على الرغم من أن سعيد الكفراوي (1939- 2020) من أبناء عام 1939 إلا أن مجموعته القصصية الأولى «مدينة الموت الجميل» لم تصدر إلا في عام 1985، أي بعد أن نيف على الأربعين. ومعنى هذا أنه لم يتعجل النشر كغيره من الكتاب، لذا ينطبق عليه مفهوم الأديب النابغ، النابه، الذي تظهر عليه إمارات الإبداع في سن متأخرة، فهو بسبب ذلك يختلف عن مراهقي الكتابة، ممن لا يملكون من عدتها سوى الإسراع في النشر، ومداجاة نقدة الأدب من الوعاظ والمداحين.ففي عام 1988 نشر الكفراوي مجموعته الثانية «زبيدة والوحش» وتوالت مجموعاته، ففي 1989 صدرت «سدرة المنتهى»، وفي عام 1993 ظهرت «بيت للعابرين»، وفي عام 1994 ظهرت مجموعة «مجرى العيون» و»دوائر الحنين» في عام 1997، وأخيرا «البغدادية» 2004، وقامت مؤسسة فنك للنشر في الدار البيضاء بنشر مختارات قصصية من آثاره، قدم لها الناقد الأديب محمد برادة، بعنوان «كشك الموسيقى» 1997، أما دار الشروق في مصر، فقد أصدرت مختارات من قصصه القصيرة في نحو 400 صفحة بعنوان «شفق ورجل عجوز وصبي» 2008.
ومن يقرأ قصص سعيد الكفراوي القديمة منها والمتأخرة، يشده ما فيها من تركيز شديد على المشهد السردي دون غيره من عناصر البنية القصصية القصيرة. ففي قصة بعنوان «سيدة على الدرج» يتوقف بنا الراوي عند كل جزئية في المكان، ذلك الذي تجري فيه حكاية الراوي مع السيدة الأرملة التي تشكو الوحدة، وتتوق لمعاشرة الرجل الذي يقيم في الشقة التي تقع فوق شقتها مباشرة. ينزلق الرجل متسللا من علٍ نحو الأسفل بخطى وئيدة محاذرًا أن تصدر قدماه صوتا يوقظ الجارة، التي ما إن تحس بخطاه ووقعها على الدرج الرتيب حتى تبارد لفتح الباب، وهي بملابس النوم، وكأنها ترصده، وتراودهُ في تغنج لا يقوى على مقاومته ومقاومة إغرائه. لكن هذه الرغبة سرعان ما تنطفئ لكونه مؤدبًا أولا، وثانيًا لأنه يخشى أن تلاحظ زوجته شيئا مما يثير زوبعة في البيت، فتغدو حكايته مع تلك الأرملة «حكاية لن تنتهي».
وتنسل مشاهد القصة خيطا خيطا، وإذا بها تتضمن وقائع عن الزوج الذي رحل مذْ عامين، وعن الرحلات التي قاما بها، وعن الدنيا الواسعة التي شاهداها، والحكاية تلد الحكاية، والذكرى تلد الذكرى، والرجل لا يني يقاوم هذا الإغراء الذي تبوح به السيدة بكلمات تجمع بين الجراءَة والخَفَر: «عامان وأنا أقاوم.. الأمر.. أقصد. و.. أنت جارٌ طيب.. تقدِّرُ ما أنا فيه.. يعني أنت رجل… و.. أقصد.. يعني»، مثل هذه التأتأة في الحوار تتبعها بسمة فاترة، والعينان اللتان تتوقان للحبّ يشعّ منهما الحنان. ينسل الرجل للداخل تاركا يده لتسحبها وتسحب الرجل الطيب، حيث الزوج الراحل يبحلق به من صورة معلقة على الجدار إلى جانب القديس، وزهرية تنبثق منها سنابل القمح الذهبية. أسلمها يده لتجذبه نحو الشقة المفتوحة على البحر الذي يشتد موْجه.
وهذه العبارات، ولاسيما الأخيرة منها تفصح بطريقة غير مباشرة، عن إذعان السارد، ووقوعه تحت تأثير الضغوط التي يتعرض لها من هذه الأرملة، ضاربا عرض الحائط بجل ما فطر عليه من أدب جم، ومن وفاء نادِر لزوجته التي تغُط في سبات عميق.
ويتوقف القارئ – والدهشة لا تفارقه – أمام قصة أخرى منتبهًا، بل ملتفتا لرصده ملامح الشخوص، فهو كالرسام الذي يتخذ من الكلمات ألوانا، وخطوطا، تُجلّي ملامح الأشخاص في الحالات التي يتكلمون فيها أو يقومون بأعمالهم المعتادة. فهذا مشهد يرويه طفل عن جده في قصة «تلة الغَجَر»، ازاح بيده حصى الأرض. ثم رفع عباءة الجوخ، وفرشها في مد الظل. وضع العمامة على الفرع الناتئ في التوتة. استلقى على العباءة. ووضع ذراعه اليمنى على عينيه. وبدت لحيته كالقطن المنْدوف». يبدو لنا أن الكاتب مع إفراطه في سرد التفاصيل، كأنه لا يتخلى عن مبدأ الاقتصاد في الكلمات، والشح في تتابع العبارات، فهي سبع جمل لا تزيد، ولكنها تكفي لرسم هذا المشهد الكاريكاتيري لنموذج مصري نراه ونشاهده باطراد في الأفلام والمسلسلات. ويقول الراوي نفسه راسِمًا بروتريه لجليلة الغجرية بعبارات من النوع ذاته «خطوط الوشم الثلاثة على الذقن. والنقطة خضراءُ بجانب الأنف السَرِح. خالٌ للحسن مثل زبيبة لا يمحوه الموتُ نفسه. الحَلَقُ الهلالي يهتز بهزة رأسها فيضوّي. وعيون بكُحلٍ ربَّانيٍّ سارح فيها الغموض، وبريقها في قلب أمي، وخالاتي، سرٌ من الأسرار». ولا شك في أن هذا المشهد يتمخض عن بروتريه لتلك الغجرية، وهي تضرب بالرمل، وتخبر الآخرين بما يقوله (الودع)، بورتريه تم رسمه بكلمات في غاية البساطة والحميمية والألفة.
والكفراوي، في جلّ ما يرويه، يطغى عليه الراوي المشارك، أو السارد بضمير المتكلم. وهذا المتكلم قد يكون طفلا تارة، وقد يكون رجلا تارة أخرى، فقصة «تلة الغجر» المذكورة يرويها صبي قرأ عن أحمد عرابي في كتاب التاريخ. أما في قصة «عريس وعروس» فإنَّ الراوي فيها طفل هو الآخر، لكنه يلهو مع ابنة عمه مديحة، وشقيقته، ويؤدون اللعبة المفضلة لدى الأطفال، وهي لعبة عريس وعروس. تنتهي هذه اللعبة بمشهد غير متوقع يأخذ بأنفاس القارئ، وهو المشهد الذي يجري فيه ختان الطفلة مديحة، وانتزاع خصيتي الصبي الراوي. ولم يشفع له، ولا لمديحة، تدخُّل الأب، وتكراره لعبارة «دول عيال بَرْضُه» فالصبي الذي استسلم في نهاية الأمر لا يني يتأمل الكفّ التي تمتد إلى خصيتيه اللتين يراهما متصلتين بشرايينه فتقوم بانتزاعهما، فيما صراخه يختلط بصراخ الأنثى، وهي تختن.
