «الوجه الآخر للحلم، وزارة الثقافة ـ2015 ـ 127 صفحة»، من المجموعات القصصية القليلة التي جمعت بين الجمال الفني الساحر، والمضمون العميق المكتنز بالرسائل والأفكار، وكل يمتح منها ما يشتهي! وكل قصة فيها لوحة جمالية مشبعة بالألوان والحركة والمشهدية البديعة، الذي يؤكد أصالة إبداع الكاتبة وتميزها، وتمكنها من فن القصة القصيرة، وقدراتها على تقديم المزيد. ونهلة الشقران تحمل درجة الدكتوراه في اللغة العربية، صدر لها أيضًا: «خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري» 2015، «أنثى تشبهني» مجموعة قصصية، 2015، «رحلة ابن جبير: دراسة تركيبية ووصفية» 2016.

٭ كاتب أردني

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا