سمحوا لنا اليوم بالتجوّل بعيداً عن «الكامب» الذين احتجزنا فيه منذ وصولنا. هو في الحقيقة لم يكن مخيّماً بالمعنى المتعارف عليه. كان عمارة عالية فيها شقق كثيرة، بطوابق عشرين، كما قرأت على لوحة المصعد. الشقّة منها عبارة عن غرفة ضيّقة ليست أكثر من خمسة أمتار في ثلاثة أمتار، بسرير وطاولة وفردة خزانة في الجدار، ونافذة تطلّ على أراض شاسعة غير مزروعة، لكنّ نباتات عشبية يابسة احتلّتها، فطغى اللون الأصفر إلى الأفق. نحو الجنوب، أرض مسوّرة بأسلاك شائكة، ممتلئة بحطام لمركبات نقل، سيّارات كثيرة، بلا واجهات، أو عجلات، وشاحنات عرجاء، وبقايا باصات بلا نوافذ أو سقوف… في جانب أقرب إلى مرمى نظري كانت هناك أسّرة حديديّة مركّبة فوق بعضها بعضا، أو مرميّة، متجاورة ومتعاكسة، مفكّكة أو بهيكل كامل بعضها بنوابض، وبعضها بقضبان وحسب، كلّها صارت خردة. منذ أن ألقيت نظرتي الأولى على المكان سمّيته مقبرة الآليّات.
يلي الغرفة باتجاه الباب مطبخ يتسع لطباخ غاز بعين واحدة، إلى جانب حوض لغسيل الصحون تعلوه خزانة صغيرة لوضع الحاجيّات الأوليّة، ومنه تدلف إلى حمّام بكرسي تواليت، إذا جلست عليه ستصطدم ركبتك الأولى حتّى لو كنت نحيلاً بباب المساحة المقتطعة للاستحمام، وركبتك الثانية بحوض المغسلة. كأنّ البناء كان معسكراً داخليّاً لجنود أو مدينة جامعيّة لطلبة.
لم أغادر هذا المكان منذ أسبوعين، إلاّ لاستلام وجبتي من الصالة الأرضيّة حيث توزّع ثلاث وجبات كلّ يوم. أصل في الساعة المحدّدة أنتظر في الطابور، ليس أكثر من عشر دقائق وأحصل على طعامي. الطعام جيّد في الحقيقة، ومتنوّع: في الصباح جبن ومربّى وخبز طازج، وزبادي مع حبّة تفّاح. والغداء غالباً ما يكون أرزّاً وخضراوات مسلوقة مطبوخة مع قطعة دجاج كبيرة، أو مع كرات اللحم. أمّا العشاء فهو حساء خضار أو عدس مع شريحة سمك وحبّة بندورة وخيار وقطعة جبن مطبوخ من نوع البقرة الضاحكة أو أبو الولد وما شابههما من منتجات هذه البلاد. لا أحد ينظر إلى أحد في الطابور. الجميع ينظر إلى الوجبة أو إلى من يوزّعها. الكلام ممنوع، ولماذا ينظر المرء إلى أناس شبع من تشابه ملامحهم وهيئاتهم في كلّ نقطة من نقاط تجمّع اللاجئين الدوليّة! وعمّ سيكون الحوار، حيث لا يمكن للمرء أن يمتدح شيئاً، أو يتذمّر من شيء، وقد استنفدنا الحديث عن الخوف والقلق، كما استنفدنا الأسئلة حول المراحل المقبلة أثناء الطريق. الآن ينتظر المرء أن يصل إلى محطّته الأخيرة وحسب. لا يريد أن يسمع عن تجربة أحد ولا عن مأساة أحد.