أما السارد في «قصاص الأثر»، وهي قصة يمحو فيها الكاتب الجدار الفاصل بين العقل والجنون، فهو أيضا بطل القصة بالمعنى المجازي، لا الحقيقي، كون هذا السارد لا يتصف بأي صفة من صفات الأبطال. وهو رجل شغوف بالنحت والنقش والحفر، وهواياته هي الكتابة على الخشب، لذا يقوم بانتزاع القطع من البيوت والمحلات ليحفر عليها ما يشاء من التواريخ. وقد ساقته هذه الهوايات لما يُعد تورطا مع الحارة، فعندما أبصرته سيدة من سيداتها، وهو ينتزع قطعة من الخشب، صاحت بأعلى صوتها (حرامي… حرامي) ولم يدر كيف تجمع الخلق حوله بمثل تلك السرعة، وهم يرددون بأصواتهم الغاضبة حرامي.. حرامي.. وانهال عليه بعضهم باللكمات والركلات.. وساقوه بالقوة إلى مخفر للشرطة، وما هي إلا لحظات حتى تمكن شاويش القسم من التعرف على الحقيقة، فالرجل ليس لصا، وإنما هو مجنون. ولم تكن هذه هي الصفة الوحيدة التي تصنف الرجل في المساطيل، فبعد أن اجتاز شارع هدى شعراوي، رآه أحد التجار وهو يحدق بالمعروضات من أثاث وتحف في شغف تنم عليه عيناه، نصحه بالذهاب إلى المزادت التي تباع فيها الكنوز النادرة. وساقته قدماه لإحدى الفيلات التي يقام فيها أحد المزادات. وفي المزاد جرَّب أن يكون كغيره من الناس، منتهزا ترويج الدلال لمشكاة أضاءت الليالي الملاح، ونورت قصور السلاطين، ومخادع النساء الحسان، فلما بلغ المزاد سبعة عشر ألفا ما شعر إلا وهو يقول عليَّ بعشرين ألفًا، فما كان من الدلال إلا أن بارك له بالمشكاة، وطلب منه مقدم المبلغ، فقال بثقة: امهلني إلى أن أحرِّر الشيك. وهمست سيدة قريبة لأخرى: لا بد أنه سمسار لأحد الأغنياء. ذلك أن هيئته الزرية، وفقره الظاهر، يحولان دون أن يصدق الإنسان أن معه من العشرين ألفا عشرين قرشا فحسب.
يتضح أن الكاتب يريد أن يقول في هذه الحكاية قولا غير مباشر، فالدلال، وأصحاب المزاد، من الغباء بحيث يصدقون أن مثل هذا الزري يملك مبلغًا كهذا، ثم ما الذي يدفعه لاقتناء مثل هذه المشكاة وهو على هذه الحال؟ وعندما انتهى الوقت، وحان موعد استلام الشيك، سألهما عن أي شيك تتحدثون؟ فاختلفوا في أمره، وهنا أيضا تظهر نباهة الكاتب، فهل هو نصاب مثلا، أم معتوه؟ وأخيرا قرروا سجنه في مخزن التحف. في هذا المخزن نجد العجيب الذي يلفت النظر لما يتمتع به الكفراوي من قدرة على لمح السعادة في مستنقع الشقي، وتتحول القصة من مشهد عادي إلى أحلام ورؤى. فالراوي يستمتع بوجوده في هذا المخزن، فقد جلس كما يقول بين مخلوقات الله في وفاق مشوب بالضنى. وراح يتساءل عن مدى ارتباطه بالأشياء المكدسة فيه، وفي الأثناء تتراءى له تلك المخلوقات تنهض من موتها في هيئة راقصة من البورسلان، وهي تهتز على وقع موسيقى آلة القانون. أما المشكاة التي نورت قصور السلاطين، فرآها تنبثق من السقف مضيئة منيرة، تدور في حلقات نورانية من غير زيت. وإذا بالراوي هذا كأنه سندباد بحري يغوص في عوالم غرائبية كالسندباد المعروف في ألف ليلة وليلة.
والمتتبع لما في المختارات يجد الكثير الجم من المشاهد التي تشبه ما ذكرناه، مشاهد كتبت بلغة يقترب فيها الكفراوي من عالم شخصياته المهمشة، والمسحوقة، الحالمة بعالم آخر، أو تلك التي تؤطر بإطار الطفولة المحْبَطة، أو النساء اللائي يقاسين الإهمال والحرمان. وهي لغة تكاد تمتزج بتراب الكفر، والدوار، والطين الذي تغوص فيه اقدام الفلاحين، والرمل الذي يمتد أفقه على تخوم القرية، أو البلدة. وهي في آخر المطاف لغة القصّة القصيرة التي تشعر القارئ بدفء اللقاء، وبالائتلاف النابع من كفاءَة التلقّي.
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن