كارثة على العقل عندما تحلُّ به مصيبة كالموت فلا يتأثَّر، وأنَّ الميِّتَ ولدٌ أو زوجٌ، فيخلط المادي بالمثالي، بالحسِّي، بالتجريبي، بالواقعي، بالإلحاد، بالتنكُّر لعلاقاته الاجتماعية؛ أو يتحلَّل منها. هذا ما فعلته الأرملتان، الممثلتان رغد ديب ومها الشيخ، بعد أن دفنتا زوجيهما، اللذين توفيا في لحظة واحدة، ووري جسديهما في مقبرة واحدة، ووقتٍ واحد. ومن ثمَّ التقيتا في حانة أو مقهى واحد، كأنَّ الواحدة منهما ظِلُّ الثانية، أو مرآتها. تبدآن بالتعارف وتنسلان من حقيبتيهما أقلام الزينة وتدهنان شفتيهما و..، بما يحرِّض الشهوة واللذَّة، كأَّنَّهما عاهرتان، كلٌّ منهما تلعب دور العشيقة فنلمس غيرتهما، وهما متَّشحتان بلباس أسود، وكأنَّ الميِّت أو زوج كلٍّ منهما هذا الذي مات منذ ساعات في مبارزة، دودةٌ أو حشرة تخلَّصتا منها، ويا للسعادة.د. سامر عمران في عرضه (الأرامل) نص الكاتب البولوني سلافومير مروجيك، 1930- 2013، من ترجمته وإخراجه، كمشروع تخرُّج لطلاب جامعة المنارة باللاذقية، يُحيلنا إلى واقع آل فيه البشر إلى التخلي عن العقائد التي لم تحترم آدميتهم رغم إدِّعائها بذلك، وقد تفسَّخت أرواحهم من جور الحياة الاقتصادي والسياسي والثقافي، فصاروا غير آبهين لما يقع عليهم من فجائع وكوارث؛ أو هي (العبثية) بعد الدادائية والوحشية والسوريالية والواقعية الاشتراكية؛ عبثية رائدها صموئيل بيكيت، 1906- 1989، ضدَّ كل ما هو منفِّر وغامض ومستبد بحياة الإنسان. يجب أن نعبث؛ نعيش العبث، فلا أحد يُجرِّمُنا أو يُعاقبنا عليه. فأن تنقلب أو تتظاهر أو تنتقد الدولة، كان ما كانت عليه عقيدتها وربُّها، فأنتَ مُعرَّضٌ للاغتيال أو الإعدام بجناية الإرهاب ومساحيقه.
أرملتان؛ لكن ليس كما فلاديمير وأستراجون بيكيت، أرملتان فقدتا البطولة، فلا شيء يمكن أن تفعلاه أمام حالة الاستلاب والشروط غير الإنسانية التي نعيشها. أو كأنَّ العبثية هي ردُّ فعلٍ وإن بدا غير مبالٍ- إنَّما ضدَّ الفوضى، أو لنقل ضدَّ التدمير ما يُسمَّى الخلاَّق!!، لقيم الجمال الإنسانية؛ الأرملتان الممثلتان رغد ديب ومها الشيخ والعشيقة الأرملة الثالثة لين أنجام والنادل الليث الكحيل يتمردون فنيًا- في المسرح ملجأهم الأخير، على العقل الشمولي الذي يحكمنا. هم لا ينتجون ثقافة مضادة، ولا وعيًا مُضادًا. هم يتمردون ليستردوا حقوقهم الإنسانية من القوَّة الأعظم، القوَّة الأحادية وأولادها وأحفادها ووكلاؤها الحصريون في الدول الكبرى والصغرى وبسخرية وهزء، هؤلاء الذين يحكموننا بسيفها وبسطارها. وهذا ما يعمل على تجسيده الكاتب البولوني سلافومير مروجيك في مسرحياته، يعبث ويسخر ويهزأ من هذه القوَّة الأعظم وفراخها.
عبث؛ عبثية. هو موقفٌ فلسفي ضدَّ تحنيط الإنسان، هو ردُّ فعل ليحرِّرَ الإنسان ذاته. مروجيك كما بيكيت ويونيسكو؛ شخصياتهم ليسوا أبطالًا، لكنَّها تسأل: أين نعيش. وهل نحنُ (إنسان) الماضي أم الحاضر أم المستقبل؟ مَنْ نكون؟ ألَمْ نُخلَق- كما تقول الكتب السماوية على صورة الله؟ الإنسان في صورة الله، الله بحاجة إلى الإنسان، الإنسان بحاجة إلى الله. لماذا يتمُّ إخضاعنا وإذلالنا. مَنْ هذا الذي يُفوِّض نفسه باسم الرب فيُخضعُنا لذاته ويحكمنا كمجرمين، فيحوِّل عدا السجون الصغيرة- الأرضَ إلى سجنٍ كبير. المقهى الذي تدور فيه صراعات الأرامل هو انعكاس بشع لهذا السجن، هو سجنٌ على شكل مقهى، وإذا كان وجودهم من أجل استعبادهم، بمن فيهم هذا الأزعر الذي شقَّ فكي تمساح طوله سبعة عشر مترًا– أدَّى دوره الممثِّل خالد عضيمة- التاجر أبو القوَّة العضلية الذي يتزيَّن بالجهل والحماقة، والمثقَّف الفيلسوف- أدَّى دوره الممثِّل عقيل سليمان- وكانا قد تعاركا وتبارزا بعد أن وقعا في غرام الأرملة الثالثة فيموت المثقف بسكتة قلبية من خوفه، فيما يموت التاجر بعد أن تزحلق بقشرة موز!. فهم يريدون أَنْ يُترَكوا، فيسيرون في طريقهم لوحدهم. هم قوَّة تعبث بحريتها الشخصية، وليس بحرية وأراضي القوَّة الأعظم التي تُنَظِّر وتستغل وتقهر وتقمع.