أثبتنا أهليّتنا للخروج في نزهة حول المخيّم، كلّ عشرة منّا محاطون بعناصر من الشرطة المحليّة، ثلاثة حرّاس أو أربعة حراس يراقبوننا عن بعد، أوراقنا في حوزة الإدارة، ومعظمنا بلا وثائق. المجموعة التي فرزت إلى هذا الموقع كانت هادئة، رجالا ونساء، صامتين متأملين، حتى الأطفال يلعبون بصمت، لم يرغب أحدهم بالتعرّف إلى آخر من عائلة أخرى، أو أن يشاكسه على عادة الأطفال. حاولت أن أتصرّف كما كنّا نفعل دائماً، ابتسمت لطفل عمره سنة تقريباً، تحمله أمه على كتفها، افتعلت حركات بفمي ثمّ بسبست له، فأشاح بوجهه عنّي ونظر إلى خلف كتف أمه حتى لم يدفن رأسه في رقبتها نشوة أو خجلاً من الدعابة، ولم يصرخ مذعوراً من حركات الغرباء!
ابتعدنا أمتاراً عدّة عن البناء على طريق ضيق مسفلت حديثاً، تفوح منه رائحة القار التي هيّجتها حرارة الشمس، إذ ظلّت تضربه طوال النهار، وها هي الآن توشك على الغروب، وتصير الساعة السابعة والنصف. ظهر أمامنا تجمع لأحياء سكنيّة لم أكن أراه من نافذة غرفتي، التي تطلّ على مقبرة الآليّات فحسب، فوجئت وغمرتني غبطة، لسنا إذن في عزلة كاملة. العزلة تخيفني، وفي كلّ محطّة كنت أصل إليها كنت أفكّر في أنّهم سيجمّعوننا في مكان واحد بعيداً عن السكّان، ليقصفونا أو يبيدونا بالأسيد فيتخلّصوا من أعبائنا تماماً.
تفرّقنا والتفت إلى اليمين لأدخل في حارة، بيوتها متلاصقة واطئة، تحيط بكل بيت حديقة أماميّة، صفّ بيوت على اليمين يقابله صفّ على اليسار يفصل بينهما شارع عرضه حوالي أربعة أمتار، ولا تبين نهايته على مدى نظري. البيوت بسقوف قرميديّة حمراء، وتبدو قديمة لون معظمها باهت، الجدران فاتحة بيضاء أو سكريّة، طلاء هذا البيت مثلاً مقشّر، وذاك غطّي جداره البيتونيّ بأصابع من البلاستيك الأبيض لعزله عن الرطوبة، كما كان الكثير من أصحاب البيوت في البلد يفعلون.
صحون الستلايت تعلو الأسطحة المائلة، تلتمع مثل رايات تعلن السلام! الحدائق نضرة كثيفة الاخضرار، يتدلىّ اللون الأخضر نحو الأرصفة فيسرق النظر عن أيّ شيء آخر سواه. الأغصان المتشابكة مترعة بالورود، حمراء وبيضاء، وتفوح منها عطور ليست بالفلّ ولا بالياسمين، إنّما رائحة غابة، رائحة أعشاب عطريّة مع رطوبة، تتجاوز حاسّة الشمّ نحو الدماغ، تضرب بقوة في الرأس. الورود تشبه الجوري الذي نزرعه في بيوتنا لكنها أكبر، متشابهة، حمراء مائلة للبرتقالي، أو بيضاء بريئة، لكن حين اقتربت من أحد العروق الكثيفة الدانية نحو الشارع، حيث أسير وتمعّنت في إحداها، وجدت بياضها ليس ناصعاً ففي البتلات لون زهري وأخرى فيها اصفرار، وتساءلت إن كان لها رائحة، أو إن كانت الرائحة العبقة من حولي تأتي منها تحديداً.
في حديقة بيتنا التي كانت غنّاء كانت هناك ورود جوري حمراء وزهرية وبيضاء، تتدلّى أيضاً أغصانها نحو الشارع، لكن ليس لها رائحة، أمّي كانت تقول: «منظر عالفاضي» الوردة ذات المظهر المثاليّ لن تكون عطرة! أمّي كانت مدرّسة لمادّة العلوم، قتلت بقذيفة أصابت المدرسة التي عملت فيها لعشرين سنة. كانت رائحة جنينتنا تصل إلى آخر الشارع، تفوح بالياسمين وزهر الكولونيا وإكليل الجبل. كنت أنوء بالياسمين، ففي كل صباح عليّ أن أكنس أرض الحديقة والرصيف أمام البيت وأرمي الياسمين في صفيحة الزبالة.
أوراق يابسة، وزهرات بيضاء عمرها قصير تجففها الشمس ما أن تتفتّح، فتتساقط. العابرون يتوقّفون ويجمعون حزماً بأوراق خضراء، أو يقطفون الوردات ويضعونها في منديل. منهم من يقطف وهو يمرّ غير مكترث بفكرة الزهرة، هو فقط يمد يده لينتش الشيء أمامه. حين تعرّش الشتلة أكثر فأكثر تقطع طريق العابرين، فإمّا يدفعونها فتتساقط زهراتها وأوراقها اليابسة، بعد ان أكون قد نظّفت الرصيف، وهذا يعني أنه يتعيّن عليّ القيام بجولة جديدة من الكنس، وإمّا ينزلون عن الرصيف.
هناك من كان يتوقّف ينظر إلى شجرة الورد الجوري ذات اللون الأبيض أو الوردي، ينتقي إحداها، يقطفها، بدون أن يشعر بأنّ أحدنا يجلس في الحديقة ويراقبه… ثم يمضي. كنت أتساءل ما الجدوى من قطف وردة والرحيل بها! وحين كان يشمّها فلا يجد لها رائحة كان يرميها وسط الشارع! الجوري الأصفر هو النوع الوحيد الذي يعبق بالرائحة في حديقتنا التي لم تكن مشذّبة أو مهندسة، أبي يقول: الحدائق تزيّن نفسها، وتغفر كلّ الأخطاء المعماريّة التي قد يرتكبها البشر أو الزمن. أبي كان معماريّاً قتل في قصف (الناتو) على المدينة. مشيت بضع خطوات نحو الأمام لأصير أمام سور حديقة أخرى، شجيراتها تتسلّق القضبان فتتدلّى الأغصان المورقة بكثافة نحو الشارع، تتناثر على صفحتها وردات الجوري وهذه المرّة صفراء، وكانت إحداها دانية، بحوافّ برتقاليّة ورائحة فوّاحة، تكاد تكون شمساً صغيرة تستعدّ للأفول، إذ ستذبل بعد يومين على الأكثر وتصبح نصيب الفردوس، كأنّ الوردة حقّاً من حديقة بيتنا الذي دمّره القصف قبل سنتين، ولم يبق من ساكنيه على قيد الحياة سواي.
بلا تردّد أو وجل، امتدّت يدي مستعينة بالأخرى فقطفت الوردة، قرّبتها من أنفي ملهوفة لرائحتها، وإذ بقبضة الشرطيّ على معصمي، وضع القيد فيه وسحبني خلفه كدابّة، وأخرجني من الجنّة من دون أيّ مقاومة منّي ولا حتّى بحرف. في (الكامب) فكّ وثاقي، وقبل أن أصعد إلى حجرتي قابلتني المرشدة المسؤولة عنّا في مكتبها في الطابق الأرضي.
وبّختني، وأشارت إلى أنّ تصرّفاً كهذا كان سيؤدّي إلى مشكلة كبيرة، لو رآنا أحد أصحاب المنازل أو لو اشتغلت أجهزة الإنذار المثبّتة على الأبواب غالباً، ولكنت حرمت من الحصول على أوراق الإقامة، أو لخضعت لاستجواب يتهمني بالسرقة…
كنت أهزّ رأسي، وأنتظر أن ينتهي مشهد التوبيخ بأيّ نتيجة كانت. وعدت ألاّ أكرّر الغلطة الخطيرة، وصعدت إلى فوق، ولم أنزل لآخذ حصتي من العشاء. أخرجت الوردة الصفراء التي كنت قد خبّأتها لحظة قبض عليّ الشرطيّ في جيب سترتي، ساقها الرفيعة كان قد انكسر جزؤها السفليّ قليلاً، وبعض بتلاتها تساقط، فقطعت الجزء المكسور، وملأت كأس ماء، ووضعتها فيه. ارتديت ملابس النوم، حملت الكأس إلى الطاولة الصغيرة بجانب النافذة المفتوحة على مقبرة الآليّات، وجلست إلى الكرسيّ الوحيد في الحجرة، ذي المسند الخشبيّ الطويل، وقضيت الليلة بكاملها أنظر إلى الوردة.
- كاتبة وروائية من سوريا