عرف عن الفيلسوف الألماني فريدريك فيلهيلم نيتشه (1844 - 1900) وهو ناقد ثقافي وشاعر وملحن، وباحث لغوي، وكان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث، عرف عنه رفضه لثوابت الايمان المسيحي ولكل الأخلاق السائدة.
أكد نيتشه في فلسفته انه يرى ظاهرة مهمة وبالغة الخطورة على العقل البشري، تسود بعض الفئات الاجتماعية المتعصبة لفكرة او لشخص ما يدغدغ ميولهم، وقد أطلق نيتشه على هذه الظاهرة تعبير "أخلاق القطيع" لأنها تطرح أطيقا غير طبيعية من وجهة نظره، تتميز بسيطرة فكرة او نهج او زعيم على مشاعر الجمهور وتفكيره، أشبه بتيار ديني يسود فئة من المؤمنين.
ذهب نيتشه نحو ايجاد أطيقا جديدة بعيدة عن الأطيقا الكنسية (الدينية)، سماها "الرغبة بالعظمة". وان الشخص الوحيد غير العادي الموجود خارج "أخلاق القطيع" هو النجم الأعلى وأطلق عليه لقب "السوبرمان". وحسب نيتشه هو شخص (أو مجموعة) مميز او مميزين، يظهر او يظهرون كل عدة عقود أو قرن، السوبرمان كما كان يعتقد نيتشه هو شخص (أو حزب أو منظمة أو عصابة مافيا مثلا) يحق له حسب عقله، ان يعبر بحرية عن قوته الطبيعية وتفوقه على القطيع، وينتصر بكل الأحوال بقوته الخارقة ولو واجهته جيوش مدججة بالسلاح.
لذا ليس بالصدفة ان نيتشة كان المفضل لدى زعيم الرايخ النازي ادولف هتلر، الذي قاد شعبه وشعوب العالم لكارثة انسانية رهيبة من أجل ابراز عظمة الفوهرر (الزعيم النازي)، او رغبة الفوهرر بالعظمة، بكونه السوبرمان لأرقى عنصر اثني ظهر فوق الأرض (الجنس الجرماني). وما زلنا نعاني من هذه البدع بأشكال مختلفة حتى اليوم، حتى من ضحايا السوبرمان النازي!!
وقد اتهم نيتشة بكل شيء سيء في المانيا الجديدة، من العسكرية المجنونة وحتى الملفوف المكبوس بشكل لا يرضي ذوق الطعام عند الألمان.
هناك اخطاء شائعة حول علاقته بالنازية، العكس هو الصحيح، ما جر لهذا الخطأ فكرته عن الرجل السوبرمان (وهو لم يقصد هتلر اطلاقا)، بل رفض النازية، اما إشادته بالإنسان السوبرمان، كان قصده الانسان المتحرر من كل الفكر الديني والملتزم بالعلم وليس بخرافات الدين. انتقد المسيحية من منطلق نقده للدين، ودور الدين السلبي اجتماعيا. وله قول مشهور: "الخطيئة بحق الله كانت من أكبر الخطايا، لكن الله قد مات، بذلك ماتت الخطايا أيضا، الشيء المخيف أكثر الآن ان تخطئ بحق الأرض". وقال نيتشه بانتقاده للنازية: " أرتجف عندما أفكّر في كل هؤلاء الأشخاص غير الجاهزين بعدُ لتلقّي أفكاري، ومع ذلك سوف يستغلّونها لسلطتهم"
بالطبع كلنا نعرف مصير الرايخ وزعيمه ومصير المانيا النازية وايطاليا الفاشية واليابان العسكرية، ومصير شعوب اوروبا وآسيا وشمال افريقيا وانعكاس فكرة السوبرمان على سياسة العالم حتى اليوم بنسختها الأمريكية، التي أبقت قصدا دول الشرق ما دون الرقي ليبقى "السوبرمان الدوري" مسيطرا وعظيما، أحضروا لنا المتفوق الدوري ونحن نيام وما زلنا، جاء هذا المتفوق على شاكلة الحركة الصهيونية ليبقى العرب في إطار القطيع ولكنه ليس موضوعنا الآن !!
المستهجن ان الأفكار النيتشية التي تبناها الرايخ الألماني لا علاقة لها بنيتشه وفلسفته، التي رفضت الفكر النازي الإستعلائي الذي قاد شعوبا عديدة الى الانحطاط، وأبقي شعوبا في قاع الرقي بأوهامها القاتلة انها تملك أرقى حضارة، وأن النيتشيين الجدد يحركهم ظنهم انهم يتمتعون بالتميز البشري عن بقية أبناء شعبهم وتحركهم مشاعر الاستعلاء على القطيع.
الموضوع ليس سياسيا فقط وليس اجتماعيا فقط. هذه الظاهرة تنتشر على الأخص بين أشباه المثقفين المتكاثرين في ظل أزمة الثقافة العربية والفكر العربي، وسيادة الفكر الغيبي، فكر الخرافات والشعوذة، فكر تغييب العقل وتغييب المنطق، فكر التهريج بلا أي حس انساني أو القدرة على فهم سليم للواقع والوسائل النضالية الأكثر ملاءمة وتأثيرا في ظروف بالغة التعقيد والتركيب.
هناك حقا من يملك قدرات فكرية قد تتطور لو تخلص من الحلقات المغلقة التي تقيد فكره، لكن مجرد دخول النيتشية المشوهة حسب النهج النازي، الى فكرهم وسيطرتها على عقولهم وتصرفاتهم، بوعي او بدونه، تحيلهم الى نرجسيين مغرورين، مضرتهم أكثر من فائدتهم وصمتهم وعزلهم مكسبا كبيرا لمجتمعاتهم.
من المؤسف أيضا ان الكثير من المثقفين في أيامنا تبنوا التشويه للنيتشية كما شوهها النازيين، متناسين انهم عاشوا جل عمرهم كأفراد من القطيع ولم تتحرر ذهنيتهم من روح القطيع. وان النيتشية التي تبنوها هي التشوية الهتلري لفلسفة نيتشه، التي أوهمت بعض القيادات انهم سوبرمانيون في كل نشاطهم وعقائدهم.
من جهة أخرى يعتبر العديد من الباحثين ان فريدريك نيتشة من الفلاسفة غير العقلانيين، لأنه دعا في وقته الى القضاء على القواعد الأخلاقية القائمة ونعتها باللاأخلاقية. مشكلتهم انهم لا يفحصون جوهر الأخلاق التي قصدها نيتشه. ولماذا كان يرى بالفن والأخلاق مجرد ترياق من سموم "النيهيلية" (أي العدمية القومية)،وما علاقة ذلك بصعود نجم النازية وثقافتها في المانية الهتلرية، مما دفع نيتشه لرؤية ان القيم الرفيعة تفقد قيمتها وتوازي حسب تعبيره الانحطاط، اتهم بذلك الأخلاق الدينية والنظريات الانسانوية على حد سواء، بما في ذلك النظريات الدمقراطية والاشتراكية التي بدأت تنتشر في فكر النهضة الأوروبي .
طور نيتشه مذهب "ارادة السلطة " حيث يسيطر الأفراد " الأقوياء " القادرين على خلع الحواجز الأخلاقية، هكذا توصل الى فكرة الإنسان الأعلى (السوبرمان) نافيا الأخلاق تماما، وهي ما أعجبت كل الحركات الفاشية وجعلت من نيتشه (رغما عن انفه) زعيمهم الروحي وفيلسوف منهجهم القمعي والديكتاتوري الاستبدادي والكارثي على شعوبهم في الحساب الأخير. وكان رد ميتشه مغلفا ربما بسبب كونه مواطنا المانيا قد يتعرض للقمع النازي، قال في انتقاده المغلف لتبني النازية لأفكاره وتشويهها: "أرتجف عندما أفكّر في كل هؤلاء الأشخاص غير الجاهزين بعدُ لتلقّي أفكاري، ومع ذلك سوف يستغلّونها لسلطتهم"!!